إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الاثنين، 11 مايو 2015

شفاء الصدر في الرد على منكري عذاب القبر

شفاء الصدر في الرد على منكري عذاب القبر

المقدمة

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد:

قال الله تعالى: { وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ}. [ هود: 118 ـ 119]. 


  فمن حكمته تعالى أن جعل الاختلاف قائما بين الناس إلى يوم القيامة، فما يزالون مختلفين، ففريق هدى وفريق حق عليه الضلالة ، وفريق في الجنة وفريق في السعير، ولم يستثنِ من هذا الخلاف إلا أهل رحمته ومحبته.
وهذا الاختلاف كان في الأمم التي سبقت الأمة المحمدية ، ولم تسلم هي منه أيضًا.
يقول الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ : "افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة ، فواحدة في الجنة ، وسبعون في النار ، وافترقت النصارى على ثنتين وسبعين فرقة ، فإحدى وسبعون في النار ، وواحدة في الجنة ، والذي نفس محمد بيده لتفترقن أمتي على ثلاث وسبعين فرقة ، واحدة في الجنة ، وثنتان وسبعون في النار " ، قيل : يا رسول الله من هم ؟ قال : " الجماعة". [رواه ابن ماجة وصححه الألباني].
فالاختلاف والتفرق واقع في الأمة لا محالة،  وقد دبّ في الأمة من قديم ـ ولا حول ولا قوة إلا بالله ـ فظهرت فيها الفرق المنحرفة عن السنة، وكونت بدع وأصول محدثة في دين الإسلام، أصبحت تقاتل عليها على أنها أصل الدين!.
ولأن الأفكار لا تموت وإن مات أصحابها!، أخذت هذه البدع والمحدثات تظهر من حين لآخر على السطح كلما مُكّن لأصحابها، وقَصر أهل الحق في الرد عليهم.
فإنه لا يوجد بدعة أحدثت في دين الإسلام إلا ولأهل السنة والجماعة ـ الفرقة الناجية ـ ردًا عليها، وتفنيداً لشبهتاها.
وقد نبتت نابتة من هؤلاء المعتزلة في هذا الزمان أخذت على عاتقها نبش مؤلفات أهل الاعتزال، واستخراج الشبه والبدع منها، ونشرها بين المسلمين، فتارة يخرج منهم من ينكر شفاعة الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ لأهل المعاصي في الآخرة، وأخرى ينكرون السنة بالكلية ويزعمون أنه يكفينا القرآن فقط (القرآنيون!)، وأحياناً بالدعوة إلى الردة عن دين الإسلام بإنكارهم لعقوبة المرتد، مع عزفهم على وتر مساواة المرأة للرجل في الميراث، والتهجم على الحجاب، وتعدد الزوجات، وغيرها من الأمور التي لا تخفى أنها هدم لدين الإسلام العظيم!. 
ومما يدندن حوله هؤلاء هذه الأيام " إنكارهم لعذاب القبر!"، وزعمهم أنه خرافة، والكلام فيه مما يقنط الناس من رحمة الله!.
وبالطبع وجد هذا هوى عند النخبة العلمانية فسلطوا الأضواء على هذه القضية في وسائل إعلامهم، وزعموا أنه لا يوجد في الكتاب ولا في السنة إشارة إلى عذاب بالقبر،  و إنما الأمر بدعة أحدثها  بعض المشايخ من أجل حث الناس على الطاعة وترك المعاصي!.
ومن مكرهم أنهم يأتون بمأجور في فضائياتهم وعليه حلة أهل العلم، ليؤكد هذا الباطل أما بإقراره، وأما بإفحامه من قبل المذيع بأنه لا يوجد بين يديه دليل على كلامه، وإنما هو كلام ينسب لفلان وفلان من أحاد البشر!، إلى أخر مكر الترسانة الإعلامية التي لا يخفي خبثها وكيدها للإسلام وأهله.
ولخشية أن يفتن بعض أهل الإسلام بهذا المكر والدهاء، وأن يقع في قلوبهم ما يكون سبباً في خسرانهم، استعنت بالله ـ عز وجل ـ في إفراد رد ميسر على هذه الفرية، وإظهار أن عذاب القبر ونعيمه ثابت بظاهر القرآن، وصريح السنة، وإجماع المسلمين، والحس أيضاً.  

نسأل الله عز وجل التوفيق والإعانة، وأن يتوفانا على الأمر العتيق
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
وكتب
أبو صهيب وليد بن سعد


تمهيــــــــــد
فـ " تقديم العقل وتأخير النقل" بدعة ظهرت في نهاية الدولة الأموية، وازدهرت في الدولة العباسية، وذلك مع بداية ترجمة كتب الفلسفة اليونانية وغيرها إلى العربية.
فاستحسن بعض أهل القبلة ما يوجد في هذه الكتب، وبدءوا في استخدام هذه الجدليات التي تملئ هذه الكتب في نقاشتهم.
ولعل "واصل بن عطاء" أشهر هؤلاء، عندما اعتزل مجلس " الحسن البصري" بعدما أحدث مقولة إن فاعل الكبيرة مخلد في النار إذا مات قبل أن يتوب!، ولكنه في "منزلة بين المنزلتين!!" (أي ليس مؤمناً ولا كافراً!) ، وأنه مخلداً في النار إذا لم يتب فبل موته.
وتطورت هذه البدعة مع مرور الأيام، فقام أصحابها بتعطيل صفات الرب ـ سبحانه ـ بزعم تنزيهه!، وأنه ـ سبحانه ـ لا يعلم بالشر إلا بعد وقوعه!، وأن الإنسان خالق أفعاله، وأن القرآن الكريم ليس بكلام الله ـ عز وجل ـ بل هو مخلوق!، مع غلوهم في القدر، والتكفير ، وموافقة الخوارج بالتدين بالخروج على الحكام، وطعنهم في صحابة الرسول ـ صلى الله  عليه وسلم ـ ممن شاركوا في معركة الجمل..وأنه لا تقبل شهادتهم (1).
وعلى نفس الأصل الذي تبناها المعتزلة الأول! ، من تعظيم العقل وتحكيمه على نصوص الشرع!، إذ يزعمون أنه هو الطريق الوحيد للوصول إلى الحقيقة، حتى لو كانت هذه الحقيقة غيبية شرعية!، وجد لهم أتباع في هذا العصر ، يحملون فكرهم ويسيرون على ضربهم.
ومما أثاره معتزلة زماننا في هذه الأيام، وقاموا بإحيائه من تراث المعتزلة الأوائل، إنكارهم لعذاب القبر.
وعذاب القبر قضية ـ شرعية غيبية ـ لا يسع المسلم ـ صحيح الإيمان ـ إلا التسليم بها والرضا، إذ هي من أمور الغيب التي أبتلى (ابتلى) الله ـ عز وجل ـ بها عباده المؤمنين. 
فليس نطق العبد بالشهادتين فقط يَصير بذلك مؤمناً، إذ أن الإيمان مرتبة فوق الإسلام، فنطقه بالشهادة جعله في دائرة الإسلام، ولكي يكون مؤمناً لابد أن يؤمن بعد أمور، من أهمها: الإيمان بالغيب .
قال الله تعالى: { الم * ذلك الكتاب لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لّلْمُتَّقِينَ الذين يُؤْمِنُونَ بالغيب وَيُقِيمُونَ الصلاة وَمِمَّا رزقناهم يُنفِقُونَ } [ البقرة : 2 ، 3 ] .
فأول أركان الإيمان: الإيمان بالله ، وهو ـ سبحانه ـ بالنسبة لنا غيب، لم يره  أحد  منا، ومع ذلك نؤمن به ونخشى عذابه، ونرجو عفوه ومغفرته.
كما نؤمن بملائكته الكرام، وهم بالنسبة لنا أيضا من الغيب.
ونؤمن بالجنة والنار، ونؤمن بالجن، والصراط، والميزان، وغيرها كثير من أمور الغيب التي ابتلى الله ـ عز وجل ـ بها العباد لكي يظهر المؤمن المصدق ، من المنافق المكذب .
لأن من كذب وأنكر شيئا من هذه الغيبيات فقد خرج من دائرة الإيمان والإسلام ـ عياذا بالله ـ وأصبح من الكافرين ـ نسأل الله العافية ـ .
والإيمان بعذاب القبر ونعيمه داخل في هذا الباب، إذ هو من الغيب الذي حجبه الله عنا ـ بحكمته وعلمه ـ مادمنا على قيد الحياة.

وهو ثابت بظاهر القرآن وصريح السنة وإجماع المسلمين وبالحس أيضاً!. 

أولاً: القرآن:

ـ قال الله ـ عز وجل ـ : { يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ}[ إبراهيم: 27].
عن البراء بن عازب : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " المسلم إذا سئل في القبر : يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله " ، فذلك قوله : {يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة}. [رواه البخاري].
وفي رواية مسلم، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : " يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت " قال : " نزلت في عذاب القبر ، فيقال له : من ربك ؟ فيقول : ربي الله ، ونبيي محمد صلى الله عليه وسلم ، فذلك قوله عز وجل : {يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا ، وفي الآخرة}.
وقد أورد الحافظ "ابن كثير" ـ رحمة الله ـ جملة كبيرة من الأحاديث التي تثبت السؤال في القبر والعذاب الواقع فيه على من لم يوفق في الإجابة  عند تفسيره لهذه الآية من سورة إبراهيم.

