التحفة في حكم حلق العلم قبل
صلاة الجمعة.

الحمد لله وحده، والصلاة
والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد:
فقد سألني أحد الإخوة من طلبة الحديث عن
سبب إعلال الإمام الترمذي لحديث النهي عن التحلق يوم الجمعة قبل الصلاة، فقد قال
بعد أن أخرج الحديث: "حديث عبد الله بن عمرو بن العاص حديث حسن".
فهل ضعّفه بسبب أنه من رواية "عمرو
بن شعيب"، أم بسبب تفرد " محمد
بن عجلان" ببعض الزيادات؟
والجواب -بحول الله وقوته- على هذا
السؤال يحتاج إلى بسط عدة مسائل حتى يُفهم على وجهه الصحيح.
لأنه يُشكل على كثير من الناس حتى على
بعض المنشغلين بهذا العلم فهم أن حكم الترمذي -رحمه الله- على حديث بالحسن يعد إعلالًا
له، وليس كما هو مشهور أنه يقصد بقوله هذا الصحة والقبول.
وأول ما ينبغي فهمه في هذا المقام:
إن من الأخطاء المنهجية المعاصرة -بل وجد بعضها
عند جماعة من المتأخرين- مخالفة سنة المحدثين الأوائل في طلب العلو، فإن العلو منهج
عند المحدثين، حتى أن بعض السلف من أئمة هذا الشأن كان يُخرج الحديث في كتابه من
طريق راوٍ متكلّم فيه، وعنده نفس الحديث من طريق أقوى وأنظف، ليس لشيء إلا طلبًا
للعلو.
فهذه سنة لهؤلاء الأئمة، فقبيح جدًا بمن
أراد أن يسلك سبيلهم أن يزهد في الحديث من مصدر متقدم ليقبله ويخرجه من مصدر
متأخر، لأنه ربما دخل عليه التحريف، أو تساهل المتأخر وتصرف في الإسناد أو المتن.
كما أن من القبيح أيضًا أن يقبل جرحٌ من
عالم متأخر في عالم متقدم، خاص إن كان هذا العالم المتقدم من أصحاب كتب المسندة
التي عليها مدار السنة، كالإمام الترمذي، فإنه يستحيل أن يصل هذا المتأخر -مهما
بلغ من العلم والتحصيل- إلى مرتبة هذا المتقدم، فهذا ضد ما جاءت به نصوص الشريعة.
فخيرية هذه الأمة وعافيتها كانت في قرنها الأول، ثم بدأت هذه الخيرية تقلّ مع مرور
الزمان.
قال الله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ
لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ
دِينًا}. [المائدة: 3].
قال
عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- : "فأكمل الله لنا الأمر، فعرفنا أن الأمر بعد ذلك
في انتقاص".
وقال النبي -صلى الله عليه وسلم- قال:
"خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يجيء أقوام تسبق شهادة
أحدهم يمينه، ويمينه شهادته". [متفق
عليه].
فمن نقصان الخير في الأمة، ذهاب بعض علمها كلما
مرّ عليها الزمان، وهذا يحدث بموت العلماء، فلا شك علم التابعين كان أقل من علم الصحابة،
وعلم تابعي التابعين أقل من علم التابعين، وهكذا .
فعن عبد الله بن عمرو بن العاص قال : سمعت
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إن الله لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه
من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء".[متفق عليه].
فخيرية الأمة وعافيتها كانت في قرنها الأول، ثم هذا الخير في نقصان حتى
يقبض الله الأرض ومن عليها.
أردت التذكير بهذه المسلمات لتهيئة
القارئ لتصور المسألة محل البحث؛ فإن الباحث إن كان عندهم تصور مغلوط قبل بداية
بحثه كانت نتيجة بحثه مغلوطة ومشوهة.
ومن التصور المغلوط في هذا الباب: تصور
أن الإمام الترمذي -رحمه الله- هذا الإمام الفحل، إمام العلل، خريج إمام الصنعة
الإمام البخاري، وكذا هو تلميذ الإمام أبي زرعة الرازي، والإمام
الدارمي والإمام مسلم بن الحجاج -رحمهم
الله جميعا-.
هذا الإمام الذي يذهب كثير من العلماء إلى
أن كتابه -جامع الترمذي- من أفضل كتب السنن بعد الصحيحين، إذ أن نفع هذا الكتاب متعدٍّ
فليس هو كتابًا ينتفع به أهل التخصص والصنعة وحدهم ككثير من كتب الحديث، بل هو
كتاب يستطيع عامة المسلمين الاستفادة منه بسهولة.
وهذا حق -بإذن الله- ؛فإن الترمذي لم
يترك حديثًا في كتابه إلا وقد حكم عليه في الغالب، فالقارئ لكتابه يعلم صحة الحديث
أو ضعفه.
كما أنه يذكر بعد كل حديث مذهب العلماء
في العمل به، فيذكر فقه الحديث، ويترجم للرواة، ويتكلم عن علل الأحاديث، ويوضح
المهمل، ويشرح المُشكل، ويفسر الغريب، وهذا لا يوجد في كتاب غيره.
كما أن للإمام الترمذي كتاب العلل الصغير،
والذي يعتبر كتابًا مختصرًا في مصطلح الحديث.
وله كتاب العلل الكبير، الذي تتبع فيه
علل جملة كبيرة من الأحاديث وفنَّدها، وذكر في أغلبها حكم شيخه البخاري عليها، وذلك
من خلال سؤالات تبيّن فطنة هذا الإمام وفهمه لغوامض هذا العلم، فإن مجرد السؤال عن
علة حديث يبيّن قوة السائل وتحرّيه.
كما أنه أعلَّ أحاديث كثيرة في جامعه
وتكلم عن علّتها، ولم ينقل هذا عن غيره.
فمن التصور المغلوط والفهم الفاسد تصور
تساهل وغفلة هذا الإمام.
وهو ما نجده مع شديد الأسف في مخيّلة
وتصور كثير من المنشغلين بعلم الحديث في هذا العصر، كأنه من المسلمات عندهم تساهل
الإمام الترمذي، وأنه رخو النفس في التضعيف.
وهذا خطأ منهجي فاحش، إذا انطلق منه الباحث سيخرج
حتمًا بنتيجة بحث مغلوطة مشوهة، وهو مع ذلك يظن أنه يحسن صنعًا.
وسبب هذا الخطأ المنهجي عندي، هو ما
ذكرناه انفًا، من عدم الالتزام بسنة المحدثين في طلب العلو، وقبول كلام عالم متأخر
في عالم متقدم.
وهذا الخلل المنهجي بدأ من الإمام الذهبي
-رحمه الله- ، وتابعه عليه من جاء بعده؛ بل بعضهم لم يكتفِ بالمتابعة وحسب، ولكنهم
سلموا بالنتيجة وأصَّلوا عليها قواعد وأصولًا، بزعم أن الذهبي: من أهل الاستقراء
التام!.
فأصبح عندهم ما قرره الذهبي في منهج
الإمام الترمذي، كأنه قاعدة مسلم بها لا تقبل النظر ولا النقاش.
والحق أن الذهبي أساء جدًا للإمام
الترمذي؛ وأوقعه هذا الخطأ المنهجي في جملة من الأخطاء، منها:
ـ توثيق ضعفاء زعم أن الترمذي وثَّقهم.
ـ وتصحيح أحاديث زعم أن الترمذي صحَّحها.
ـ ورد كلام للإمام البخاري زعم أن الترمذي وهِم فيه.
وغير ذلك مما ينتج عن الأخطاء المنهجية التي تُخرج نتائج مشوهة.
والأمر باختصار حتى يُتصوَّر، فتصور العلم من أصول فهمه.
أن الإمام الذهبي -رحمه الله- في كتابه
الموقظة أقرَّ أنه على إياسٍ من الوقوف على حدٍّ للحديث الحسن، فقال: "ثم لا تطمع
بأن للحسن قاعدة تندرج كل الأحاديث الحسان فيها، فأنا على إياسٍ من ذلك!، فكم من حديث
تردد فيه الحفاظ: هل هو حسن؟ أو ضعيف؟ أو صحيح؟ بل الحافظ الواحد يتغير اجتهاده في
الحديث الواحد: فيومًا يصفه بالصحة، ويومًا يصفه بالحسن، ولربما استضعفه!، وهذا حق،
فإن الحديث الحسن يستضعفه الحافظ عن أن يرقِّيه إلى رتبة الصحيح.
فبهذا الاعتبار فيه ضعف ما، إذ
الحسن لا ينفك عن ضعف ما. ولو انفك عن ذلك، لصحَّ باتفاق".
