الأربعاء، 21 مايو 2025

فتنة الصالحين

 

فتنة الصالحين
الحمدُ للهِ وحدَه، والصلاةُ والسلامُ على من لا نبيَّ بعده، أما بعد:

  فإنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ يومَ أنْ بعثَ النبيَّ صلى اللهُ عليهِ وسلمَ إلى مشركي قريشٍ والعربِ، لم يكونوا ملاحدةً ينكرونَ وجودَ الربِّ عزَّ وجلَّ، بل كانوا يقرُّونَ ويؤمنونَ بوجودِهِ سبحانه، وأنَّه هو خالقُ كلِّ شيءٍ، كما في قولهِ تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزمر: 38].

  فكانوا يؤمنونَ أنَّ خالقَ السماواتِ والأرضِ هو اللهُ، بل يؤمنونَ أنَّه الذي خلقَهم، قال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزخرف: 87].

   فكان هذا الأمرُ عندَ هؤلاءِ المشركينَ من المسلَّماتِ، ولهذا أمرَ اللهُ تعالى نبيَّه صلى اللهُ عليهِ وسلمَ أنْ يجادلَهم ويناظرَهم بما يقرُّونَ به، فقال سبحانه: {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ، سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ، قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ، سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ، قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ، سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} [المؤمنون: 84-89].

  يعني كيفَ تصفونَ هذا النبيَّ بالسحرِ وأنتم تقرُّونَ بما يدعوكم إليه؟ فأنتم تشهدونَ أنَّ هذا الإلهَ الذي يدعوكم محمدٌ لعبادتِه هو مَنْ له الأرضُ وما فيها، وهو ربُّ السماواتِ السبعِ وربُّ العرشِ العظيمِ، وهو مَنْ بيدهِ مقاليدُ كلِّ شيءٍ، وهو القويُّ الذي يُجيرُ ولا يُجارُ عليه.

  فلم تكنِ العربُ ملاحدةً تنكرُ وجودَ الربِّ، أو تنكرُ شيئًا من ملكِه وقوتِه، ومع ذلك أمرَ اللهُ نبيَّه صلى اللهُ عليهِ وسلمَ بقتالِهم وحربِهم، لمَ؟ لأنَّهم مع إيمانِهم هذا رفضوا أنْ يفردوا اللهَ عزَّ وجلَّ بالألوهيةِ كما أفردوه بالربوبيةِ، فقد وُجدَ في الأممِ السابقةِ مَنْ ادَّعى الربوبيةَ فقال: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} [النازعات: 24]، أما العربُ فلم يكن عندَها شركٌ في الربوبيةِ، وإنما أشركتْ في الألوهيةِ.

  لم ينكروا أو يعترضوا أنَّ اللهَ هو خالقُ السماواتِ والأرضِ، وهو الذي خلقَهم، وهو خالقُ كلِّ شيءٍ والقادرُ على كلِّ شيءٍ. وأما أنْ يكونَ هو وحدهُ الإلهَ المتفرِّدَ بالعبادةِ الذي لا يُعبدُ غيرُه، فهذا الذي رفضتْه قريشٌ والعربُ، ولذا كانوا يتعجَّبونَ من دعوةِ النبيِّ صلى اللهُ عليهِ وسلمَ لهذا الأمرِ، وهو إفرادُ اللهِ بالعبادةِ والألوهيةِ، فقالوا: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص: 5].

   فكانتْ للعربِ آلهةٌ تتقرَّبُ إليها بالعبادةِ من خوفٍ ورجاءٍ ودعاءٍ، يشركونَ هذه الآلهةَ في العبادةِ مع اللهِ عزَّ وجلَّ، ذكرَ اللهُ بعضَهم في القرآنِ، فقال: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى، وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى} [النجم: 19-20].

  فاللاتُ والعزَّى ومناةُ أسماءٌ لآلهةٍ كانتْ تعظِّمُها العربُ وتعبدُها من دونِ اللهِ تعالى. وكما عبدوا غيرَهم من آلهةِ الأممِ السابقةِ، كـ "وَدٍّ وسُوَاعٍ ويَغُوثَ ويَعُوقَ ونَسْرٍ"، هذه الآلهةُ التي كانتْ تُعبدُ في قومِ نوحٍ عليهِ السلامِ.