ـ وقال الله ـ تعالى ـ : {فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآَلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ (45) النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آَلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [ غافر : 45، 46 ] .
قال الحافظ ابن كثير في تفسيره (2 / 1163 مؤسسة الرسالة): (( وهذه الآية أصلٌ كبير في استدلال أهل السنة على عذاب البرزخ في القبور، وهي قوله: { النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا}.
ثم بدء ـ رحمه الله ـ في سرد الأحاديث الصحيحة في عذاب القبر.
وقال القرطبي ـ رحمه الله ـ في تفسيره: ((والجمهور على أن هذا العرض في البرزخ. واحتج بعض أهل العلم في تثبيتعذاب القبر بقوله: { النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً } ما دامت الدنيا. كذلك قال مجاهد وعكرمة ومقاتل ومحمد بن كعب كلهم قال: هذه الآية تدل على عذاب القبر في الدنيا، ألا تراه يقول عن عذاب الآخرة: { وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ } اهـ .[ الجامع لأحكام القرآن 15/ 318].

ـ وفي تأويل قوله  ـ تعالى ـ : { وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ}.[ الأنعام : 93].

قال الشيخ عبد الرحمن السعدي في تيسير الكريم الرحمن ( ص / 265 ط المكتبة الإسلامية):
"{ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ } أي: شدائده وأهواله الفظيعة، وكُرَبه الشنيعة - لرأيت أمرا هائلا وحالة لا يقدر الواصف أن يصفها.
{ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ } إلى أولئك الظالمين المحتضرين بالضرب والعذاب، يقولون لهم عند منازعة أرواحهم وقلقها، وتعصيها للخروج من الأبدان: { أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ } أي: العذاب الشديد، الذي يهينكم ويذلكم والجزاء من جنس العمل، فإن هذا العذاب { بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ } من كذبكم عليه، وردكم للحق، الذي جاءت به الرسل. { وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ } أي: تَرَفَّعون عن الانقياد لها، والاستسلام لأحكامها. وفي هذا دليل على عذاب البرزخ ونعيمه، فإن هذا الخطاب، والعذاب الموجه إليهم، إنما هو عند الاحتضار وقبيل الموت وبعده". أهـ

ـ وجاء في تفسير قوله تعالى: {وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ} [التوبة : 101].
قال مجاهد في قوله: { سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ }  ((يعني: القتل والسبي، وقال -في رواية - بالجوع، وعذاب القبر، { ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ })).
وقال ابن جريج: ((عذاب الدنيا، وعذاب القبر، ثم يردون إلى عذاب النار)).
وقال الحسن البصري: ((عذاب في الدنيا، وعذاب في القبر)).
وقال محمد بن إسحاق: { سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ } ((قال: هو - فيما بلغني - ما هم فيه من أمر الإسلام، وما يدخل عليهم من غيظ ذلك على غير حسبة، ثم عذابهم في القبور إذا صاروا إليها، ثم العذاب العظيم الذي يردون إليه، عذاب الآخرة والخلد فيه)).
وقال سعيد، عن قتادة في قوله: { سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ }(( عذاب الدنيا، وعذاب القبر، { ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ })).[انظر تفسير الطبري وابن كثير].

وقال ترجمان القرآن "ابن عباس" ـ رضي الله عنه ـ في تأويله لقوله تعالى: { وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ}[ الطور: 47].
قال: ((إنكم لتجدون عذاب القبر في كتاب الله{ وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ })) .
وعن أبي صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، وقوله :{ وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ } يقول
: ((عذاب القبر قبل عذاب يوم القيامة)). [انظر جامع البيان في تأويل القرآن للإمام الطبري (22/478) مؤسسة الرسالة. شاكر].
وقد نبه العلماء إلى عدد من آيات القرآن الكريم فيها الإشارة إلى عذاب القبر أيضا، كما تجد ذلك في تفسير سورة (التكاثر)،و عند قوله تعالى: { قَالُواْ رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثنتين وَأَحْيَيْتَنَا اثنتين } [ غافر : 11 ]، وقوله سبحانه:  { أُغْرِقُواْ فَأُدْخِلُواْ نَاراً } [ نوح : 25 ].
هذا؛ وفيما مر بيان لإثبات عذاب القبر من القرآن، والحمد لله رب العالمين.

ثانيا: السُّنة:
قال الله ـ عز وجل ـ : {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [ آل عمران : 164 ].
وقال الله ـ  تعالى ـ : {  هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ}[الجمعة:2].

فالله ـ عز وجل ـ بعث محمداً ـ صلى الله عليه وسلم ـ للمؤمنين ليعلمهم الكتاب وهو : القرآن، والحكمة وهي : السنة.
فإنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ أوتي القرآن ومثله معه، ولهذا فلا يحل لرجل يؤمن بالله رباً، وبمحمد نبيا ورسولا، أن يقول: عليكم بالقرآن ، فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه ، وما وجدتم فيه من حرام فحرموه، فيترك السنة ولا يعمل بما جاء فيها!. فإن هذا من الضلال المبين.
وذلك لأن ما جاء في السنة الصحيحة عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ هو وحي من الله ـ عز وجل ـ أيضاً كالقرآن، قال تعالى: { وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3)إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى}[ النجم :4 ].
وقال ـ سبحانه ـ : { وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذكر لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } [ النحل : 44 ] .
فالسنة الصحيحة وحي من الله ـ تبارك وتعالى ـ .

وقد صح في السنة جملة من الأحاديث تبلغ مبلغ التواتر المعنوي، أغلبها  صريحة في إثبات عذاب القبر ونعيمه.
وإن كان المسلم صحيح الإيمان يكفيه حديث واحد في هذا الشأن، إلا أننا سنذكر جملة من الأحاديث من باب نشر السنة، والأنس بكلام المعصوم ـ صلى الله عليه وسلم ـ .

ففي المتفق على صحته من حديث عائشة ـ رضي الله عنها ـ ، زوج النبي صلى الله عليه وسلم ، قالت : إنما مر رسول الله صلى الله عليه وسلم على يهودية يبكي عليها أهلها ، فقال : " إنهم ليبكون عليها وإنها لتعذب في قبرها ".

وفي صحيح مسلم: (( أن عائشة قالت : دخلت علي (عجوزين) من عجز يهود المدينة ، فقالتا لي : إن أهل القبور يعذبون في قبورهم(2) ، فكذبتهما ، ولم أنعم أن أصدقهما ، فخرجتا ، ودخل علي النبي صلى الله عليه وسلم ، فقلت له : يا رسول الله ، إن عجوزين ، وذكرت له ، فقال : " صدقتا ، إنهم يعذبون عذابا تسمعه البهائم كلها " فما رأيته بعد في صلاة إلا تعوذ من عذاب القبر. [كتاب الدعوات].

وأخرج البخاري في كتاب الجنائز من صحيحه، من حديث عائشة رضي الله عنها : أن يهودية دخلت عليها ، فذكرت عذاب القبر ، فقالت لها : أعاذك الله من عذاب القبر ، فسألت عائشة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عذاب القبر ، فقال : " نعم ، عذاب القبر حق " قالت عائشة رضي الله عنها : فما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد صلى صلاة إلا تعوذ من عذاب القبر".

وعن أبي هريرة ،قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا فرغ أحدكم من التشهد الآخر ، فليتعوذ بالله من أربع : من عذاب جهنم ، ومن عذاب القبر ، ومن فتنة المحيا والممات ، ومن شر المسيح الدجال "
وفي رواية: " اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر ، وأعوذ بك من فتنة المسيح الدجال ، وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات ، اللهم إني أعوذ بك من المأثم والمغرم". [متفق عليه، واللفظ لمسلم].

5 ـ وعن زيد بن ثابت ، قال : بينما النبي صلى الله عليه وسلم في حائط لبني النجار ، على بغلة له ونحن معه ، إذ حادت به فكادت تلقيه ، وإذا أقبر ستة أو خمسة أو أربعة ، فقال : " من يعرف أصحاب هذه الأقبر ؟ " فقال رجل : أنا ، قال : فمتى مات هؤلاء ؟ " قال : ماتوا في الإشراك ، فقال : " إن هذه الأمة تبتلى في قبورها ، فلولا أن لا تدافنوا ، لدعوت الله أن يسمعكم من عذاب القبر الذي أسمع منه " ثم أقبل علينا بوجهه ، فقال : " تعوذوا بالله من عذاب النار " قالوا : نعوذ بالله من عذاب النار ، فقال : " تعوذوا بالله من عذاب القبر " قالوا : نعوذ بالله من عذاب القبر، ..." [رواه أحمد في المسند، ومسلم في صحيحه].