قلت: هذا ما أقرَّ به الشيخ في أول مبحث الحديث
الحسن في كتابه الموقظة، أنه حديث مُشكل عنده، وأن العلماء في تردد من وضع حدٍّ
للحديث الحسن.
ثم ذكر تعريف الإمام الترمذي للحديث
الحسن عنده، وما قاله العلماء في شرح معناه، وما يُشكل من قوله: "حديث حسن
صحيح" و "حديث حسن غريب" و "حديث حسن صحيح غريب".
وأن هذه التراكيب معناها مُشكل لا يتضح.
قلت: لو كان وقف الإمام الذهبي عند هذا
الحد، لأحسن لنفسه ولغيره؛ إذ أنه شهد على أنه على أياسٍ من فهم الحديث الحسن، كما
أنه يُشكل عليه مقصد الترمذي من هذه التراكيب التي استخدمها في جامعه.
غير أن الذهبي بعدها ارتضى حدًّا للحديث
الحسن، وهو التعريف المشتهر في كتب المصطلح المتأخرة، أنه الحديث الذي تتوافر فيه
شروط الحديث الصحيح، غير أنه يخالفه في شرط ثقة الرواة، فالحديث الصحيح يرويه ثقة
تام الضبط، والحديث الحسن يرويه صدوق خفيف الضبط.
ظهر هذا الفهم منه عندما تكلم عما عرفه:
" بأعلى مراتب الحسن".
والتي ذكر في هذه المراتب، حديث " عمرو
بن شعيب، عن أبيه، عن جده".
ثم انطلق بعدها الذهبي في كتابه هذا، وفي
غيره من الكتب يطعن في الإمام الترمذي إذا خالف هذا الوصف للحديث الحسن الذي
ارتضاه هو!.
فقال في الموقظة وهو ينبِّه على مراتب
أئمة الجرح والتعديل: "فمنهم من نفسه حاد في الجرح، ومنهم من هو معتدل، ومنهم
من هو متساهل".
فالحاد فيهم: يحيى بن سعيد، وابن
معين، وأبو حاتم، وابن خراش، وغيرهم.
والمعتدل فيهم: أحمد بن حنبل،
والبخاري، وأبو زرعة.
والمتساهل كـ: الترمذي، والحاكم،
والدارقطني في بعض الأوقات".
قلت:
فصرَّح الذهبي -عفا الله عنه- بتساهل الإمام الترمذي، وهو قول لا يعرف له فيه سلف
من عالم متقدم.
وقال الذهبي -رحمه الله-:
"اعلم هداك الله أن الذين قَبِلَ الناسُ قولَهم
في الجرح والتعديل ... على ثلاثة أقسام:
1 - قسم متعنت في الجرح، متثبّت
في التعديل، يغمز الراوي بالغلطتين والثلاث...
2 - وقسم في مقابلة هؤلاء كأبي
عيسى الترمذي، وأبي عبد الله الحاكم، وأبي بكر البيهقي، متساهلون.
3 - وقسم كالبخاري، وأحمد بن حنبل
وأبي زرعة وابن عدي: معتدلون ومنصفون".
وقال
في سير أعلام النبلاء: "جامعه قاضٍ له بإمامته وحفظه وفقهه. ولكن يترخّص في قبول
الأحاديث، ولا يُشدّد. ونَفْسهُ في التضعيف رَخو".
وقال في تاريخ الإسلام: "والترمذي يتساهل في
الرجال".
وقال في ترجمته في نفس الكتاب: "وكتابه
الجامع يدل على تبحره في هذا الشأن، وفي الفقه، واختلاف العلماء. ولكنه يترخَّص في
التصحيح والتحسين، ونفسه في التخريج ضعيف".
هذا، وسيأتي قريبًا توهيم الذهبي للإمام
الترمذي -رحمهما الله- .
وأردت من هذا التتبُّع بيان أن هذا ليس خطأً عارضًا
أو سبق لسان، وإنما هو خطأ منهجي وقع فيه الذهبي، ترتَّبت عليه نتائج مشوَّهة.
كما نجد ذلك في ترجمة الذهبي لـ "زياد
بن الحسن بن الفرات القَزّاز"، قال أبو حاتم: منكر الحديث. وحسَّن الترمذي له.
وقال في ترجمة : "محرز بن هارون القرشي التيمي":
"قال البخاري: منكر الحديث.
وقد حسَّن له الترمذي، ووهاه غيره،
والجمهور على تضعيفه".
هذا؛ ولا أريد الاستطراد في هذه المسألة، فقد
وضعت لها بحثًا مستقلًا، بيَّنت فيه مذهب الإمام الترمذي في الحديث الحسن، والأدلة
الكثيرة على صحة هذا المذهب عنده، ومن أين دخل الوهم على الإمام الذهبي في هذه
المسألة، والتي كررها بحذافيرها مع الإمام الحاكم النيسابوري -رحمه الله-؟
وخلاصة القول في الإمام الترمذي حتى ننتقل لنقطة أخرى:
إن الترمذي -رحمه الله- كشيخه البخاري، من حيث
توثيق الرواة، يبيّن ضعف الراوي من غير ألفاظ شديدة، كأن يقول: فلان أهل الحديث يضعّفونه،
أو أنه ليس قويًا عند أهل الحديث..
وقلَّ أن ينسب لنفسه جرح راوٍ، وإنما في العادة ينقل عن غيره.
فكأنه أخذ هذا المنهج وهذا الخلق من شيخه البخاري -رحمهما الله-.
وأما في التصحيح والتضعيف، فهو لا يطلق
الصحة على الحديث إلا إذا توفَّرت فيه شروط الحديث الصحيح المشهورة.
أما إن وقع ضعف في الحديث ولو يسيرًا،
فإنه يُعِلّ الحديث، كأن يكون راوي الحديث مختلف عليه، عندها يُعِلّ الترمذي
الحديث بهذا ويصفه بالحسن.
والترمذي شرطه في كتابه: أنه يخرّج
الأحاديث التي عمل به الفقهاء أو بعضهم ولم يهجروها، فلا يخرج حديث إلا وعليه
العمل، وليس في كتابه على غير هذه الصفة حديثان، نبَّه هو عليهما.
فالحديث الذي يخرّجه الترمذي في جامعه ربما
كان ضعيفًا، ومع ذلك عليه العمل لثبوت ما فيه من حكم بأحاديث أخرى صحيحة، أو ثبوت
هذا الحكم بآية في كتاب الله، أو قام الإجماع على هذا الحكم، أو صح هذا القول عن أحد الصحابة ولم يعلم
له مخالف، وهكذا..
فالترمذي هنا لا يخرّج الحديث المعلَّ في
جامعه من باب الاحتجاج به، ولكن من باب الاستئناس، وأن العلماء يستدلون بهذا
الحديث على هذا الحكم، وأيضًا لينبّه على علَّته.
فإنه لا يترك حديثًا في كتابه من غير
بيان درجته من الصحة أو الضعف، غير أنه من النادر جدًا وصفه للحديث بالضعف في
كتابه.
وإنما يستبدل كلمه ضعيف بكلمة حسن
في الغالب، وهذا هو السمة الغالبة في كتابه".
فقسمة الحديث عند الترمذي، قسمة ثنائية،
فالحديث عنده أما صحيح وأما ضعيف.
ولكنه يعبّر عن الحديث الضعيف بقوله: حديث
حسن.
فنجده يقول: حديث حسن، وإسناده ليس بمتصل.
ويقول: حديث حسن، وإسناده ليس بذاك.
ويقول حديث حسن، ثم يذكر اختلاف الرواة في رفعه ووقفه.
ويقول: حديث حسن، ثم يذكر أن فيه فلانًا
وهو ضعيف عند أهل الحديث، أو أن فيه فلانًا وهو لم يسمع من فلان، وهكذا.
أو يقول: حديث حسن، ويخرّجه في كتابه العلل الكبير، ويتكلم على علته بالتفصيل.
فالحديث الحسن عند الترمذي حديث معلول،
لكنه لا يشترط أن تكون العلة غامضة أو خفية كما هو الأصل، بل يُدخل ضعف الرواة ضمن
العلل.
فالحديث الحسن عنده حديث فيه ضعف ما
يمنع القول بصحته، ومع هذا وجد من عمل به من العلماء.
ومن تأمَّل تعريفه للحديث الحسن ظهر له
هذا بجلاء، فإنه قال في تعريفه: "وما ذكرنا في هذا الكتاب حديث حسن؛ فإنما أردنا
به حُسْنَ إسناده عندنا: كل حديث يروى لا يكون في إسناده من لا يُتَّهم بالكذب، ولا
يكون الحديث شاذًا، ويُروى من غير وجه نحو ذاك فهو عندنا حديث حسن".