و  قيلَ إنَّ "عمرو بنَ لحيٍّ" -وكانَ أولَ مَنْ غيَّرَ عهدَ إبراهيمَ عليهِ السلامِ، وسيَّبَ السوائبَ- وقد رآه الرسولُ صلى اللهُ عليهِ وسلمَ يجرُّ أمعاءَه في النارِ.[1]
  قيلَ إنَّ عَمْرَو بنَ لُحَيٍّ لما سافرَ الشامَ وجدَ أهلَها يعبدونَ هذه الأصنامَ من دونِ اللهِ، فأتى بها إلى مكةَ وجعلَها حولَ الكعبةِ، فعبدَها الناسُ من دونِ اللهِ، وكانوا قبلَ ذلك على ملَّةِ إبراهيمَ حنيفًا مسلمًا ولم يكنْ من المشركينَ.

   ومع عبادةِ العربِ لهذه الأصنامِ والأوثانِ، إلا أنَّها كانتْ تقرُّ أنَّها أحجارٌ لا تنفعُ ولا تضرُّ، وأنَّها ليسَ لها من الأمرِ شيءٌ، وذلك لأنَّهم يعلمونَ أنَّهم هم مَنْ صنعوها ونحتوها، قال اللهُ تعالى: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا} [الفرقان: 3].

   ولم يكنْ هذا هو لسانَ العربِ وحدهم، بل هو ما كانَ يُقرُّ به كلُّ مَنْ عبدَ هذه الأصنامَ، فهذا إبراهيمُ خليلُ الرحمنِ -عليهِ السلامِ- ، يقيمُ الحجةَ على أبيهِ: {يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا} [مريم: 42].

  وقال لقومِه: {فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ} [الأنبياء: 63].

  وهذه مفارقةٌ عظيمةٌ يحتارُ منها العقلاءُ، فهؤلاءِ يقرُّونَ بربوبيةِ اللهِ تعالى، وأنَّه خالقُ كلِّ شيءٍ وبيدهِ ملكوتُ كلِّ شيءٍ، وهو القادرُ على كلِّ شيءٍ. وفي نفسِ الوقتِ يقرُّونَ بأنَّ آلهتَهم التي اتخذوها من دونِ اللهِ لا تقدرُ على شيءٍ ولا تستطيعُ شيئًا، ومع هذا يفضِّلونَ الحربَ والقتلَ على الرضا بالإيمانِ بألوهيةِ اللهِ وحده!

فكيفَ هذا، وبأيِّ منطقٍ فُتِنَ هؤلاءِ؟

    وجواب ذلك: أنَّ هؤلاءِ وقعوا في فتنةِ الصالحينَ، فهذه الآلهةُ التي كانتْ تُعبدُ من دونِ اللهِ كانَ بعضُها لأُناسٍ صالحينَ. فهذه الآلهةُ التي كانتْ تُعبدُ في قومِ نوحٍ عليهِ السلامِ، وذُكرتْ في قولهِ تعالى: {قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا، وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا، وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} [نوح: 21-23].

هذه الأسماءُ لقومٍ صالحينَ من قومِ نوحٍ، كانوا من أفاضلِ الناسِ في العبادةِ والزهدِ وطاعةِ اللهِ، فلما ماتوا أوحى الشيطانُ للناسِ أنْ يجعلوا لهم صورًا تذكِّرهم بهم وبعبادتِهم، ففعلوا، وصاروا إذا نظروا إلى صورِ أولئك الصالحينَ بكَوا بكاءً شديدًا ونشطوا في العبادةِ لما يعلمونَ من صلاحِ أولئك القومِ وما كانوا عليهِ من العبادةِ، فتطاوَلَ بهم الزمانُ حتى ماتَ أهلُ العلمِ وبقيَ الجهالُ فجاءَهم الشيطانُ فقال لهم: إنَّما كانوا يعبدونَ هؤلاءِ ويَسْقُونَ بها، فعبدوهم، وذلك أولُ كفرٍ وقعَ في الأرضِ.[2]
  وحتى أعظمُ أصنامِ قريشٍ المعروفِ باللاتِ، المذكورِ في قولهِ تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى}
[النجم: 19].