وفي صحيح ابن حبان، عن أم مبشر الأنصارية ، قالت : دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأنا في حائط من حوائط بني النجار ، فيه قبور منهم ، وهو يقول : " استعيذوا بالله من عذاب القبر " فقلت : يا رسول الله وللقبر عذاب ؟ قال : " نعم ، وإنهم ليعذبون في قبورهم  عذابا تسمعه البهائم "
صححه الألباني بلفظ:" قلت : يا رسول الله ! وإنهم ليعذبون في قبورهم ؟ قال : نعم عذابا تسمعه البهائم". [الصحيحة (1444)].

7 ـ وعن ابن عباس ، قال : خرج النبي صلى الله عليه وسلم من بعض حيطان المدينة ، فسمع صوت إنسانين يعذبان في قبورهما ، فقال : " يُعذبان ، وما يعذبان في كبير ، وإنه لكبير ، كان أحدهما لا يستتر من البول ، وكان الآخر يمشي بالنميمة ". [متفق عليه].
وعن أبي هريرة مرفوعا: "أكثر عذاب القبر من البول"[ رواه أحمد وابن ماجه والحاكم وصححه ووافقه الذهبي والألباني].

8 ـ وفي صحيح البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه ، أنه حدثهم : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن العبد إذا وضع في قبره وتولى عنه أصحابه ، وإنه ليسمع قرع نعالهم ، أتاه ملكان فيقعدانه ، فيقولان : ما كنت تقول في هذا الرجل لمحمد صلى الله عليه وسلم ، فأما المؤمن ، فيقول : أشهد أنه عبد الله ورسوله ، فيقال له : انظر إلى مقعدك من النار قد أبدلك الله به مقعدا من الجنة ، فيراهما جميعا - قال قتادة : وذكر لنا : أنه يفسح له في قبره ، ثم رجع إلى حديث أنس - قال : وأما المنافق والكافر فيقال له : ما كنت تقول في هذا الرجل ؟ فيقول : لا أدري كنت أقول ما يقول الناس ، فيقال : لا دريت ولا تليت ، ويضرب بمطارق من حديد ضربة ، فيصيح صيحة يسمعها من يليه غير الثقلين". [كتاب الجنائز، باب ما جاء في عذاب القبر].

وعن البراء بن عازب ، قال : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنازة رجل من الأنصار ، فانتهينا إلى القبر ولما يلحد ، فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وجلسنا حوله كأنما على رءوسنا الطير ، وفي يده عود ينكت به في الأرض ، فرفع رأسه ، فقال : " استعيذوا بالله من عذاب القبر " مرتين ، أو ثلاثا ، قال : " وإنه ليسمع خفق نعالهم إذا ولوا مدبرين حين يقال له : يا هذا ، من ربك وما دينك ومن نبيك ؟ "... قال : " ويأتيه ملكان فيجلسانه فيقولان له : من ربك ؟ فيقول : ربي الله ، فيقولان له : ما دينك ؟ فيقول : ديني الإسلام ، فيقولان له : ما هذا الرجل الذي بعث فيكم ؟ " قال : " فيقول : هو رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فيقولان : وما يدريك ؟ فيقول : قرأت كتاب الله فآمنت به وصدقت " ... " فذلك قول الله عز وجل {يثبت الله الذين آمنوا } الآية - ... قال : " فينادي مناد من السماء : أن قد صدق عبدي ، فأفرشوه من الجنة ، وافتحوا له بابا إلى الجنة ، وألبسوه من الجنة " قال : " فيأتيه من روحها وطيبها " قال : " ويفتح له فيها مد بصره " قال : " وإن الكافر " فذكر موته قال : " وتعاد روحه في جسده ، ويأتيه ملكان فيجلسانه فيقولان : له من ربك ؟ فيقول : هاه هاه هاه ، لا أدري ، فيقولان له : ما دينك ؟ فيقول : هاه هاه ، لا أدري ، فيقولان : ما هذا الرجل الذي بعث فيكم ؟ فيقول : هاه هاه ، لا أدري ، فينادي مناد من السماء : أن كذب ، فأفرشوه من النار ، وألبسوه من النار ، وافتحوا له بابا إلى النار " قال : " فيأتيه من حرها وسمومها " قال : " ويضيق عليه قبره حتى تختلف فيه أضلاعه " ... قال : " ثم يقيض له أعمى أبكم معه مرزبة من حديد لو ضرب بها جبل لصار ترابا " قال : " فيضربه بها ضربة يسمعها ما بين المشرق والمغرب إلا الثقلين فيصير ترابا " قال : " ثم تعاد فيه الروح".[رواه أحمد وأبو داود وصححه الشيخ الألباني في تحقيقه لسنن أبي داود].

10ـ وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " والذي نفسي بيده ، إنه ليسمع خفق نعالهم حين يولون عنه ، فإن كان مؤمنا كانت الصلاة عند رأسه ، والزكاة عن يمينه ، والصوم عن شماله ، وفعل الخيرات والمعروف والإحسان إلى الناس من قبل رجليه ، فيؤتى من قبل رأسه ، فتقول الصلاة : ليس قبلي مدخل ، فيؤتى عن يمينه ، فتقول الزكاة : ليس من قبلي مدخل ، ثم يؤتى عن شماله ، فيقول الصوم : ليس من قبلي مدخل ، ثم يؤتى من قبل رجليه ، فيقول فعل الخيرات والمعروف والإحسان إلى الناس : ليس من قبلي مدخل ، فيقال له : اجلس ، فيجلس وقد مثلت له الشمس للغروب ، فيقال له : ما تقول في هذا الرجل الذي كان فيكم ؟ يعني النبي صلى الله عليه وسلم ، فيقول : أشهد أنه رسول الله جاءنا بالبينات من عند ربنا ، فصدقنا واتبعنا ، فيقال له : صدقت ، وعلى هذا حييت ، وعلى هذا مت ، وعليه تبعث إن شاء الله ، فيفسح له في قبره مد بصره ، فذلك قول الله عز وجل : {يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة} فيقال : افتحوا له بابا إلى النار ، فيفتح له باب إلى النار ، فيقال : هذا كان منزلك لو عصيت الله عز وجل ، فيزداد غبطة وسرورا ، ويقال له : افتحوا له بابا إلى الجنة ، فيفتح له ، فيقال : هذا منزلك ، وما أعد الله لك ، فيزداد غبطة وسرورا ، فيعاد الجلد إلى ما بدأ منه ، وتجعل روحه في نسم طير تعلق في شجر الجنة ، وأما الكافر ، فيؤتى في قبره من قبل رأسه ، فلا يوجد شيء ، فيؤتى من قبل رجليه فلا يوجد شيء ، فيجلس خائفا مرعوبا ، فيقال له : ما تقول في هذا الرجل الذي كان فيكم ؟ وما تشهد به ؟ فلا يهتدي لاسمه ، فيقال : محمد صلى الله عليه وسلم ، فيقول : سمعت الناس يقولون شيئا ، فقلت كما قالوا ، فيقال له : صدقت ، على هذا حييت ، وعليه مت ، وعليه تبعث إن شاء الله ، فيضيق عليه قبره حتى تختلف أضلاعه ، فذلك قوله عز وجل : {ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا} فيقال : افتحوا له بابا إلى الجنة ، فيفتح له باب إلى الجنة ، فيقال له : هذا كان منزلك وما أعد الله لك لو أنت أطعته ، فيزداد حسرة وثبورا ، ثم يقال له : افتحوا له بابا إلى النار ، فيفتح له باب إليها ، فيقال له : هذا منزلك وما أعد الله لك ، فيزداد حسرة وثبورا " .
قال أبو عمر : قلت لحماد بن سلمة : كان هذا من أهل القبلة ؟ قال : " نعم " قال أبو عمر : كأنه يشهد بهذه الشهادة على غير يقين يرجع إلى قلبه ، كان يسمع الناس يقولون شيئا فيقوله)).[رواه ابن حبان في صحيحه والطبراني في الأوسط واللفظ له، وصححه الألباني في الترغيب والترهيب].

11ـ وعن هانئ ، مولى عثمان بن عفان ـ رضي الله عنه ـ قال : كان عثمان ، إذا وقف على قبر بكى حتى يبل لحيته ، فقيل له : تذكر الجنة والنار فلا تبكي وتبكي من هذا ؟ فقال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن القبر أول منزل من منازل الآخرة ، فإن نجا منه فما بعده أيسر منه ، وإن لم ينج منه فما بعده أشد منه".
قال هانئ : «وسمعتُ عثمانَ ينشد على قبر :
فإن تَنْجُ منها تَنْجُ مِنْ ذِي عظيمة  ..   وإلا فإني لا إخَالُكَ ناجيا»
[رواه ابن ماجه والترمذي وحسنه ووافقه في  الألباني صحيح الترهيب والترغيب].