فذكر -رحمه الله- شروط الحديث الحسن
عنده وليس عند غيره من العلماء، فهذا تعريف خاص به هو، فإنه كرر كلمة "عندنا"
مرتين تنبيهًا عليها.
كما أن هذه الشروط المذكورة خاصة بهذا الكتاب
وحده دون غيره، فهو تعريف خاص بهذا الكتاب فقط. فربما خالفها في كتاب آخر.
فمن هذه الشروط: أن راوي الحديث الحسن
عنده ليس هو راوي الحديث الحسن في مصطلح من جاء بعده، وهو الراوي الصدوق خفيف
الضبط.
وإنما
هو راوٍ فيه ضعف شديد نسبيًا، كأن يكون مختلطًا، أو كثير الأوهام والغفلة، أو مدلسًا
يكثر الإرسال والتدليس.
ولكن لا يصل به هذا الضعف إلى أن يُتَّهم بالكذب،
إذ أن حديث المتهم بالكذب يُترك بالكلية، فلا يَصلح في الشواهد أو المتابعات ولا يتقوَّى
بحال.
فالحديث الذي يتكلم عنه الترمذي حديث فيه
علة أو أكثر، لا تجعله حجة في ذاته، ومع ذلك لم يهجره العلماء، أو يتركوا العمل به، لأنه يوجد له وجه في الشريعة صحيح، من قرآن أو سنة صحيحه
تؤيّده، أو إجماع.
ثم يؤكد
أنه رغم وجود علة في الحديث الحسن عنده، كالانقطاع أو ضعف الرواة مثلًا، فإنه يشترط
ألا يكون شاذًا"
لأن الحديث الشاذ لا يُعمل به ويُهجر أيضًا؛ إذ
إنه شذَّ وخالف الشريعة الصحيحة الثابتة، فالحديث الشاذ خطأ متحقَّق.
فإذا نظرنا في تعريف الترمذي للحديث
الحسن، نجده لم يذكر في شروطه: اتصال السند، ولا عدالة الرواة ولا الضبط ولا انتفاء
العلة.
فالحديث الحسن -المجرَّد- عند الترمذي يشترك مع
الحديث الحسن عند العلماء في الاسم، ويختلف في الشروط.
فالحديث الحسن عنده هو الحديث المعل الذي لا تقوم
به الحجة بمفرده، والحديث الحسن عند العلماء هو حديث مقبول تقوم به الحجة إذ أنه من
أقسام الصحيح.
فإن أضاف الترمذي للحديث الحسن وصفًا آخر، كأن يقول:
حسن صحيح، أو حسن غريب ، أو حسن صحيح غريب، أو غريب حسن.
فهو هنا يخالف هذا المصطلح الذي عرفه آنفًا،
فهذا التعريف خاص بقوله: حديث حسن فقط.
وهو -رحمه الله- في كتابه العلل الصغير
لم يُعرّف إلا الحديث الحسن والحديث الغريب، وذلك لأنهما لهما معنى خاص في كتابه
هذا، فمن التزم بتعريفه أصاب مراده، ومن خالف ما ذكره في تعريفهما، وقع في التخرُّصات
وأساء إلى هذا الإمام الكبير.
فالترمذي إن قال مثلًا: "حديث حسن
صحيح"، فهو حديث اكتملت فيه شروط الصحة، وليس هو حديث فرد، وإنما رُوي معناه
من غير وجه.
فإن قال: "حديث حسن صحيح غريب"،
فالذهبي كان استشكل كيف يكون الحديث حسن، يعني رُوي من غير وجه، ويكون غريب يعني
حديث فرد؟، أو ما يُعرف بحديث الأحاد.
وأما الغرابة عند الترمذي فقد عرفها هو
كما في كتابه العلل الصغير أنها من الممكن أن تكون غرابة
نسبية، ولها صور، قال: "وما ذكرنا في هذا الكتاب حديث غريب، فإن أهل الحديث يستغربون
الحديث لمعان: رب حديث يكون غريبًا لا يروى إلا من وجه واحد ...
ورب رجل من الائمة يحدّث بالحديث لا يُعرف إلا من حديثه، فيشتهر الحديث لكثرة من روى
عنه... ورب حديث يُروى من أوجه كثيرة، وإنما يُستغرب لحال الاسناد".
قلت: فليس الحديث الغريب عند الترمذي -كما
توهَّم الذهبي وغيره- أنه الحديث الفرد فقط، بل له صور مختلفة.
فإن قال عن حديث: "حسن غريب"، فقد
يكون هذا منه زيادة في الإعلال، فمع وجود علة إسنادية في الحديث كالانقطاع مثلًا
جعلته يحكم عليه بالحسن، يكون أيضًا فيه غرابة سببها تفرد من لا يحتمل تفرده.
بيد أني وجدت الترمذي يحكم على أحاديث
بقوله: "حسن غريب"، وهو لا يريد بهذا اللفظ تضعيف الحديث، ولكن يكون الحديث عنده محتملًا، يظهر
هذا كله عند التحقيق ومحاولة فهم مراد الإمام، وليس محاكمته بتصورات وأفكار سابقة.
وبهذا يكون تعريف الترمذي للحديث الحسن، قاصرًا
فقط على الحسن المجرَّد ، وليس الحسن الصحيح، أو الحسن الغريب.
وأما ما ذكره الترمذي من شرطه أن الحديث الحسن عنده: "يُروى من غير وجه ".
ظهر لي من خلال التتبُّع مراد الإمام : إنه دائمًا يذكر شواهد أحاديث الباب بعد
تخريج الحديث، فيقول مثلًا: وفي الباب عن أنس وعائشة وابن عباس.
فإذا ذهبت تطلب لفظ الحديث يعجزك
أحيانًا، ولكنك تقف على المعنى في حديث من ذكرهم.
فمعنى كلامه -فيما ظهر لي-: أن هذا الحكم
الموجود في الحديث، موجود ومعروف من طرق أخرى، أو له شواهد في أحاديث من ذكرهم.
وأحيانًا يُعِلّ الحديث، فيقول: حديث
حسن، ثم لا يذكر تلك الشواهد، ويكون الوجه الذي اعتمده العلماء في العمل بهذا
الحكم في الحديث آية في كتاب الله، أو قول لصحابي، أو أنه قام عليه الإجماع، أو وافق
القياس أو أن هذا الحكم هو مذهب جمهور العلماء.
فالخلاصة: أن الترمذي يخرج أحيانًا
أحاديث معلة تنبيهًا على ضعفها، وفي نفس الوقت يؤكد على ثبوت الحكم المذكور فيها.
كما أنه في هذا المقام لا يسلك مسلك المتأخرين،
فيصحح الحديث بمجموع هذه الطرق، أو بالشواهد.
ولكنه
يحكم على كل حديث بعينه، ويتكلم على علته في أكثر الأحيان، وربما ذكر قول شيخيه
البخاري والدارمي في علة الحديث الذي حكم عليه بالحسن.
كما أن له طرق في إظهار العلل والتنبيه
عليها، يصعب على من قرأ كتابه مُقسَّمًا إلى صحيح وضعيف الوقوف عليها، ولكن لابد
من قراءة الكتاب على الصورة التي وضع عليها.
إذ
أنه أحيانًا يظهر علة الحديث بأن يقرن مع الحديث المعلول حديثًا صحيحًا، فتظهر علة
المخالفة، أو الاضطراب، أو وهم الراوي، أو غفلته عندما روى الحديث بالمعنى فحرَّف
معناه، وهكذا..
هذا؛ والمقام لا يحتمل الإطالة، ولكني كنت
احتاج إلى توضيح هذه المسألة المهمة، لأن عامة من حقَّق حديث التحليق يوم الجمعة،
زعم أن الترمذي -رحمه الله- حسَّن الحديث بالمعنى الاصطلاحي المتأخر، يعني أنه
حديث مقبول عنده.
وليس الأمر كذلك، وإنما الإمام أعَلَّ
الحديث بقوله: "حديث عبد الله بن عمرو بن العاص حديث حسن".
فترتب على هذا التصحيح المزعوم العمل
بهذا الحكم، ونسبته إلى السنة!.
وهذا
أوان الشروع في تحقيق حديث التحليق قبل صلاة الجمعة، وسيكون تحقيق هذا الحديث
تطبيقًا عمليًا لما ذكر آنفًا من منهج الإمام الترمذي في جامعه.