كانَ اللاتُ هذا رجلًا صالحًا، يقولُ ابنُ عباسٍ رضيَ اللهُ عنهما: "كانَ اللاتُ رجلًا يَلُتُّ سَوِيقَ الحاجِّ."[3]

  فكانَ هذا الرجلُ يتقرَّبُ بصنيعِه هذا إلى اللهِ، فيأتي في موسمِ الحجِّ ويقومُ على خدمةِ الحجيجِ بأنْ يعجنَ الدقيقَ والقمحَ ويخلطَه بالسمنِ ويصنعَ منه ما يُؤكَلُ، ويفرِّقَه على الناسِ في الموسمِ.

  فلما ماتَ صارَ طاغوتًا يُعبدُ من دونِ اللهِ، حتى إنَّ العربَ إذا أرادتْ أنْ تعظِّمَ في الحلفِ، أقسمتْ به، ومعلومٌ أنَّه لا يُحلَفُ إلا بمعظَّمٍ، ولا معظَّمَ سوى اللهِ.

  قال رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلمَ: "مَنْ حلفَ فقال في حلفِه: واللاتِ والعزَّى، فليقلْ: لا إلهَ إلا اللهُ."[4]
  ففتنةُ الصالحينَ، هي الفتنةُ التي أظهرتِ الكفرَ لأولِ مرةٍ على وجهِ الأرضِ، وما زالتْ هذه الفتنةُ تعصفُ بالناسِ وتخرجُهم من الإسلامِ والفطرةِ، إلى الشركِ والكفرِ.

  فالذي كانتْ عليه العربُ والأممُ الكافرةُ التي عبدتِ الأصنامَ والأوثانَ من دونِ اللهِ، ما زالَ موجودًا في دنيا الناسِ حتى اليومِ، في الهندِ والصينِ وتايوانَ ونيبالَ وغيرِها من هذه الأممِ التي ما زالتْ تعبدُ "بوذا وشيفا وشاكتي" وغيرَها من آلهةِ البوذيةِ والهندوسيةِ والسيخِ.

   ومع شديدِ الأسفِ أنَّ مثلَ هذا الشركِ وُجدَ في مَنْ ينتسبُ إلى أمةِ الإسلامِ، مع اختلافٍ بسيطٍ، وهو أنَّ هذه الآلهةَ في هذه الأممِ الكافرةِ لها صورٌ وأشباحٌ فوقَ الأرضِ، أما عندَ مَنْ أشركَ من هذه الأمةِ فإنَّ هذه الصورَ والأشباحَ تُعظَّمُ ولكنْ وهيَ تحتَ الأرضِ.

  فهناكَ مَنْ أشركَ في هذه الأمةِ بسببِ فتنةِ الصالحينَ، فعكفوا على قبورِهم وأضرحتِهم يسألونَهم ما لا يقدرُ عليه سوى اللهِ.
  فيدخلُ الأبعدُ من هؤلاءِ إلى بيتٍ من بيوتِ اللهِ ليدعوَ غيرَه، ويطلبَ المددَ من سواهُ، واللهُ تعالى يقولُ: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا}
[الجن: 18].

   كما أنَّ المددَ لا يُطلبُ إلا من صاحبِ المددِ القادرِ عليه، قال نوحٌ عليهِ السلامِ: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا، يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا، وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا} [نوح: 10-12].

  فالذي يمدُّ الناسَ بالأرزاقِ من مالٍ وبنينَ وغيرِهما من النعمِ هو اللهُ وحدهُ، لا ربَّ سواهُ.

  أما مشركو قبورِ الصالحينَ في هذه الأمةِ فيعكفونَ على هذه الأضرحةِ سائلينَ صاحبَ الضريحِ الرزقَ والتوفيقَ والشفاءَ، وكلُّ هذا لا يقدرُ عليه سوى اللهِ، قال جلَّ ثناؤُه: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ} [سبأ: 24]، فاللهُ عزَّ وجلَّ هو الرزَّاقُ.