12ـ وفي صحيح البخاري عن عروة بن الزبير : أنه سمع أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما ، تقول : " قام رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيبا فذكر فتنة القبر التي يفتتن فيها المرء ، فلما ذكر ذلك ضج المسلمون ضجة"

13ـ وفي رواية النسائي قالت :" : قام رسول الله صلى الله عليه وسلم " فذكر الفتنة التي يفتن به المرء في قبره " فلما ذكر ذلك ضج المسلمون ضجة حالت بيني وبين أن أفهم كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما سكنت ضجتهم قلت لرجل قريب مني : أي بارك الله فيك ماذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخر قوله ؟ قال : قال : " قد أوحي إلي أنكم تفتنون في القبور قريبا من فتنة الدجال ".
ـ وعنها ـ رضي الله عنهما ـ أيضاً ، أنها قالت : أتيت عائشة حين خسفت الشمس والناس قيام ، وهي قائمة تصلي ، فقلت : ما للناس ؟ فأشارت بيدها نحو السماء ، فقالت : سبحان الله ، فقلت : آية ؟ قالت برأسها : أن نعم ، فلما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم حمد الله وأثنى عليه ثم قال : " ما من شيء لم أره إلا وقد رأيته في مقامي هذا ، حتى الجنة والنار ، وأوحي إلي أنكم تفتنون في القبور قريبا من فتنة الدجال ، فأما المؤمن - أو المسلم لا أدري أي ذلك قالت أسماء - فيقول : محمد جاءنا بالبينات ، فأجبناه وآمنا ، فيقال : نم صالحا علمنا أنك موقن ، وأما المنافق - أو المرتاب لا أدري أي ذلك قالت أسماء - فيقول : لا أدري سمعت الناس يقولون شيئا فقلته". [رواه البخاري ، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة].

14ـ وعن ابن عمر ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " هذا الذي تحرك له العرش ، وفتحت له أبواب السماء ، وشهده سبعون ألفا من الملائكة ، لقد ضم ضمة ، ثم فرج (فُرج)عنه".
" قال أبو عبد الرحمن : يعني سعد بن معاذ هذا". [رواه النسائي وصححه الألباني في صحيح الجامع (6987)].

15ـ وعبد الله بن دينار قال : كنتُ جالسا وسليمان بن صرَد وخالد بن عُرْفُطةَ، فذكروا «أنَّ رجلا تُوفِّيَ ، مات ببطنه ، فإذا هما يشتهيان أن يكونا شَهِدا جنازَتَه ، فقال أحدُهما للآخر : ألم يَقُلْ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم- : مَن يَقْتُلْه بَطْنُهُ لم يعذَّب في قَبره ؟ فقال الآخر : بلى». [رواه أحمد والترمذي وحسنه ووافقه الألباني في صحيح الجامع (6461)].

16ـ وعن ابن عمر ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : " إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشي ، إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة ، وإن كان من أهل النار فمن أهل النار ، يقال : هذا مقعدك ، حتى يبعثك الله إليه يوم القيامة".[متفق على صحته].

17ـ وعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ يرفعه: " إن المؤمن في قبره لفي روضة خضراء ، ويرحب له قبره سبعون ذراعا ، وينور له كالقمر ليلة البدر أتدرون فيما أنزلت هذه الآية : {فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى} أتدرون ما المعيشة الضنكة ؟ " قالوا : الله ورسوله أعلم قال : " عذاب الكافر في قبره ، والذي نفسي بيده ، إنه يسلط عليه تسعة وتسعون تنينا ، أتدرون ما التنين ؟ سبعون حية ، لكل حية سبع رءوس يلسعونه ، ويخدشونه إلى يوم القيامة ".[ رواه أبو يعلى وابن حبان في صحيحه واللفظ له، والآجري في الشريعة ، وحسنه الألباني في صحيح الترهيب والترغيب].

18ـ وعن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنهما ، أن صبيا دفن فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لو أفلت أحد من ضمة القبر لأفلت هذا الصبي ".[رواه الطبراني في الكبير وصححه الألباني  في صحيح الجامع (5238)].

19ـ وعن سلمان الفارسي ، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " رباط يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامه ، وإن مات جرى عليه عمله الذي كان يعمله ، وأجري عليه رزقه ، وأمن الفتان ".[ رواه مسلم في كتاب الأمارة].

20ـ وعن راشد بن سعد عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، أن رجلا ، قال : يا رسول الله ، ما بال المؤمنين يفتنون في قبورهم إلا الشهيد ؟ فقال : " كفى ببارقة السيوف على رأسه فتنة" .[رواه النسائي وأبو نعيم في معرفة الصحابة، وصححه الألباني].

21ـ وعن فضالة بن عبيد ، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " كل ميت يختم على عمله إلا الذي مات مرابطا في سبيل الله ، فإنه ينمى عمله إلى يوم القيامة ، ويأمن فتنة القبر".[ رواه أحمد والترمذي وصححه الألباني].
22ـ وعن المقدام بن معدِيكرب ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " للشهيد عند الله ست خصال : يغفر له في أول دفعة من دمه ، ويرى مقعده من الجنة ، ويجار من عذاب القبر ، ويأمن من الفزع الأكبر ، ويحلى حلة الإيمان ، ويزوج من الحور العين ، ويشفع في سبعين إنسانا من أقاربه".[رواه أحمد والترمذي وصححه وابن ماجة واللفظ له، وصححه الألباني في المشكاة(3834)].

23ـ عن عبد الله بن مسعود قال : " سورة تبارك هي المانعة ، تمنع بإذن الله تبارك وتعالى من عذاب القبر". [رواه البيهقي في إثبات عذاب القبر موقفاً، ورواه أبو الشيخ في " طبقات الأصبهانيين مرفوعاً، وصحح الألباني الموقوف في صحيح الجامع (3643)].

24ـ وعن علي بن أبي طالب ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب : " شغلونا عن الصلاة الوسطى ، صلاة العصر ، ملأ الله بيوتهم وقبورهم نارا " ، ثم صلاها بين العشاءين ، بين المغرب والعشاء)).[رواه البخاري ومسلم واللفظ له].

25ـ عن أبي هريرة رضي الله عنه ، يقول : افتتحنا خيبر ، ولم نغنم ذهبا ولا فضة ، إنما غنمنا البقر والإبل والمتاع والحوائط ، ثم انصرفنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى وادي القرى ، ومعه عبد له يقال له مدعم ، أهداه له أحد بني الضباب ، فبينما هو يحط رحل رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاءه سهم عائر ، حتى أصاب ذلك العبد ، فقال الناس : هنيئا له الشهادة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " بل ، والذي نفسي بيده ، إن الشملة التي أصابها يوم خيبر من المغانم ، لم تصبها المقاسم ، لتشتعل عليه نارا " فجاء رجل حين سمع ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم بشراك أو بشراكين ، فقال : هذا شيء كنت أصبته ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " شراك - أو شراكان - من نار". [رواه البخاري وغيره].

26ـ وعن ابن مسعود ، قال : قالت أم حبيبة ، اللهم بارك لي في زوجي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأبي أبي سفيان ، وأخي معاوية ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " لقد سألت الله عن آجال مضروبة ، وآثار مبلوغة ، وأرزاق مقسومة ، لا يعجل منها شيء قبل حله ، فلو سألت الله أن يعيذك من عذاب النار ، أو عذاب القبر كان خيرا - أو كان أفضل". [رواه ابن حبان وغيره وصححه الألباني].

27ـ وعن عوف بن مالك ، قال : صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على جنازة ، فحفظت من دعائه وهو يقول : " اللهم ، اغفر له وارحمه وعافه واعف عنه ، وأكرم نزله ، ووسع مدخله ، واغسله بالماء والثلج والبرد ، ونقه من الخطايا كما نقيت الثوب الأبيض من الدنس ، وأبدله دارا خيرا من داره ، وأهلا خيرا من أهله وزوجا خيرا من زوجه ، وأدخله الجنة وأعذه من عذاب القبر - أو من عذاب النار - " قال : " حتى تمنيت أن أكون أنا ذلك الميت ".[ رواه مسلم والنسائي].

28ـ وعن أبي بن كعب ، عن النبي صلى الله عليه وسلم : أنه ذكر الدجال عنده ، فقال : " عينه خضراء كالزجاجة ، فتعوذوا بالله من عذاب القبر".[رواه أحمد وابن حبان والطحاوي في مشكل الآثار، وصححه الألباني في الصحيحة (1863)].

29 ـ عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه ، قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول : " إذا وضعت الجنازة ، فاحتملها الرجال على أعناقهم ، فإن كانت صالحة قالت : قدموني ، وإن كانت غير صالحة قالت لأهلها : يا ويلها أين يذهبون بها ، يسمع صوتها كل شيء إلا الإنسان ، ولو سمع الإنسان لصعق" [رواه البخاري كتاب الجنائز].

30 ـ عن واثلة بن الأسقع ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أنه صلى على رجل فقال : " اللهم إن فلان بن فلان في ذمتك ، وحبل جوارك فأعذه من فتنة القبر ، وعذاب النار ، أنت أهل الوفاء والحق ، اللهم فاغفر له وارحمه إنك أنت الغفور الرحيم". [رواه أحمد وأبو داود وابن ماجة وصححه الألباني في المشكاة].