وأيضًا فرصة لتوضيح طريقة التعامل مع
أحاديث عمرو بن شعيب -رحمه الله-، إذ أن الذهبي -رحمه الله- الذي وصف الترمذي
بالتساهل، جعل حديث هذا الراوي في أعلى مراتب الحديث الحسن المقبول!.
قال الإمام الترمذي -رحمه الله- : "حدثنا
قتيبة قال: حدثنا الليث، عن ابن عجلان، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، عن رسول
الله -صلى الله عليه وسلم- أنه: "نهى عن تناشد الأشعار في المسجد، وعن البيع والاشتراء
فيه، وأن يتحلق الناس فيه يوم الجمعة قبل الصلاة" .
وفي الباب
عن بريدة، وجابر، وأنس،[و] "حديث عبد الله بن عمرو بن العاص حديث حسن".
ثم قال: "وعمرو بن شعيب هو ابن محمد
بن عبد الله بن عمرو بن العاص "، قال محمد بن إسماعيل [البخاري] :" رأيت
أحمد، وإسحاق، وذكر غيرهما يحتجون بحديث عمرو بن شعيب"، قال محمد [يعني: البخاري]:
"وقد سمع شعيب بن محمد، من عبد الله بن عمرو". "ومن تكلَّم في حديث
عمرو بن شعيب إنما ضعَّفه، لأنه يحدّث عن صحيفة جده، كأنهم رأوا أنه لم يسمع هذه الأحاديث
من جده" . قال علي بن عبد الله [المديني] : وذَكر عن يحيى بن سعيد أنه قال : "حديث
عمرو بن شعيب عندنا واهٍ".
"وقد كره قوم من أهل العلم البيع والشراء
في المسجد، وبه يقول أحمد، وإسحاق"، "وقد رُوي عن بعض أهل العلم من التابعين:
رخصة في البيع والشراء في المسجد"، وقد رُوي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في
غير حديث "رخصة في إنشاد الشعر في المسجد". اهـ
قلت: وأول ما يُنصح به في هذا المقام، هو
التأني في فهم كلام هذا الإمام ومحاولة معرفة مقصده ومراده.
فطريقته ومنهجه في تناول الأحاديث تحتاج
إلى تأمُّل وفهم، فإنه يُسند الحديث أولًا، ثم يذكر شواهد الباب إن وُجدت، ثم يذكر
حكمه على الحديث، ولو كان لشيخه البخاري كلامًا حول الحديث من جهة رواته أو إسناده
ذكر كلامه، وهذا كثير في كتابه، وكذا لو وجد كلامًا لأبي زرعة أو الدارمي يَذكره،
وأحيانًا يذكر هو كلامًا من نفسه في علة الحديث.
ثم يذكر قول الفقهاء في العمل بالحديث.
فهذه طريقته وهذا منهجه في كتابه.
فإذا نظرنا للحديث الذي معنا، وجدنا
الإمام ذكر شواهد أحاديث الباب، ثم حكم على الحديث فقال: "حديث عبد الله بن عمرو
بن العاص حديث حسن".
قلت: فهو بقوله: "حديث حسن" يُعِلّ
هذا الحديث، لأنه كما مر يَصف الحديث المعلول الضعيف بقوله: حديث حسن [فقط]،
كما أن هذا الحديث استوفى شروط الحديث الحسن
عند الترمذي، فقال: "وفي الباب عن بريدة، وجابر، وأنس"، فهو بذلك رُوي من
غير وجه.
ثم ذكر سبب إعلاله لهذا الحديث، وهو
خلاف العلماء في حديث عمرو بن شعيب، وأن من ضعَّف حديثه، ضعَّفه بسبب أنه وجادة،
فليس حديثه بمتصل، فهو يحدث من صحيفة وجدها.
ولذا نقل عن علي بن المديني أن يحيى بن سعيد
القطان قال: "حديث عمرو بن شعيب عندنا واهٍ".
هذا، مع صحة سماع شعيب بن محمد، من عبد الله
بن عمرو -رضي الله عنه-، كما قال البخاري.
ثم ذكر الترمذي سببًا آخر لإعلال الحديث،
وهو تفرد هذا المتن بحكم لم يأتِ من طرق أخرى، فالنهي عن التحلق قبل صلاة الجمعة لا يُعرف في
حديث آخر.
قال الترمذي: "وقد كره قوم من أهل العلم
البيع والشراء في المسجد، وبه يقول أحمد، وإسحاق "، "وقد روي عن بعض أهل
العلم من التابعين: رخصة في البيع والشراء في المسجد".
قلت: فالحديث ذكر ثلاثة نواهٍ:
1 ـ نهى عن تناشد الأشعار في المسجد.
2 ـ وعن البيع والاشتراء فيه.
3 ـ وأن يتحلّق الناس في المسجد يوم الجمعة قبل الصلاة.
فذكر الترمذي هنا كلام العلماء في حكم البيع والشراء في المسجد، وهذا الحكم ورد في
أحاديث أخرى، كحديث أبي هريرة مرفوعًا: "إذا رأيتم من يبيع أو يبتاع في المسجد،
فقولوا: لا أربح الله تجارتك، وإذا رأيتم من ينشد فيه ضالة، فقولوا: لا ردَّ الله عليك".
وقد رواه الترمذي من طريق عبد العزيز بن محمد
الدراوردي، وقال: حديث حسن غريب.
وذكر الترمذي أيضًا حكم إنشاد الشعر في
المسجد، فقال:" وقد رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم في غير حديث رخصة في إنشاد
الشعر في المسجد ".
قلت: ومن هذا ما أخرجه البخاري ومسلم من
حديث أبي هريرة، أن عمر، مرَّ بحسان وهو ينشد الشعر في المسجد، فلحظ إليه، فقال: قد
كنت أنشد، وفيه من هو خير منك، ثم التفت إلى أبي هريرة، فقال: أنشدك الله أسمعت رسول
الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: " أجب عني، اللهم أيّده بروح القدس"؟ قال:
اللهم نعم". اهـ
قلت: فالترمذي تكلّم هنا عن شواهد حكم
البيع والشراء في المسجد، وإنشاد الشعر فيه، وكلام العلماء فيهما.
غير أنه -عليه الرحمة- لم يتكلّم عن
مسألة التحلق قبل صلاة الجمعة، لم يذكر لها شواهد من السنة؛ لأنه لم تُرد إلا في
هذا الحديث المعلّ الضعيف، ولهذا لم يذكر كلام العلماء فيها مع وجود كلام لهم،
وذلك لأن كلام العلماء يُلتفت إليه عند صحة الحديث أولًا، فإن لم يصح، فلا اعتبار
هنا بكلام من يَتكلّم، لأن العلماء يُستدلّ لهم، ولا يُستدلّ بهم.
هذا؛ وقبل الانتقال إلى بحث كيفية
التعامل من أحاديث عمرو بن شعيب و سبب اختلاف العلماء عليها؟.
أُذكِّر بأن الإمام الذهبي الذي وصف
الإمام الترمذي بالتساهل، هو من جعل أحاديث عمرو بن شعيب في أعلى مراتب الحديث
الحسن المقبول.
وقد مرَّ معنا بالدليل أن الترمذي ليس
بمتساهل، فقد أعَلَّ حديث عمرو بن شعيب السابق، وأيضًا لم يصحّح له في كتابه بهذا
الإسناد المسلسل سوى أربعة أحاديث، يأتي ذكرها قريبًا بإذن الله.
و لا أقصد هنا بحال التقليل من شأن الإمام الذهبي أو تخشين
الكلام فيه، حاشا لله.
ولكني أريد دفع شبهة التساهل التي أُلصقت
بالإمام الترمذي -رحمه الله- .
ولذا أَذكر أيضًا كلامًا للذهبي قاله في
الترمذي، وسببه هذا الحديث الذي معنا.
قال الذهبي في ترجمة "عمرو بن
شعيب" في سير أعلام النبلاء: "وقال الترمذي: عن البخاري: رأيت أحمد، وعليًا، وإسحاق، وأبا عبيد، وعامة أصحابنا يحتجون بحديث عمرو بن شعيب، عن أبيه،
عن جده، ما تركه أحد من المسلمين، فمن الناس بعدهم؟
قلت [يعني: الذهبي]: أستبعد صدور هذه الألفاظ
من البخاري، أخاف أن يكون أبو عيسى وهم، وإلا فالبخاري لا يُعرج على عمرو، أفتراه يقول
فمن الناس بعدهم، ثم لا يحتج به أصلًا ولا متابعة؟ ".
قلت: فغمز الذهبي هنا الإمام الترمذي بالوهم
في نقله عن شيخه البخاري، ولم يقدّم بيّنة على ذلك إلا فهمه هو واستنتاجه، وهذا
كلام خطير.