  وهو الشافي -سبحانه-، قال إبراهيمُ -عليهِ السلامِ-: {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ، وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ، وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [الشعراء: 78-80].

  وكانَ رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلمَ يعوذُ بعضَ أهلِه، يمسحُ بيدِه ويقولُ: "اللَّهمَّ ربَّ الناسِ، أذهبِ البأسَ، واشفِ أنتَ الشافي، لا شفاءَ إلا شفاؤُكَ، شفاءً لا يُغادرُ سقمًا.".[5]
  أما عندَ مشركي الأضرحةِ وقبورِ الصالحينَ، فضريحُ أمِّ هاشمٍ يقصدُه مرضى العيونِ ليمسحوا أعينَهم من ماءِ القناديلِ وهم موقنونَ بالشفاءِ.

  وتذهبُ المرأةُ الجاهلةُ إلى ضريحِ سيِّدِهم العزيزِ، المختصِّ بردِّ المظالمِ!، فتكنسُ المرأةُ قبرَ سيِّدها العزيزِ وهي تعتقدُ أنَّ العزيزَ سيكنسُ مَنْ ظلمَها من على وجهِ الأرضِ.

  أما مَنْ تأخَّرَ زواجُها، وتريدُ النجدةَ، فتذهبُ إلى قبرِ سيِّدها الحاموليِّ فهو متخصِّصٌ في تزويجِ العوانسِ!، فتشعلُ العانسُ له شمعةً، كما يفعلُ في معابدِ الهندوسِ وكنائسِ النصارى، فتشعلُ للقبرِ شمعةً وتقولُ: سيدي يا حامولي جَوِّزْني وأجيبُ لكَ شمعةً طولي!

   وأما الشدائدُ والعظائمُ فلها شيخُ العربِ، قطبُ أولياءِ الصوفيةِ، سيِّدهم البدويُّ.

فجعلوا لهذه الأضرحةِ وظائفَ لا يقدرُ عليها إلا اللهُ.

  ولا يدري والله المسلمُ الموحِّدُ أينَ عقلُ هؤلاءِ، وسيدُ البشرِ صلى اللهُ عليهِ وسلمَ يقولُ: {قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا} [الجن: 21].

   كما ازدادتْ فتنةُ هؤلاءِ أكثرَ عندما اتَّبعوا سنَّةَ اليهودِ والنصارى فأدخلوا قبورَ هؤلاءِ الصالحينَ داخلَ المساجدِ التي هي بيوتُ الرحمنِ.

  فعن أمِّ المؤمنينَ عائشةَ رضيَ اللهُ عنها، أنَّ أمَّ حبيبةَ، وأمَّ سلمةَ ذكرتا كنيسةً رأينَها بالحبشةِ فيها تصاويرُ، فذكرتا للنبيِّ صلى اللهُ عليهِ وسلمَ فقالَ: "إنَّ أولئكَ إذا كانَ فيهم الرجلُ الصالحُ فماتَ، بنَوا على قبرِه مسجدًا، وصوَّروا فيه تلكَ الصورَ، فأولئكَ شرارُ الخلقِ عندَ اللهِ يومَ القيامةِ". [6]

  وعنها -رضيَ اللهُ عنها-، أنَّ النبيَّ صلى اللهُ عليهِ وسلمَ قالَ في مرضِه الذي ماتَ فيه: "لعنَ اللهُ اليهودَ والنصارى، اتَّخذوا قبورَ أنبيائِهم مسجدًا"، قالتْ: ولولا ذلكَ لأبرزوا قبرَه غيرَ أنَّه خَشِيَ أنْ يُتَّخذَ مسجدًا.[7]

  قلتَ: وقولُها -رضيَ اللهُ عنها-: "ولولا ذلكَ لأبرزوا قبرَه غيرَ أنَّه خَشِيَ أنْ يُتَّخذَ مسجدًا".

  يعني: لولا خشيةُ الرسولِ -صلى اللهُ عليهِ وسلمَ- أنْ يُتَّخذَ قبرُه مسجدًا، لدُفنَ في مكانٍ بارزٍ مكشوفٍ يستطيعُ أيُّ أحدٍ الوصولَ إليه.