31ـ فعن عمرو بن ميمون الأودي ، قال : كان سعد بن أبي وقاص يعلم بنيه هؤلاء الكلمات كما يعلم المعلم الغلمان الكتابة ويقول : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتعوذ منهن دبر الصلاة : " اللهم إني أعوذ بك من الجبن ، وأعوذ بك أن أرد إلى أرذل العمر ، وأعوذ بك من فتنة الدنيا ، وأعوذ بك من عذاب القبر" .[رواه البخاري في كتاب الجهاد والسير].

32 ـ وعثمان بن عفان رضي الله عنه قال: " كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا فرغ من دفن الميت وقف عليه فقال: استغفروا لأخيكم، وسلوا له التثبيت، فإنه الآن يسأل ".
[أخرجه أبو داود  والحاكم والبيهقي , وقال الحاكم: " صحيح الإسناد "، ووافقه الذهبي, وكذا الألباني في صحيح الجامع (945)].
قلت:  فهذه جملة من الأحاديث الصحيحة التي تكاد أن تكون متواترة تواترا معنويا، كلها تثبت أن عذاب القبر حق، فهاهي السنة المصدر الثاني للتشريع تثبت أن للقبر عذاب ونعيم.

ثالثا: الإجماع:
أما الإجماع على أن عذاب القبر ونعيمة حق، فقد نقل غير واحد من أهل العلم الإجماع عليه، منهم  شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ ، فقد نقل اتفاق أهل السنة والجماعة على أن العذاب والنعيم واقع على النفس والبدن في القبر، ولم يخالف في هذا إلا بعض أهل الكلام.
ثم قال :"فَإِذَا عَرَفْت هَذِهِ الْأَقْوَالَ الثَّلَاثَةَ الْبَاطِلَةَ فَلْيُعْلَمْ أَنَّ مَذْهَبَ " سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا " أَنَّ الْمَيِّتَ إذَا مَاتَ يَكُونُ فِي نَعِيمٍ أَوْ عَذَابٍ ، وَأَنَّ ذَلِكَ يَحْصُلُ لِرُوحِهِ وَلِبَدَنِهِ ، وَأَنَّ الرُّوحَ تَبْقَى بَعْدَ مُفَارَقَةِ الْبَدَنِ مُنَعَّمَةً أَوْ مُعَذَّبَةً ، وَأَنَّهَا تَتَّصِلُ بِالْبَدَنِ أَحْيَانًا فَيَحْصُلُ لَهُ مَعَهَا النَّعِيمُ وَالْعَذَابُ ، ثُمَّ إذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ الْكُبْرَى أُعِيدَتْ الْأَرْوَاحُ إلَى أَجْسَادِهَا وَقَامُوا مِنْ قُبُورِهِمْ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ " . [ مجموع الفتاوى(4/284)].

قلت: وهناك إجماع عملي على عذاب القبر، وهذا الإجماع لا يحتاج إلى عزو أو نقل ، فقد اتفقت الأمة على التعوذ من عذاب القبر بعد التشهد الأخير من كل صلاة،  لا فرق عندهم بين فرض ونفل ، إتباعا منهم  لأمر نبيهم ـ صلى الله عليه وسلم ـ القائل: "إذا تشهد أحدكم فليستعذ بالله من أربع يقول : اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم ، ومن عذاب القبر ، ومن فتنة المحيا والممات ، ومن شر فتنة المسيح الدجال".[ رواه مسلم وابن خزيمة من حديث أبي هريرة].
فالإجماع قائم في الأمة على أن عذاب القبر حق، أما المنكر له فحكمه حكمه.

رابعاً : العقل:
يتعلق أغلب منكري الأمور الغيبية التي يُمتحن بها إيمان العباد ـ ومنها الإيمان بعذاب القبر ـ بحجة أن العقل لا يتصور هذه الأمور، وقد فضلنا الله بالعقل من أجل التميز ، فتراهم لا يصدقون إلا بما هو ملموس محسوس!.
وأمثال هؤلاء لا يلتفت إليهم ، فليس إدراك الشيء دليل على عدم وجوده, وأما تشغيبهم بأنه لا يوجد عذاب في القبر لأننا نفتح على بعضهم، فلا نرى أثاراً لتعذيب على جسد الميت، أو حيات أو مطارق من حديد معه في قبره!.
وكما ترى أنهم خالفوا الكتاب والسنة بشبهاتهم  العقلية القبيحة، والرد عليها بأيسر ما يكون ـ إن شاء الله تعالىـ .
 فأولاً: من يدريهم أن الميت الذي قاموا بنبش قبره كان مستحقاً للعذاب؟!
فعذاب القبر عقوبة من الله ـ عز وجل ـ لمن كان له أهلاً.

ثانياً: إن القبر وما فيه واقع في عالم أخر غير الذي نعيشه، عالم له أبعاده ونظامه الخاص به، عالم ما بعد الموت، عالم البرزخ ... عالم لا يدركه الأحياء، وإن كان من الممكن تصوره!.
فالله ـ عز وجل ـ يتوفى الأنفس عند النوم، قال الله تعالى: { اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى} [الزمر: 42].
أَيْ: وَأَمَّا الَّتِي لَمْ تَمُتِ الْمَوْتَ الْمَعْرُوفَ فَيُمِيتُهَا فِي مَنَامِهَا مَوْتًا شَبِيهًا بِالْمَوْتِ التَّامِّ، كَقَوْلِهِ تعالى : {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}[ الأنعام : 60].
فالنوم وفاة، فينتقل الإنسان بالنوم من عالمه إلى عالم أخر، عالم الأموات، فيرى ويدرك النائم أحيانا أمور لا يتسنى للحي رؤيتها ولا إدراكها.
مثل الأحلام المزعجة ـ الكوابيس ـ ، فتجده يرى في منامه أن هناك وحش يطارده يريد افتراسه ، أو رجل يسعى خلفه بسكين يريد الفتك به وتمزيقه، أو أنه يسقط من فوق جبل مرتفع فيرتطم بالأرض وقد تكسرت عظامه وتهشم وجهه وقد غطى الدم جميع بدنه.
 فيستيقظ من نومه ـ موته الصغرى ـ وقد أصابه الفزع والإعياء الشديد ، تعلوه علامات الخوف والرهبة، وهو يتصبب عرقا، وما زال نفسه يتردد في صدره بقوة، يفتش بعينيه في أرجاء الحجرة أين يختبأ هذه الوحش الذي يريد افتراسه، أو أين يقف هذا الرجل الذي يريد طعنه، أو تراه يتحسس جسده ليطمئن أنه سينجو من أثر هذا الارتطام!  .
ثم يفاجأ أنه ما زال على سريره، وفي حجرته بجوار زوجته، وأن هذا العذاب الفظيع الذي كان يعانيه ليس إلا كابوسا أتاه أثناء نومه!.
فهل يحق لزوجة هذا الرجل أن تتهمه بالكذب وسعة الخيال إن أخبرها بما رآه في منامه لأنها لا ترى عليه أثر التعذيب، أو بقايا لحجارة الجبل الذي سقط من عليه حول السرير؟! .
بالطبع لا، ولا ينكر هذا إلا أحمق مجنون، فهذا من هذا ولله الحمد والمنة.

 ومع ذلك ذكر شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ نكتة على وقوع العذاب في القبر على النحو الذي أخبر به النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال بعد أن ذكر حديث أُمِّ مُبَشِّرٍ رضي الله عنها والذي فيه أنها قَالَتْ : دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَنَا فِي حَائِطٍ وَهُوَ يَقُولُ : تَعَوَّذُوا بِاَللَّهِ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ فَقُلْت : يَا رَسُولَ اللَّهِ لِلْقَبْرِ عَذَابٌ ؟ فَقَالَ : إنَّهُمْ لَيُعَذَّبُونَ فِي قُبُورِهِمْ عَذَابًا تَسْمَعُهُ الْبَهَائِمُ } .

قال الشيخ ـ رحمه الله ـ : "قَالَ بَعْضُهُمْ : وَلِهَذَا السَّبَبِ يَذْهَبُ النَّاسُ بِدَوَابِّهِمْ إذَا مَغَلَتْ ـ المغل : برد يصيب أمعاء الدواب ـ إلَى قُبُورِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالْمُنَافِقِينَ ; كالإسماعيليةِ والنصيرية وَسَائِرِ الْقَرَامِطَةِ : مِنْ بَنِي عُبَيْدٍ وَغَيْرِهِمْ الَّذِينَ بِأَرْضِ مِصْرَ وَالشَّامِ وَغَيْرِهِمَا ; فَإِنَّ أَهْلَ الْخَيْلِ يَقْصِدُونَ قُبُورَهُمْ لِذَلِكَ كَمَا يَقْصِدُونَ قُبُورَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى . وَالْجُهَّالُ تَظُنُّ أَنَّهُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ فَاطِمَةَ وَأَنَّهُمْ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ . فَقَدْ قِيلَ : إنَّ الْخَيْلَ إذَا سَمِعَتْ عَذَابَ الْقَبْرِ حَصَلَتْ لَهَا مِنْ الْحَرَارَةِ مَا يُذْهِبْ بِالْمَغْلِ . وَالْحَدِيثُ فِي هَذَا كَثِيرٌ".[ مجموع الفتاوى 4 / 287 . دار الوفاء].