فالترمذي -رحمه الله- نقل عن البخاري في كتابه
الجامع نحو ثلاثمائة مسألة، ما بين كلام في الرواة، وعلل الحديث، مع ما رواه عنه
بإسناده.
وكذا
نَقل عن أبي زرعة والدارمي، وإن لم يكن النقل عنهما كثيرًا. غير أن جامع الترمذي يتضمن
نقل أقوال نفيسة في علل الحديث عن الإمام الدارمي -رحمه الله-، فالتعريض بوهم هذا الإمام
لا يليق، لأن فتح باب الطعن في الناقل يُضعف المنقول.
كما أن الذهبي لم ينقل عن البخاري ما يخالف نقل
الترمذي، وإنما هو استنتاج توصل إليه بفهمه.
وهذا أردت التنبيه عليه في أول البحث: وهو عدم قبول قول عالم متأخر في عالم متقدم،
وقد مر معنا بالدليل كيف أنه من الممكن أن المتأخر يجانبه الصواب، ويفهم كلام
العالم المتقدم على غير وجهه؟ ويتبقى الآن
النظر في أحاديث عمرو بن شعيب، وكيفية التعامل معها؟
فعمرو بن شعيب ثقة في نفسه عند العلماء، وثَّقه
يحيى بن معين وأبو زرعة الرازي وغيرهما.
وقد روى عن أبيه فأكثر، وقد روى عن غيره، فروى عن سعيد بن المسيّب، وطاووس، وسليمان
بن يسار، وعمرو بن الشريد بن سويد، وعروة بن الزبير، ومجاهد، وعطاء، وسعيد المقبري،
وعاصم بن سفيان، والزهري.
روى صدقة بن الفضل، عن يحيى القطان، قال: "إذا روى عن عمرو بن شعيب الثقات، فهو ثقة، محتج به".
وقال أبو داود عن أحمد بن حنبل : "أصحابُ الحديث
إذا شاءوا احتجوا بحديث عمرو بن شعيب، عن أبيه ، عن جده، وإذا شاءوا تركوه" .
وقال أبو بكر الأثرم : سئل أبو عبد الله عن عمرو
بن شعيب، فقال : "أنا أكتب حديثه، وربما احتججنا به، وربما وجس في القلب منه شيء،
ومالك يروي عن رجلٍ عنه".
وقال أبو الحسن الميموني : "سمعت أحمد بن حنبل
يقول: له أشياء مناكير، وإنما يكتب حديثه يعتبر به، فأما أن يكون حجة فلا" .
وقال ابن عدي: " وعمرو بن شعيب في نفسه ثقة، إلا أنه إذا رَوى عن أبيه، عن
جده على ما نسبه أحمد بن حنبل يكون ما يرويه، عن أبيه، عن جده عن النبي -صلى الله عليه
وسلم- مرسلًا، لأن جده عنده هو: محمد بن عبد الله بن عمرو، محمد ليس له صحبة؛ وقد روى
عن عمرو بن شعيب أئمة الناس وثقاتهُم وجماعة الضعفاء، إلا أن أحاديثه عن أبيه عن جده
مع احتمالهم إياه لم يدخلوها في صحاح ما خرجوا، وقالوا: هي صحيفة".
وقال الحاكم في المستدرك: "قد أكثرت
في هذا الكتاب الحجج في تصحيح روايات عمرو بن شعيب إذا كان الراوي عنه ثقة، ولا يذكر
عنه أحسن من هذه الروايات، وكنت أطلب الحجة الظاهرة في سماع شعيب بن محمد عن عبد الله
بن عمرو فلم أصل إليها إلى هذا الوقت ".
وقال
في موطن أخر: " قيل لأحمد بن حنبل: عمرو بن شعيب سمع من أبيه شيئا؟ فقال: "هو
عمرو بن شعيب بن محمد بن عبد الله بن عمرو وقد صح سماع عمرو بن شعيب من أبيه شعيب،
وصح سماع شعيب من جده عبد الله بن عمرو ".
وقال أيضا: "لم أخرج من أول الكتاب إلى
هذا الموضع حديثا لعمرو بن شعيب، وقد ذكرت في أول كتاب الدعاء والتسبيح مذهب الإمام أبي سعيد عبد الرحمن بن مهدي في المسامحة في أسانيد
فضائل الأعمال".
وقال أيضًا: "فليعلم طالب هذا العلم
أن أحدًا لم يَتكلم قط في عمرو بن شعيب، وإنما تكلم مسلمٌ في سماع شعيب من عبد الله
بن عمرو، فإذا جاء الحديث عن عمرو بن شعيب، عن مجاهد، عن عبد الله بن عمرو فإنه صحيح".
قلت: فحديث عمرو بن شعيب يصلح عند العلماء في
أبواب دون أخرى، فحديثه إن جاء عن غير أبيه، ورواه عنه ثقة، وكان الإسناد لا علة
فيه، فهو حديث مقبول عند العلماء، لأن عمرو ثقة.
وأما إن جاء حديثه بهذا الإسناد المشهور،
وقع هنا الخلل والخلاف، فمن العلماء من احتج بحديثه في باب الرقاق والترهيب
والترغيب إن لم يحمل نكارة، ومنهم من رد هذه السلسلة بالكلية وقال أنها صحيفة،
وليس إسنادها بمتصل.
ويُشكل هنا أنه صح سماع شعيب بن محمد، من
عبد الله بن عمرو كما مر في كلام البخاري السابق.
وأيضًا صح سماع عمرو من أبيه شعيب، فكيف
يقال أن هذا سند ليس بمتصل؟
يوضح هذا الإمام يحيى بن معين -رحمه الله-،
قال: "هو عمرو بن شعيب بن محمد بن عبد الله بن عمرو بن العاص، وهو يقول : أبي
عن جدي، فمن هاهنا جاء ضعفه".
قلت: فهذا الإمام الجهبذ يشير إلى أن: الأب
هو شعيب، والجد الأول هو محمد، ومحمد هذا لم يدرك الرسول
-صلى الله عليه وسلم-، وإنما جد جده هو الصحابي عبد الله بن عمرو بن العاص.
فالمفترض أن يكون السند على هذا النحو: عن عمرو
بن شعيب عن أبيه عن جده عن جد جده، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: كذا وكذا.
فالإسناد المشهور سقط منه رجل، ومن هنا جاء ضعف
هذه السلسة.
هذا، وللعلماء كلام أخر في سماع شعيب من جده
عبد الله بن عمرو الصحابي -رضي الله عنهما-.
قال الدارقطني -رحمه الله-: " لعمرو بن شعيب ثلاثة أجداد : الأدنى منهم محمد،
والأوسط عبد الله، والأعلى عمرو، وقد سمع ـ يعنى شعيبًا ـ من الأدنى محمد؛ ومحمد لم
يدرك النبي -صلى الله عليه وسلم-.
وسمع من جده عبد الله، فإذا بينه وكشفه فهو صحيح حينئذ، قال: ولم يترك حديثه أحد
من الأئمة، ولم يسمع من جده عمرو".
قلت: فالدارقطني هنا يصحح هذا الطريق، لأن
شعيبًا سمع عبد الله بن عمرو.
أما عمرو بن شعيب لو رَوى عن عبد الله بن عمرو مباشرة
فحديثه في هذه الحالة يُضعف لأنه لم يَسمع منه.
وقال ابن حبان: " وكان أحمد بن حنبل، وعلي بن المديني، وإسحاق بن إبراهيم،
يحتجون بحديثه، وتركه ابن القطان، وأما يحيى بن معين فَمَرَّضَ القولَ فيه "
وقال: "إذا روى عمرو بن شعيب عن طاوس
وابن المسيّب عن الثقات غير أبيه، فهو ثقة يجوز الاحتجاج بما يروي عن هؤلاء؛ وإذا روى
عن أبيه عن جده ففيه مناكير كثيرة، لا يجوز الاحتجاج عندي بشيء رواه عن أبيه عن جده،
لأن هذا الإسناد لا يخلو من أن يكون مرسلًا أو منقطع.
لأنه
عمرو بن شعيب بن محمد بن عبد الله بن عمرو؛ فإذا روى عن أبيه فأبوه شعيب، وإذا روى
عن جده وأراد عبد الله بن عمرو جد شعيب، فإن شعيبًا لم يلق عبد الله بن عمرو، والخبر
بنقله هذا منقطع.
وإن
أراد بقوله عن جده، جده الأدنى فهو محمد بن عبد الله بن عمرو، ومحمد بن عبد الله لا
صحبة له، فالخبر بهذا النقل يكون مرسلًا.