  ولهذا دعا رسولُ اللهِ -صلى اللهُ عليهِ وسلمَ-، فقال: "اللَّهمَّ لا تجعلْ قبري وثنًا، لعنَ اللهُ قومًا اتَّخذوا قبورَ أنبيائِهم مساجدَ".[8]

  وعن جندبِ بنِ عبدِ اللهِ -رضيَ اللهُ عنه-، قالَ: سمعتُ النبيَّ صلى اللهُ عليهِ وسلمَ قبلَ أنْ يموتَ بخمسٍ، وهو يقولُ: "إنِّي أبرأُ إلى اللهِ أنْ يكونَ لي منكم خليلٌ، فإنَّ اللهَ تعالى قد اتَّخذَني خليلًا، كما اتَّخذَ إبراهيمَ خليلًا، ولو كنتُ متَّخذًا من أمَّتي خليلًا لاتَّخذتُ أبا بكرٍ خليلًا، ألا وإنَّ مَنْ كانَ قبلَكم كانوا يتَّخذونَ قبورَ أنبيائِهم وصالحيهم مساجدَ، ألا فلا تتَّخذوا القبورَ مساجدَ، إنِّي أنهاكم عن ذلكَ". [9]

   وعن عبدِ اللهِ بنِ عباسٍ -رضيَ اللهُ عنه- قالَ: لما نزلَ برسولِ اللهِ -صلى اللهُ عليهِ وسلمَ- طَفِقَ يطرحُ خَميصةً له على وجهِه، فإذا اغتَمَّ بها كشفَها عن وجهِه، فقالَ وهو كذلكَ: "لعنةُ اللهِ على اليهودِ والنصارى، اتَّخذوا قبورَ أنبيائِهم مساجدَ" يحذِّرُ ما صَنَعوا".[10]

   وعن أبي هريرةَ -رضيَ اللهُ عنه- قالَ: قالَ رسولُ اللهِ -صلى اللهُ عليهِ وسلمَ-: "قاتلَ اللهُ اليهودَ، اتَّخذوا قبورَ أنبيائِهم مساجدَ".[11]

   وعن عبدِ اللهِ بنِ مسعودٍ -رضيَ اللهُ عنه- قالَ: قالَ رسولُ اللهِ -صلى اللهُ عليهِ وسلمَ-: "إنَّ من شرارِ الناسِ مَنْ تدركُهم الساعةُ وهم أحياءٌ، ومَنْ يتَّخذُ القبورَ مساجدَ".[12]
  قلتَ: فمَنْ أشركَ في هذه الأمةِ بسببِ فتنةِ الصالحينَ، فأصبحَ يعتقدُ في صاحبِ ضريحٍ ويعظِّمُه ويدعوَه ويطلبُ منه المددَ، فهذا أشرُّ ممن أشركَ في الجاهليةِ، كما أنَّه استحقَّ اللعنَ والطردَ من رحمةِ اللهِ لأنَّه وافقَ السببَ الذي لُعنتْ بسببِه اليهودُ والنصارى لما أدخلوا قبورَ الأنبياءِ والصالحينَ في المساجدِ.

  كما لا ينفعُه مع شركِه هذا أنَّه يقرُّ بالربوبيةِ للهِ، وأنَّه هو الخالقُ الرزَّاقُ وأنَّه على كلِّ شيءٍ قديرٌ، فهذا كانَ معتقدَ مشركي قريشٍ قبلَ البعثةِ، ومع هذا كفَّرَهم اللهُ تعالى لشركِهم في عبادتِه.

  فمشركو قبورِ الصالحينَ في هذه الأمةِ يسألونَ ويدعونَ غيرَه -سبحانه-، ويخشعونَ ويبكونَ على عتباتِ الأولياءِ والصالحينَ كما كانَ حالُ قومِ نوحٍ من قبلُ.

  ولم تختلفْ هذه الأضرحةُ عن أصنامِ وأوثانِ الأممِ الكافرةِ، فلها سدنةٌ تُزيِّنُها في أعينِ الناسِ كسدنةِ وخدامِ آلهةِ العربِ والكافرينَ اليومَ، ويُذبحُ عندَها ويُنذرُ لها، وتُشعلُ لها الشموعُ، وتُعلَّقُ المصابيحُ، وتُعطَّرُ بالبخورِ.