وقال ابن القيم ـ رحمة الله عليه ـ في كتابه "الروح" بعد أن ذكر الكلام السابق لشيخ الإسلام : "قال عبد الحق الأشبيلى حدثني الفقيه أبو الحكم برخان وكان من أهل العلم والعمل أنهم دفنوا ميتا بقريتهم في شرق أشبيلية، فلما فرغوا من دفنه قعدوا ناحية يتحدثون ودابة ترعى قريبا منهم، فإذا بالدابة قد أقبلت مسرعة إلى القبر فجعلت أذنها عليه كأنها تسمع ثم ولت فارة!، ثم عادت إلى القبر فجعلت أذنها عليه كأنها تسمع ثم ولت فارة!، فعلت ذلك مرة بعد أخرى.
 قال أبو الحكم : "فذكرت عذاب القبر وقول النبي أنهم ليعذبون عذابا تسمعه البهائم".اهـ
قلت: وأيضا من  الحكمة الإلهية واللطف الرباني حجب سماع عذاب القبور عن الأحياء ؛ لغلبة الخوف عند سماعه ، فلا يقدرون على القرب من القبر للدفن ، أو يصيب من يسمعه الهلاك، فقد قال - صلى الله عليه وسلم - في الجنازة : " لو سمعها الإنسان لصعق "[ رواه البخاري، كتاب الجنائز].

خامساً: أقوال السلف والعلماء:
أخرج البيهقي في شعب الإيمان أنه كانت لأبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ صرختان في كل يوم غدوة وعشية كان يقول في أول النهار : " ذهب الليل وجاء النهار ، وعرض آل فرعون على النار " فلا يسمع صوته أحد إلا استعاذ بالله من النار ، فإذا كان العشي قال : " ذهب النهار وجاء الليل ، وعرض آل فرعون على النار " فلا يسمع صوته أحد إلا استعاذ بالله من النار. 
وأخرج اللالكائي في (شرح اعتقاد أهل السنة (6/1138)):  أن رجلا قال لأنس بن مالك - رضي الله عنه -: "إن قوماً يكذبون بالشفاعة، فقال: لا تجالسوهم، فسأله آخر وقال: إن قوماً يكذبون بعذاب القبر فقال: لا تجالسوهم".

قال الإمام أبو حنيفة النعمان : "سؤال منكر ونكير حق كائن في القبر، وإعادة الروح إلى جسد العبد في قبره حق، وضغطة القبر وعذابه حق كائن للكفار كلهم ولبعض عصاة المؤمنين".[الفقه الأكبر ص / 306].
وروي عن أبي مطيع البلخي قال: قال أبو حنيفة- رضي الله عنه - : من قال: لا أعرف عذاب القبر، فهو من الطائفة الجهمية الهالكة، قال الله تعالى: { سنعذبهم مرتين } [التوبة: 101]، وقال تعالى: { وإن للذين ظلموا عذابا دون ذلك ولكن أكثرهم لا يعلمون } [الطور: 47] يعني: عذاب القبر".[ الفقه الأبسط: 48].
وقال الإمام في الوصية(75): "ونقر بأن عذاب القبر كائن لا محالة، وسؤال منكر ونكير حق، لورود الأحاديث".أهـ

وقال الإمام أحمد : "وعذاب القبر حق، يسأل العبد عن دينه ونبيه وعن الجنة والنار، ومنكر ونكير حق، وهما فتانا القبر نسأل الله الثبات". [تاريخ دمشق (21/ 311)].
وقال ابن القيم في كتابه "الروح":  قال المروزى: قال أبو عبد الله عذاب القبر حق لا ينكره إلا ضال أو مضل، قال حنبل : قلت لأبي عبد الله في عذاب القبر . فقال : هذه أحاديث صحاح نؤمن بها ونقر بها كما جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - إسناد جيد أقررنا به ، إذا لم نقر بما جاء به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورفعناه ورددناه رددنا على الله أمره ، قال الله تعالى : " وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ " [ الحشر/7 ]
قلت له : وعذاب القبر حق ؟ قال : حق يعذبون في القبور.
قال : وسمعت أبا عبد الله يقول : نؤمن بعذاب القبر ، ومنكر ونكير ، وأن العبد يسأل في قبره فـ " يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ" [إبراهيم / 27] في القبر .
 وقال أحمد بن القاسم قلت يا أبا عبد الله تقر بمنكر ونكير وما يروى في عذاب القبر ! فقال سبحان الله نعم نقر بذلك ونقوله". أهـ
وقال يوسف بن موسى العطار الحربي قال: قيل لأبي عبد الله عذاب القبر حق قال: نعم.[ طبقات الحنابلة 1/ 419 دار المعرفة].

وقال أبو بكر الإسماعيلي في اعتقاد أئمة الحديث (1 / 69): " ويقولون : إن عذاب القبر حق، يعذب الله من استحقه إن شاء، وإن شاء عفى عنه، لقوله تعالى : { النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ } [ غافر : 46 ]،  فأثبت لهم ما بقيت الدنيا عذابا بالغدو والعشي دون ما بينهما، حتى إذا قامت القيامة عذبوا أشد العذاب، بلا تخفيف عنهم كما كان في الدنيا، وقال : { وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا }[ طه : 124 ]. يعني : قبل فناء الدنيا، لقوله بعد ذلك : { وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى } بين أن المعيشة الضنك قبل يوم القيامة، وفي معاينتنا اليهود والنصارى والمشركين في العيش الرغد والرفاهية في المعيشة ما يعلم به أنه لم يرد به ضيق الرزق في الحياة الدنيا لوجود مشركين في سعة من أرزاقهم، وإنما أراد به بعد الموت، قبل الحشر ".أهـ

وقال اللالكائي في شرح أصول الاعتقاد: " حدثنا حنبل ، قال : سمعت أبا عبد الله ، يعني أحمد بن حنبل يقول : (( إذا صير العبد إلى لحده وانصرف عنه أهله ، أعيد إليه روحه في جسده ؛ فيسأل حينئذ في قبره ، وهو قول الله : {يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة} [ إبراهيم: 27]. ، يعني : القبر ، فنسأل الله أن يثبتنا على طاعته ويبارك لنا في تلك الساعة عند المساءلة ، فالسعيد من أسعده الله عز وجل » ، قال : وسمعت أبا عبد الله يقول : « نؤمن بعذاب القبر ومنكر ونكير)).حديث رقم:1749].

وقال ابن أبي زمنين في ( أصول السنة ): ((وأهل السنة يؤمنون بعذاب القبر، أعاذنا الله وإياك من ذلك. قال عز وجل: {فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً} وقال: {سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ})). أهـ
وقالالطحاوي الإمام في عقيدته:
" ... ونؤمن بملك الموت الموكل بقبض أرواح العالمين ، وبعذاب القبر لمن كان له أهلاً ، وسؤال منكر ونكير في قبره عن ربه ودينه ونبيه ، على ما جاءت به الأخبار عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وعن الصحابة رضوان الله عليهم ، والقبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النيران ".

وقال العلامة ابن أبي العز الحنفي في شرحه عليها : " وقد تواترت الأخبار عن رسول الله في ثبوت عذاب القبر ونعيمه - لمن كان لذلك أهلا - وسؤال الملكين . فيجب اعتقاد ثبوت ذلك والإيمان به، ولا نتكلم في كيفيته، إذ ليس للعقل وقوف على كيفيته لكونه لا عهد له به في هذا الدار " .أهـ

وقال أبو الحسن الأشعري في الإبانة (ص /27): " نؤمن بعذاب القبر، ومنكر ونكير، وبالحوض، وأن الميزان حق، والصراط حق، والبعث بعد الموت حق". اهـ

وقال الإمام النووي ـ رحمه الله ـ في شرحه على مسلم : "مذهب أهل السنة إثبات عذاب القبر، وقد تظاهرت عليه دلائل الكتاب والسنة، قال الله تعالى: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا} الآية، وتظاهرت به الأحاديث الصحيحة عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من رواية جماعة من الصحابة فى مواطن كثيرة، ولا يمتنع فى العقل أن يعيد الله ـ تعالى ـ الحياة فى جزء من الجسد ويعذبه وإذا لم يمنعه العقل وورد الشرع به وجب قبوله واعتقاده.
قال: وقد ذكر مسلم هنا أحاديث كثيرة فى إثبات عذاب القبر وسماع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ صوت من يعذب فيه وسماع الموتى قرع نعال دافنيهم وكلامه ـ صلى الله عليه و سلم ـ لأهل القليب وقوله ما أنتم باسمع منهم،  وسؤال الملكين الميت وإقعادهما إياه وجوابه لهما ،والفسح له فى قبره، وعرض مقعده عليه بالغداة والعشى، وسبق معظم شرح هذا فى كتاب الصلاة وكتاب الجنائز، والمقصود أن مذهب أهل السنة إثبات عذاب القبر كما ذكرنا خلافا للخوارج ومعظم المعتزلة، وبعض المرجئة نفوا ذلك".