فلا
تخلوا رواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده من أن يكون مرسلًا أو منقطعًا، والمرسل والمنقطع
من الأخبار لا يقوم بها حجة، لأن الله -جل وعلا- لم يكلف العباد أخذ الدين عمن لا يُعرف.
والمرسل والمنقطع ليس يخلوا ممن لا يعرف، وإنما يلزم العباد قبول الدين الذي هو من
جنس الأخبار إذا كان من رواية العدول حتى يرويه عدل عن عدل إلى رسول الله -صلى الله
عليه وسلم- موصولا".
ونقل الحاكم عن إسحاق بن إبراهيم الحنظلي[
إسحاق بن راهويه ]، بعد أن
روى حديثًا عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: "إذا كان الراوي عن عمرو بن شعيب
ثقة، فهو كأيوب عن نافع، عن ابن عمر" .
وقال أبو زرعة: "رَوى عنه الثقات، وإنما
أنكروا عليه كثرة روايته عن أبيه عن جده، وقالوا : إنما سمع أحاديث
يسيرة وأخذ صحيفة كانت عنده فرواها، وما أقل ما نصيب عنه مما روى عن غير أبيه عن جده
من المنكر، وعامة هذه المناكير التي تُروى عنه إنما هي عن "المثنى بن الصباح"
، "وابن لهيعة" والضعفاء، وهو ثقة في نفسه، إنما تُكُلِّم فيه بسبب كتاب
عنده". اهـ
قلت: وذهب البيهقي إلى صحة سماع شعيب من
جده عبد الله بن عمرو بن العاص، فقال: "وسماع شعيب بن محمد بن عبد الله صحيح من جده عبد الله، لكن يجب أن يكون الإسناد إلى عمرو
صحيحًا"
وقد روى حديثًا من طريق الحاكم فيه أن شعيبًا
سمع من عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما-.
قال علي بن عاصم الواسطي، أنبأ ابن جريج،
عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، قال: " كنت أطوف مع أبي عبد الله بن عمرو بن العاص
فرأيت قومًا قد التزموا البيت، فقلت له: انطلق بنا نلتزم البيت مع هؤلاء".
قلت: وهذا الحديث لو صح لكان عمدة في
المسألة، غير أن "علي بن عاصم" هذا، مع أنه من أهل الصدق، غير أنه يخطئ ويُصرّ
ولا يَرجع.
وهذا ملخص ما ذكر في حديث عمرو بن شعيب -رحمه
الله-.
وعلى الباحث المعاصر بعد تحصيل هذا العلم
النظري، أن يحاول فهم مراد الأئمة، وأن يلتزم طريقتهم في التطبيق العملي.
لأن أكبر خلل وقع في هذا الشأن في عصرنا وما
قبله، هو عدم مجاراة منهج الأئمة المتقدمين في تقييم الأحاديث من حيث القبول و الرد.
فنجد الباحث عند تحقيق الحديث يستدل بكلام
العالم المتقدم في جرح الراوي أو توثيقه، ثم ينحرف عن منهج هذا العالم في قبول أو
رد حديث هذا الراوي، فكأنه تمسك بقوله النظري وخالفه في التطبيق العملي، وهذا خلل
منهجي جسيم.
وبعضهم يبرر فعله هذا؛ بأن هذا العالم متنعت أو
متساهل.
والأسوء من هذا، بل تكاد تكون صفة عند كثير
من المعاصرين: محاكمة العالم المتقدم بأصول وقواعد تعلمها المحقق من كتب المصطلح،
فيرد على العالم تصحيحه أو تضعيفه، زاعمًا مخالفة ما تعلمه من البيقونية أو نخبة
الفكر !!
بل يصل الأمر ببعضهم إلى حد التنطع، فإن
قال البخاري مثلًا: وهذا مرسل، فيرد عليه: بل هو منقطع.
ومثل هذا الباحث لن تكون ثمرة بحثه إلا
مشوهة وإن ارتفع صيته بين الناس، وذلك لأنه يلزمه كما سلم لهؤلاء الأوائل حكمهم في
الرواة، أن يسلم لهم بعلمهم ودرايتهم بهذا العلم أكثر ممن جاء بعدهم، فإن وجد لهم
تصحيحا أو تضعيفا أو إعلالا لحديث، لا يسارع بإنزال ما تعلمه من قواعد وأصول على
كلامهم، ولكن يتهم نفسه أولًا، ثم يجتهد ليفهم مرادهم ولماذا حكموا بهذا الحكم؟
لأن كتب الجرح والتعديل ما وضعت إلا لجمع
كلامهم وأحكامهم في الرواة، وكتب المصطلح ما هي إلا محاولة لفهم طريقتهم ومنهجهم.
فإن إذا استهل الباحث بحثه بهذا الأصل،
سهُل عليه بعدها الوصول لنتيجة تطمئن لها النفس، ويرتفع عن هذا الشتات الذي يجعله كل
فترة يهدم ما اسسه سابقًا، ويبدأ من جديد.
وفي ضوء هذا البيان، نحاول فهم صنيع
الأئمة مع حديث عمرو بن شعيب عن ابيه عن جده.
مر معنا كلام الحاكم النيسابوري -رحمه
الله- في أنه اعتمد حديثه بهذا الإسناد في غير أبواب الأحكام، وهذا أيضًا ما ذهب
إليه البخاري في كتابه الأدب المفرد.
غير
أن الحاكم أخرج له أيضًا في الأحكام، ولكن في الشواهد وليس في الأصول، كما أخرج له
في الأحكام ولكن لم يحكم على حديثه، وأخرج له أيضًا في الأحكام وصحح له، ولكن
المتن محفوظ من طريق أخر.
فتتبع حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده
في مستدرك الحاكم يطول.
فإذا ذهبنا إلى حديثه في جامع الترمذي،
كان الأمر أسهل، خاصة أني بينت شيئًا من منهجه في أول البحث، فيكون هذا زيادة في
التوضيح والتأكيد.
وقد سبرت أحاديثه في جامع الترمذي، فوجدت
الترمذي ضعف أحاديث هذا الإسناد إلا ثلاثة أحاديث، وحديث رابع اختلفت عليه النسخ.
فحكم على أحاديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده
بالحسن، وهذا إعلال منه للحديث كما مر معنا.
ولم يصحح له من هذا الطريق إلا ثلاثة أحاديث،
فمن أراد إدراك الفروق بين هذه الأحاديث وغيرها، فعليه أن يتدارسها بعناية، وهذا ما
نسعى إليه إن شاء الله.
الحديث
الأول:
قال الترمذي: حدثنا أبو بكر محمد بن أبان قال: حدثنا
محمد بن فضيل، عن محمد بن إسحاق، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده قال: قال رسول الله
-صلى الله عليه وسلم- : "ليس منا من لم يرحم صغيرنا ويعرف شرف كبيرنا" حدثنا
هناد قال: حدثنا عبدة، عن محمد بن إسحاق، نحوه، إلا أنه قال: "ويعرف حق كبيرنا".
قلت: أخرج الترمذي هذا الحديث ولم يذكر
حكمه عليه، أو شواهد الباب، أو كلام العلماء كما يفعل؛ وذلك لأنه له طريقة في
إعلال الأحاديث كما ذكرنا، فيُثبت علة الأحاديث بضرب بعضها ببعض، فبعد أن أخرج هذا
الحديث، رواه من طريق أخر، فقال:
حدثنا أبو بكر محمد بن أبان قال: حدثنا يزيد
بن هارون، عن شريك، عن ليث، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: قال رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- : "ليس منا من لم يرحم صغيرنا، ويوقر كبيرنا، ويأمر بالمعروف وينه عن المنكر"
.
ثم قال: هذا حديث غريب.
وحديث
محمد بن إسحاق، عن عمرو بن شعيب حديث حسن صحيح، وقد روي عن عبد الله بن عمرو من غير
هذا الوجه أيضًا.
قال بعض أهل العلم: معنى قول النبي -صلى الله
عليه وسلم-: "ليس منا" يقول: ليس من سنتنا، ليس من أدبنا، وقال علي بن المديني:
قال يحيى بن سعيد: كان سفيان الثوري ينكر هذا التفسير: "ليس منا" يقول:
"ليس مثلنا". اهـ
قلت: فحكم الترمذي على حديث ابن عباس
بالغرابة والضعف لأنه من رواية شريك القاضي وليث بن أبي سليم، وحالهما معروف.
وحكم على حديث محمد بن إسحاق عن عمرو بن
شعيب بالصحة.
فأحاديث ابن إسحاق يقبلها العلماء في الرقاق
ونحوها، أما في الأحكام فيتشددون، وهذا الحديث ليس من الأحكام، بل من الآداب.
كما وافق "عبد الرحمن بن الحارث
المدني" محمد بن إسحاق على حديثه هذا، كما في رواية البخاري في الأدب المفرد.
وسبب تصحيح الترمذي لهذا الحديث عندي، هو
قوله: "وقد روي عن عبد الله بن عمرو من غير هذا الوجه".
فقد روى أحمد في مسنده، والبخاري في
الأدب المفرد، وأبو داود في سننه، جميعًا من حديث سفيان بن عيينة عن ابن أبي نجيح،
عن عبيد الله بن عامر، عن عبد الله بن عمرو، يبلغ به النبي -صلى الله عليه وسلم-، قال:
"من لم يرحم صغيرنا ويعرف حق كبيرنا فليس منا".
قلت: لم ينفرد عمرو بن شعيب برواية هذا الحديث
عن جده عبد الله بن عمرو بن العاص، بل وافقه عليه عبيد الله بن عامر، وهو ما يؤكد حفظ
هذا الحديث في أصول روايات عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهم-.
وهذه فائدة مهمة تنفع -بإذن الله- في
تحقيق أحاديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وهي أن جده عبد الله بن عمرو بن العاص
-رضي الله عنه- كان صاحب حديث، وكان له طلبة يحملون عنه هذا العلم، فإن تفرد عمرو
بن شعيب بحديث عنه، وكان بهذا الإسناد المختلف عليه بين العلماء، رُدَّ هذا
الحديث.
وهذا أَلمح إليه الإمام الخطيب البغدادي
-رحمه الله- عند تضعيفه لحديث التحلق قبل صلاة الجمعة، فقال: "وهذا الحديث يتفرد
بروايته عمرو بن شعيب ولم يتابعه أحد عليه، وفي الاحتجاج به مقال".
قلت: فإن وافقه غيره عليه، أو وافق أصلًا
صحيحًا في الشريعة -كما سيأتي- ، قُبل حديثه في هذه الحالة.
ولعل هذا مراد الإمام أحمد كما نقله عنه أبو داود
قائلًا: " أصحاب الحديث إذا شاؤوا احتجوا بحديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، وإذا
شاؤوا تركوه".
وأما الحديث الثاني:
قال الترمذي: حدثنا أحمد بن منيع قال: حدثنا هشيم
قال: حدثنا عامر الأحول، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده قال: قال رسول الله -صلى
الله عليه وسلم-: "لا نذر لابن آدم فيما لا يملك، ولا عتق له فيما لا يملك، ولا
طلاق له فيما لا يملك" وفي الباب عن علي، ومعاذ بن جبل، وجابر، وابن عباس، وعائشة:
"حديث عبد الله بن عمرو حديث حسن صحيح، وهو أحسن شيء روي في هذا الباب"،
وهو قول أكثر أهل العلم من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- وغيرهم . روي ذلك عن علي
بن أبي طالب، وابن عباس، وجابر بن عبد الله، وسعيد بن المسيب، والحسن، وسعيد بن جبير،
وعلي بن الحسين، وشريح، وجابر بن زيد، وغير واحد من فقهاء التابعين، وبه يقول الشافعي".
اهـ
قلت: حكم الترمذي-رحمه الله- على هذا
الحديث بالصحة أيضًا، وقال هو أحسن شيء في الباب.
وقد نقل عن البخاري في العلل الكبير:
"سألت محمدًا عن هذا الحديث فقلت: أي حديث في هذا الباب أصح في الطلاق قبل النكاح؟
فقال: حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده.
قلت: وليس معنى قولهم أحسن شيء في الباب،
أو أصح ما في الباب أن هذا معناه الحكم بالصحة، ولكن هذا أفضل ما ورد في الباب،
فهو تعبير عن القوة وليس عن الصحة.
هذا؛ وفقرات هذا الحديث إذا طلبها الباحث
من طرق أخرى أدركها، كقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "وليس على ابن آدم نذر
فيما لا يملك"، فقد أخرج هذا الحرف البخاري في صحيحه من حديث "ثابت بن الضحاك"
-رضي الله عنه- ، وكان من أصحاب الشجرة.
أما من سعى لتتبع الفقرة التي أخرج الترمذي
الحديث من أجلها: "ولا طلاق له فيما لا يملك"، أعجزه هذا الحرف، فليس
لها ذكر في حديث أخر، كما أن الحديث من أحاديث الأحكام، فقد بوب الترمذي للحديث: باب
ما جاء لا طلاق قبل النكاح.
فالحديث في أحكام الطلاق، فكيف يُصحح وهو
بهذا الإسناد وقد تفرد بهذا الحكم
؟.
إن تتبعنا منهج الترمذي الذي بيناه
آنفًا، توصلنا إلى الجواب، فالترمذي وصف هذا الحديث بالحسن مع الصحة، فقال: حديث
حسن صحيح.
وقلنا أن هذا الحكم الذي في الحديث لم يَرد
في حديث أخر، والحديث الحسن عنده هو ما أتى من غير وجه، فما هو الوجه الآخر الذي
ذُكر فيه هذا الحكم، ومن أجله حكم على الحديث بالحسن؟
والجواب: أن هذا الحكم ثابت بالقرآن، فقد
قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ
طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ
تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا}.
فالحكم ثابت بآية في كتاب الله، ولذا صحح
الترمذي الحديث لأنه مؤيد بالآية ولم ينفرد بحكم خاص.
وهذه الطريقة في اثبات الأحكام معرفة عند
المحدثين، يستخدمها الإمام البخاري -رحمه الله- بكثرة في كتابه؛، فإن صح حكم عنده
بالقرآن أو الإجماع ولم يكن فيه حديث يوافق شرط كتابه، نجده يبوب للحكم، ثم يذكر متن
الحديث معلقًا بغير سند، ثم يذكر الآية أو الإجماع، أو قول العلماء في المسألة.
قال البخاري -رحمه الله-: باب لا طلاق قبل
النكاح وقول الله تعالى: { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ
تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ
وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا}. [الأحزاب: 49]
وقال ابن عباس : "جعل الله الطلاق بعد
النكاح" ويروى في ذلك عن علي، وسعيد بن المسيب، وعروة بن الزبير، وأبي بكر بن
عبد الرحمن، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة، وأبان بن عثمان، وعلي بن حسين، وشريح،
وسعيد بن جبير، والقاسم، وسالم، وطاوس، والحسن، وعكرمة، وعطاء، وعامر بن سعد، وجابر
بن زيد، ونافع بن جبير، ومحمد بن كعب، وسليمان بن يسار، ومجاهد، والقاسم بن عبد الرحمن،
وعمرو بن هرم، والشعبي: أنها لا تطلق". اهـ
قلت: فإن تأملنا طريقة البخاري هنا، وتعامله مع
اثبات الحكم وإن لم يتوافق سند الحديث مع شرط كتابه، ثم تأملنا طريقة الترمذي،
وكيف أنه صحح ما يحتمل التصحيح لأن أصله ثابت في الشريعة بآية في كتاب الله؟، إن
تأملنا هذا وهذا علمنا أن مشرب هؤلاء العلماء واحد، وطريقتهم قريبة.
ولكن الذي يلزم الباحث للوصول إلى الحق:
التجرد وإحسان الظن بهؤلاء العلماء، وعدم دخول بحثه بنتائج مسبقة.
الحديث
الثالث:
قال الترمذي: حدثنا أحمد بن منيع قال : حدثنا
إسماعيل بن إبراهيم قال : حدثنا أيوب قال : حدثنا عمرو بن شعيب ، قال : حدثني أبي،
عن أبيه، حتى ذكر عبد الله بن عمرو أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا
يحل سلف وبيع ، ولا شرطان في بيع، ولا ربح ما لم يضمن، ولا بيع ما ليس عندك": وهذا حديث حسن صحيح. قال إسحاق بن منصور: قلت لأحمد: ما معنى نهى عن سلف وبيع؟ قال: أن يكون
يقرضه قرضًا، ثم يبايعه عليه بيعا يزداد عليه، ويحتمل أن يكون يسلف إليه في شيء، فيقول:
إن لم يتهيأ عندك فهو بيع عليك.