وقال الإمام القرطبي " الإيمان بعذاب القبر وفتنته واجب ، والتصديق به لازم ، حسب ما أخبر به الصادق ، وأن الله تعالى يحيي العبد المكلف في قبره برد الحياة إليه ، ويجعله من العقل في مثل الوصف الذي عاش عليه ليعقل ما يسأل عنه ، وما يجيب به ، ويفهم ما أتاه من ربه ، وما أعد له في قبره من كرامة أو هوان ، وبهذا نطقت الأخبار عن النبي صلى الله عليه وعلى آله آناء الليل وأطراف النهار ، وهذا مذهب أهل السنة والذي عليه الجماعة من أهل الملة ، ولم تفهم الصحابة الذين نزل القرآن بلسانهم ولغتهم من نبيهم عليه الصلاة والسلام غير ما ذكرنا ، وكذلك التابعون بعدهم إلى هلم جرا ". [ التذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة (ص/ 137)  ط. دار الكتب العلمية بيروت ط. الثانية ].

 وقال شيخ الإسلام ابن تيمية  في مجموع الفتاوى ( 3 / 145 )  :
"وَمِنْ الْإِيمَانِ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ : الْإِيمَانُ بِكُلِّ مَا أَخْبَرَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِمَّا يَكُونُ بَعْدَ الْمَوْتِ : فَيُؤْمِنُونَ بِفِتْنَةِ الْقَبْرِ وَبِعَذَابِ الْقَبْرِ وَبِنَعِيمِهِ فَأَمَّا الْفِتْنَةُ : فَإِنَّ النَّاسَ يُفْتَنُونَ فِي قُبُورِهِمْ . فَيُقَالُ لِلرَّجُلِ : " { مَنْ رَبُّك وَمَا دِينُك وَمَنْ نَبِيُّك ؟ فَـ {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} فَيَقُولُ الْمُؤْمِنُ : اللَّهُ رَبِّي وَالْإِسْلَامُ دِينِي وَمُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَبِيِّي، وَأَمَّا الْمُرْتَابُ فَيَقُولُ : هاه هاه لَا أَدْرِي سَمِعْت النَّاسَ يَقُولُونَ شَيْئًا فَقُلْته فَيُضْرَبُ بِمِرْزَبَةِ مِنْ حَدِيدٍ فَيَصِيحُ صَيْحَةً يَسْمَعُهَا كُلُّ شَيْءٍ إلَّا الْإِنْسَانُ وَلَوْ سَمِعَهَا الْإِنْسَانُ لَصَعِقَ ، ثُمَّ بَعْدَ هَذِهِ الْفِتْنَةِ : إمَّا نَعِيمٌ وَإِمَّا عَذَابٌ إلَى أَنْ تَقُومَ الْقِيَامَةُ الْكُبْرَى فَتُعَادُ الْأَرْوَاحُ إلَى الْأَجْسَادِ وَتَقُومُ الْقِيَامَةُ الَّتِي أَخْبَرَ اللَّهُ بِهَا فِي كِتَابِهِ وَعَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ وَأَجْمَعَ عَلَيْهَا الْمُسْلِمُونَ فَيَقُومُ النَّاسُ مِنْ قُبُورِهِمْ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلًا وَتَدْنُو مِنْهُمْ الشَّمْسُ وَيُلْجِمُهُمْ الْعَرَقُ ."أهـ

وفي "تاريخ بغداد" للخطيب البغدادي ( 7 / 66 ) دار الكتب العلمية. بيروت) :
لما مات "بشر بن غياث المرِّيسي" ، لم يشهد جنازته من أهل العلم والسُّنَّة أحد ؛ إلاَّ "عُبيد الشُّونيزيِّ" . فلما رجع من جنازة المرِّيسيِّ ؛ أقبل عليه أهل السُّنة والجماعة .
قالوا : يا عدو الله ! تنتحل السُّنة والجماعة ، وتشهد جنازة المرِّيسيِّ ؟
قال : أنظروني حتى أخبركم .
ما شهدت جنازة رجوت فيها من الأجر ما رجوت في شهود جنازته .
لما وُضِعَ في موضع الجنائز قمت في الصف فقلت :
اللهمَّ عبدك هذا كان لا يُؤمِن برؤيتك في الآخرة ؛ اللهمَّ فاحجبه عن النَّظر إلى وجهك يوم ينظر إليك المؤمنون . اللهمَّ عبدك هذا كان لا يُؤمِن بعذاب القبر ؛ اللهمَّ فعذِّبه اليوم في قبره عذابًا لم تُعذِّبه أحد مِن العالمين .
اللهمَّ عبدك هذا كان يُنكِر الميزان ؛ اللهمَّ فخفِّف ميزانه يوم القيامة .
اللهمَّ عبدك هذا كان يُنكِر الشفاعة ؛ اللهمَّ فلا تشفع فيه أحدٌ من خلقك يوم القيامة .
قال : فسكتوا عنه وضحكوا )). أهـ

وقال الشيخ العلامة "محمد صالح العثيمين" ـ رحمه الله ـ: (( لقد ضل قوم من أهل الزيغ فأنكروا عذاب القبر، ونعيمه ، زاعمين أن ذلك غير ممكن لمخالفة الواقع، قالوا فإنه لو كشف عن الميت في قبره لوجد كما كان عليه، والقبر لم يتغير بسعة ولا ضيق.
وهذا الزعم باطل بالشرع ، والحس ، والعقل:
أما الشرع: فقد سبقت النصوص الدالة على ثبوت عذاب القبر ، ونعيمه ... مما يلتحق بالإيمان باليوم الآخر.
وفي صحيح البخاري - من حديث - ابن عباس رضي الله عنهما قال: "خرج النبي صلى الله عليه وسلم من بعض حيطان المدينة ، فسمع صوت إنسانين يعذبان في قبورهما" وذكر الحديث ، وفيه : "أن أحدهما كان لا يستتر من البول" وفي -رواية - " من (بوله) وأن الآخر كان يمشي بالنميمة".
وأما الحس: فإن النائم يرى في منامه أنه كان في مكان فسيح بهيج يتنعم فيه، أو أنه كان في مكان ضيق موحش يتألم منه، وربما يستيقظ أحياناً مما رأى ، ومع ذلك فهو على فراشه في حجرته على ما هو عليه ، والنوم أخو الموت ولهذا سماه الله تعالى " وفاة " قال الله تعالى: { الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى } [سورة الزمر، الآية: 42].
وأما العقل : فإن النائم في منامه يرى الرؤيا الحق المطابقة للواقع ، وربما رأى النبي صلى الله عليه وسلم على صفته ، ومن رآه على صفته فقد رآه حقاً ومع ذلك فالنائم في حجرته على فراشه بعيداً عما رأى ، فإن كان هذا ممكناً في أحوال الدنيا ، أفلا يكون ممكناً في أحوال الآخرة ؟!
وأما اعتمادهم فيما زعموه على أنه لو كشف عن الميت في قبره لوجد كما كان عليه ، والقبر لم يتغير بسعة ولا ضيق ، فجوابه من وجوه منها:
الأولى: أنه لا تجوز معارضة ما جاء به الشرع بمثل هذه الشبهات الداحضة التي لو تأمل المعارض بها ما جاء به الشرع حق التأمل لعلم بطلان هذه الشبهات وقد قيل:

وكم من عائب قولاً صحيحاً …… وآفته من الفهم السقيم

الثاني: أن أحوال البرزخ من أمور الغيب التي لا يدركها الحس، ولو كانت تدرك بالحس لفاتت فائدة الإيمان بالغيب، ولتساوى المؤمنون بالغيب، والجاحدون في التصديق بها.
الثالث: أن العذاب والنعيم وسعة القبر وضيقه إنما يدركها الميت دون غيره، وهذا كما يرى النائم في منامه أنه في مكان ضيق موحش، أو في مكان واسع بهيج، وهو بالنسبة لغيره لم يتغير منامه هو في حجرته وبين فراشه غطائه ، ولقد كان النبي  - صلى الله عليه وسلم -  يوحي إليه وهو بين أصحابه فيسمع الوحي، ولا يسمعه الصحابة ، وربما يتمثل له الملك رجلاً فيكلمه والصحابة لا يرون الملك، ولا يسمعونه)).[ شرح الأصول الثلاثة ص / 108 وما بعدها].