قال إسحاق يعني ابن راهويه كما قال: قلت لأحمد:
وعن بيع ما لم تضمن، قال: لا يكون عندي إلا في الطعام ما لم تقبض قال إسحاق: كما قال:
في كل ما يكال أو يوزن قال أحمد: إذا قال: أبيعك هذا الثوب وعلي خياطته وقصارته فهذا
من نحو شرطين في بيع، وإذا قال: أبيعكه وعلي خياطته فلا بأس به، أو قال: أبيعكه وعلي
قصارته فلا بأس به، إنما هو شرط واحد قال إسحاق كما قال". اهـ
قلت: وتصحيح
الترمذي لهذا الحديث هو نفس سبب تصحيحه للحديث الأول، إن هذا الحديث جاء من وجه
أخر عن عبد الله بن عمرو بن العاص- رضي الله عنهما-.
فقد روى النسائي
من طريق ابن جريج، قال: أخبرني عطاء، عن عبد الله بن عمرو، قال: يا رسول الله إنا نسمع
منك أحاديثًا، أفتأذن لنا أن نكتبها؟ قال: "نعم" فكان أول ما كتب كتاب النبي
-صلى الله عليه وسلم- إلى أهل مكة: "لا يجوز شرطان في بيع واحد، ولا بيع وسلف
جميعًا، ولا بيع ما لم يضمن، ومن كان مكاتبًا على مائة درهم، فقضاها إلا عشرة دراهم
فهو عبد أو على مائة وقية فقضاها إلا أوقيتين فهو عبد". الحديث
قلت: فهذا الحديث محفوظ أيضًا في أصول عبد
الله بن عمرو بن العاص- رضي الله عنهما-.
حتى أنه وجد في كلام بعض السلف من زعم: أنه لم يصح في صحفية عمرو بن شعيب إلا هذا
الحديث.
قال أبو عبد الرحمن الأذرمي: "يقال ليس يصح من حديث عمرو بن شعيب إلا هذا، أو
هذا أصحها".
وقال ابن عبد البر: " وهذا الحديث محفوظ
من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، وهو حديث صحيح، رواه الثقات عن عمرو
بن شعيب.
وعمرو بن شعيب ثقة إذا حدث عنه ثقة، وإنما دخلت أحاديثه عن جده صحيفة يقول إنها مسموعة
صحيحة، وكتاب عبد الله بن عمرو عن جده عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أشهر عند أهل
العلم وأعرف من أن يحتاج إلى أن يذكر ههنا".
وقال أيضًا: "هذا الحديث معروف مشهور
من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي- صلى الله عليه وسلم -، وهو حديث صحيح لا يختلف أهل العلم في قبوله والعمل به".
قلت: وفي ضوء هذا يتضح سبب إعلال الترمذي لحديث
التحليق قبل صلاة الجمعة، إذ جاء من رواية عمرو بن شعيب، ولم يثبت له أصل في أحاديث
جده عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما-، ولا استند هذا الحكم إلى وجه آخر
في الشريعة.
بل
جاءت بعض النصوص والآثار تخالف هذا الحكم الوارد في هذا الحديث، وأن بعض السلف كان
يَتحلق ويُحدث قبل صلاة الجمعة، منها:
ما رواه ابن أبي شيبة بسنده عن محمد بن هلال،
عن أبيه، قال: " كان أبو هريرة، يُحدثنا يوم الجمعة حتى يخرج
الإمام".
وعند ابن سعد في طبقاته، عن زياد بن سعد
الخراساني قال: قلت لثابت الأعرج: أين سمعت من أبي هريرة؟ قال : كان موالي يبعثونني
يوم الجمعة آخذًا مكانًا، فكان أبو هريرة يجيء، فيُحدث الناس قبل الصلاة".
وعن عاصم بن محمد بن زيد العمري، عن أبيه، قال : رأيت أبا هريرة -رضي الله
عنه- يخرج يوم الجمعة فيقبض على رمانتي المنبر قائمًا ويقول: حدثنا أبو القاسم رسول
الله الصادق المصدوق -صلى الله عليه وسلم-، فلا يزال يحدث حتى إذا سمع فتح باب المقصورة
لخروج الإمام للصلاة جلس".
وعن
أبي الزَّاهِرِيَّة الحمصي، قال: " كنت مع عبد الله بن بسر، يوم الجمعة فما زال
يحدثني حتى خرج الإمام".
وروى ابن أبي شيبة عن السائب بن يزيد
-رضي الله عنه-، قال: " كنا نتحلق يوم الجمعة قبل الصلاة".
وفي رواية لأبي الشيخ في طبقات المحدثين،
قال: " كنا نتحلق يوم الجمعة قبل النداء الأول؛ فإذا نودي للصلاة قمنا".
وعن معاوية بن قُّرَّة، قال: "أدركت
ثلاثين من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- من مزينة ليس منهم إلا من طَعن أو طُعن،
أو ضَرب أو ضُرب مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ، إذا كان يوم الجمعة اغتسلوا،
ولبسوا من صالح ثيابهم، ونسموا من طيب نسائهم، ثم أتوا الجمعة، وصلوا ركعتين، ثم جلسوا
يبثون العلم والسنة حتى يخرج الإمام".
قلت: وقد وردت آثار عن أهل الحديث أنهم
كانت لهم مجالس تحديث قبل صلاة الجمعة، منها:
ما رواه الخطيب البغدادي بسنده في الفقيه
والمتفقه، عن مهدي
بن ميمون الأزدي: قال: "رأيت أبا العلاء والجُريري وأبا نعامة السعدي وأبا نعامة
الحنفي وميمون بن سَيِاهٍ وأبا نضرة يَتحلقون
يوم الجمعة
قبل الصلاة" قال عفان: وذكر مهدي أكثر من هؤلاء لم أحفظهم".
وعن علي بن الحسين بن حبان، قال: وجدت في كتاب أبي
قال: أبو زكريا يعني يحيى بن معين: "رأيت يحيى بن سعيد القطان ومعاذ بن معاذ وحماد
بن مسعدة يتحلقون يوم الجمعة قبل الصلاة ومعهم نحو من ثلاثين رجلًا يتحدثون، والناس
يصلون ومعاذ يحدث؛ فإذا فرغ من الحديث قال ليحيى: أليس هكذا يا أبا سعيد؟ فيقول له:
نعم. وما يصلون البتة حتى تقام الصلاة.
قال
أبو زكريا: وكان حفص بن غياث وأصحابه يتحلقون أيضًا يوم الجمعة قبل الصلاة، فقال له
سفيان الثوري: "زعموا ما فعلت حلقتكم يا أبا عمر قال: "هي على حالتها".
قلت: كما كان العلامة أبو حفص بن شاهين
وغيره يملون يوم الجمعة قبل الصلاة، فالأمر فيه سعة.
هذا؛ وخلاصة البحث:
"إن حديث النهي عن التحلق يوم الجمعة
ضعيف لا يصح، ويخالفه عمل السلف الصالح".
والله تعالى أعلم.
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
وكتب
أبو صهيب وليد بن سعد.
القاهرة 1 / ذو القعدة / 1446 ه
29 / 4 / 2025.
الهـامـش
ـ الموقظة ص / 83 .
قلت: ومن الأخطاء المنهجية أيضًا تصنيف أئمة الجرح والتعديل بهذه الطريقة، وإنما الأصل
في قبول قول العالم هو منزلته في هذا الشأن، ومعرفته بالمتكلَّم فيه، وما يكون في الكلام
من قرائن وأدلة.
أما أن يُصنَّف العلماء هذا متشدّد وهذا كذا
وهذا كذا، فكلام يحتاج إلى فهم ورويَّة، لأن اصطحاب هذه الفكرة أثناء التحقيق يُفسد على
الباحث نتيجة بحثه؛ إذ يهون من جرح العالم المتشدّد بزعمهم، ويزهد في قول المتساهل،
ولا يعتمد إلا قول المعتدل، والأمر ليس كذلك.
لأنه لا يُتصوَّر من وُصف بالتشدّد أن يضعِّف ثقة، أو أن المتساهل يوثِّق ضعيفًا،
وإنما غاية ما هنالك أن ألفاظ كل عالم لها -كما يقول أهل اللغة- مذاق خاص، يُفهم من
خلاله مراد العالم، هل يريد بكلامه التوثيق أم التضعيف؟ فإن ضمَّ إلى كلامه في الراوي
كلام غيره من العلماء، توصل الباحث إلى القول الصواب الراجح في الراوي، وإن لم يوجد
إلا كلام هذا العالم، ولم يتضح هل الراوي عنده ثقة أو صدوق مثلًا؟
فعلى
الباحث الرجوع إلى صبر أهل الصنعة الأوائل، ويسبِّر أحاديث هذا الراوي، فعندها يظهر
بجلاء مراد هذا العالم، ويقف بما لا يدع مجالًا للشك على حقيقة هذا الراوي وفي أي المراتب
هو.
ـ ذكر من يعتمد قوله في الجرح والتعديل. (ص/171-172).