قلت: ولما كان عذاب القبر ونعيمة من المسلمات بين علماء المسلمين، وجد شيء من الإشارة إليه في أشعارهم.
فتجد شهيد الدار ( عثمان بن عفان ) ـ رضي الله عنه ـ ينشد على قبر :

فإن تَنْجُ منها تَنْجُ مِنْ ذِي عظيمة  ..   وإلا فإني لا إخَالُكَ ناجيا»

وقال أبو بكر بن أبي داود السجستاني ـ رحمه الله ـ  في حائيته :
وبالقدر المقدور أيقن فإنه ... دعامة عقد الدين والدين أفيح

ولا تنكرن جهلاً نكيراً ومنكراً ... ولا الحوض والميزان إنك تنصح

وقل يخرج الله العظيم بفضله ... من النار أجساداً من الفحم تطرح

على النهر في الفردوس تحيي بمائه ... كحبة حمل السيل إذ جاء يطفح

فإن رسول الله للخلق شافع ... وقل في عذاب القبر حق موضح

ولا تكفرن أهل الصلاة وإن عصوا ... وكلهم يعصي وذو العرش يصفح

وقال ابن مشرف الأندلسي في ديوانه :
وأن سؤال الفاتنين محقق ** لكل صريع في الثرى حين يجعل
يقولان ماذا كنت تعبد ما الذي ** تدين ومن هذا الذي هو مرسل فيا رب ثبتنا على الحق واهدنا ** إليه وأنطقنا به حين نسأل
وأن عذاب القبر حق وروح من ** أودى في نعيم أو عذاب يعجل فأرواح أصحاب السعادة نعمت ** بروح وريحان وما هو أفضل وتسرح في الجنات تجني ثمارها ** وتشرب من تلك المياه وتأكل
ولكن شهيد الحرب حي منعم ** فتنعيمه للروح والجسم يحصل
وأرواح أصحاب الشقاء مهانة ** معذبة للحشر والله يعدل
وأن معاد الروح والجسم واقع ** فينهض من قد مات حيا يهرول

وقال الشيخ خالد بن عبد المعبود ( أبو قدامة المصري ):
وَالْقَبْرُ إِمَّا رَوْضَةٌ مِنْ جَـنَّةٍ =     أَوْ حُفْرَةٌ مِنَ الْجَحِـيمِ الْمُصْطَلَىٰ
فَإِنْ  يَكُنْ  لِمُـؤْمِنٍ يَضُمَّـهُ = كَـأُمِّـهِ  مُـبَشِّـرًا  مُـهَـلِّلا
وَإِنْ  يَكُنْ  لِفَـاجِـرٍ  يَغُمَّـهُ = مُحَـطِّمًا  ضُـلُوعَـهُ  مُـنَكِّلا
وَالْمَـلَكَانِ  يَأْتِـيَانِ  يَـنْهَـرَا = نِـهِ وَ يُجْـلِسَـانِهِ لِـيُسْـأَلَ
عَنْ رَبِّهِ وَدِيـنِهِ وَعَنْ رَسُـو = لِـهِ فَلا يَدْرِي وَلَنْ يُمَـهَّلَ
فُـيُضْـرَبَنَّ  بِالْحَـدِيدِ  ضَرْبَةً = فَـيَصْرُخَنَّ  صَرْخَـةً  مُخَرْدَلا
فَيَسْمَعَـنَّهُ سِوَىٰ إِنْسٍ وَجَـا = نٍ إِذْ هُمَا لِلصَّوْتِ لَنْ يَحْـتَمِلا
وَ يَأْتِيَـنَّهُ جَـلِيسٌ رِيـحُـهُ = قَـبِيحَةٌ كَوَجْـهِهِ تَحْوِي الْقِلَىٰ
بِئْسَ الْجَلِيسُ وَالأَنِيسُ إِذْ هُوَ الْــ = خَبِيثُ مِنْ أَعْمَالِهِ فِيمَا خَلا
وَ يُفْـتَحَنَّ لِلْجَحِـيمِ مَـنْفَذٌ = فَـيَصْلَيَنَّ مِنْ سَمُومِهَا الْبَـلا
وَ يُفْرَشَنَّ قَـبْرُهُ مِنْ جَـمْرِهَا = بِئْسَتْ وَسَاءَتْ حُـفْرَةً وَمَوْئِلا
أَمَّـا اللَّبِيبُ الْمُؤْمِنُ التَّـقِيُّ فَالْ جَـوَابُ عِنْدَهُ يَسِـيرٌ سُهِّلَ
الله رَبِّي ، دِيـنِيَ الإسْـلامُ  ذا = مُحَـمَّدٌ لِلأَنْبِـيَاءِ مُـكْمِـلا
فَـيُكْرَمَنْ  وَ يُفْسَحَنَّ  قَـبْرُهُ = وَ يُمْـلأَنَّ  خَـضِـرًا  وَ مَـنْدَلا
وَ يَأْتِيَـنَّهُ  جَـلِيسٌ  رِيـحُـهُ = مِسْكٌ  وَوَجْـهُهُ  جَمِيلٌ  قَدْ  حَلا
نِعْمَ الْجَلِيسُ وَالأَنِيسُ إِذْ هُوَ الْــ = مَـقْـبُولُ مِنْ أَعْمَالِهِ فِيمَا خَلا
وَ يُفْـتَحَنَّ  بَابُ  جَـنَّةٍ  لَـهُ = وَ يُلْبَسَنَّ مِنْ كُـنُوزِهَا  الْحُلَىٰ
وَ يُفْرَشَنَّ قَـبْرُهُ مِنْ فَضْلِهَا = نِعْمَتْ وَطَابَتْ رَوْضَةً وَمَـنْزِلا
وَالْحَـقُّ فِي الأَجْسَادِ أَنْ يَـنَالَهَا = فِي الْقَـبْرِ كَالأَرْوَاحِ خَيْرٌ أَوْ بَلا
[منظومة (النصيحة في العقيدة الصحيحة)، لم تنشر بعد].

قلت : ويتبقى أمر مهم، وهو: أننا نرى كثيرا من المسلمين يشتهون مشاهدة مثيري البدع هؤلاء، فما يخرج مبتدع أو مشبوه بفكرة غريبة إلا ويجتمع عليه الناس وتتسابق على أخباره، مما جعل الفضائيات ـ التجارية ـ تبحث عن أمثال هؤلاء من أجل تحقيق أكبر نسبة مشاهدة، ولا تسأل عن إفساد عقائد الناس ولا عن أخلاقهم، فتارة يأتون بملحد يشك في وجود الله، وتارة يأتون بمن يعبد الشيطان!، وكما معنا هنا منكروا عذاب القبر ، وغيرهم من أصحاب الزبالات الفكرية.
والذي ينبغي على المسلم عدم التعرض للشبه والبدع لا البحث والتنقيب عنها.
قال الإمام الذهبي ـ رحمه الله ـ بعد أن ذكر قول الإمام " سفيان الثوري" :  "من أصغى بسمعه إلى صاحب بدعة، وهو يعلم، خرج من عصمة الله، ووكل إلى نفسه".
وقال : "من سمع ببدعة فلا يحكها لجلسائه، لا يلقها في قلوبهم".
قال الذهبي الإمام معقباً : "أكثر أئمة السلف على هذا التحذير، يرون أن القلوب ضعيفة، والشبه خطافة".[ السير ( 7 / 261 ) مؤسسة الرسالة ـ ط التاسعة ].
قلت: فهذه أصل ينبغي على المسلم عدم الغفلة عنه، وهو أن : " القلوب ضعيفة، والشبه خطافة".
فلا يأمن على نفسه ويظن فيها العصمة وعدم الفتنة، لأن هذه الشبة والمحدثات إنما منشأها من مكر وكيد الشيطان.
فإنه لما نزل الله ـ عز وجل ـ تحريم أكل الميتة ، قال المشركون للمسلمين: "ما قتل ربّكم فلا تأكلون، وما قتلتم أنتم تأكلونه ؟!"
فوقع في أنفس ناس من المسلمين من ذلك شيء ـ لقوة الشبهة ـ فنزل قوله تعالى : [وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ } [ الأنعام :121].[ انظر تفسير الطبري].

فلا تتهاون أخي في هذا الأمر، واتق الله ـ عز وجل ـ في نفسك،  ولا تعرضها للفتن فتهلك، ولا تكن ممن يروج لأفكار هؤلاء المنحرفون بتعظيمك لشبههم وأنت تتكلم عنهم، فتكون ممن كثر سواد المبتدعين وألقى الرعب في قلوب المسلمين.
نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يحسن ظننا فيه، وأن يجعل لنا من رحمته وعفوه ومغفرته ولطفه ما لم يخطر لنا على بال.
نسأل الله العظيم أن يتلقانا برحمته أحياءً وأمواتاً، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.

الهامش
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1)          : انظر تفصيل هذا في الموسوعة الميسرة (ص / 64 ) وما بعدها، ط الخامسة.

(2)          : فأهل الكتب السابقة كانوا على علم بعذاب القبر،  ففي
إنجيل لوقا: " ومات الغني ودفن ، فرفع عينيه في الهاوية وهو في العذاب "