  هذا؛ ولو كانتِ الولايةُ في الإسلامِ تستلزمُ إدخالَ قبرِ صاحبِها داخلَ المسجدِ، فقد قصَّرتِ الأمةُ في حقِّ الأولياءِ والصالحينَ، فقد ماتَ سعدُ بنُ معاذٍ -رضيَ اللهُ عنه- وقد اهتزَّ عرشُ الرحمنِ لموتِه.[13]، ولم نعلمْ أنَّ النبيَّ -صلى اللهُ عليهِ وسلمَ- دفنَه في المسجدِ.

  وقد كَسرتِ الربيعُ بنتُ النضرِ سنَّ جاريةٍ، فجاءَ قومُها يطلبونَ القصاصَ، ورفضوا الأرشَ[14]، فجاءَ ابنُ أخيها أنسُ بنُ النضرِ -رضي الله عنه-، فقالَ: يا رسولَ اللهِ أتُكسرُ ثنيةُ الربيعِ؟ لا والذي بعثَكَ بالحقِّ لا تُكسرُ ثنيتُها، فقالَ رسولُ اللهِ -صلى اللهُ عليهِ وسلمَ-: "يا أنسُ، كتابُ اللهِ القصاصُ." فرضيَ القومُ فعفَوا، فقالَ رسولُ اللهِ -صلى اللهُ عليهِ وسلمَ-: "إنَّ من عبادِ اللهِ مَنْ لو أقسمَ على اللهِ لأبرَّه."[15]
  فأينَ ضريحُ هذا الوليِّ أنسِ بنِ النضرِ، الذي أقسمَ على اللهِ فأبرَّه، أليسَ هذا من الأولياءِ؟

  وأينَ ضريحُ ومقامُ عثمانَ بنِ عفانَ، وأهلِ بدرٍ، وأصحابِ الشجرةِ، وسائرِ الصحابةِ الذينَ رضيَ اللهُ عنهم ورضَوا عنه؟

  بل أينَ أضرحةُ ومقاماتُ زوجاتِ رسولِ اللهِ -صلى اللهُ عليهِ وسلمَ-؟

  أليسوا من أهلِ البيتِ، الذينَ افتُتنَ بهم عبَّادُ القبورِ؟

  والجوابُ: أنَّه لا يوجدُ لهم قبورٌ وأضرحةٌ مُعظَّمةٌ تُعبدُ من دونِ اللهِ، لأنَّ هذا الشركَ لم يكنْ يومًا من دينِ محمدٍ -صلى اللهُ عليهِ وسلمَ-، ولكنَّه من شركِ الأممِ السابقةِ،

 كما قالَ تعالى: {قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا} [الكهف: 21]. قالَ ابنُ عباسٍ -رضيَ اللهُ عنه-: يعني عَدَوَهم.[16]

   فهذه سنة أعداء أهل الإيمان، فمن أراد النجاة من الشرك والخلود في النار فليلزم غرز النبي -صلى الله عليه وسلم- ويكن من أهل التوحيد الخالص الذي لا يشوبه شرك، مِن حلف بغير الله، أو دعاء غيره، أو الخوف والرجاء من سواه -سبحانه-.
   لأن من أتى بشيء من هذا حبط عمله ولو كانت له من الحسنات أمثال الجبال، قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ، بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ}.
[الزّمر  66:65].

وقال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48].
فنسأل الله أن يحيينا ويميتنا على التوحيد والسنة نحن وسائر المسلمين.
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
وكتب
أبو صهيب وليد بن سعد
القاهرة 11 / ذو القعدة / 1446
9 / 5 / 2025.


[1] ـ صحيح البخاري.

[2] ـ  العذب النمير من مجالس الشنقيطي في التفسير ( 3 / 445 )، وانظر تفسير الطبري ( 23 / 639 )

[3] ـ رواه البخاري.

[4] ـ متفق عليه

[5] ـ رواه النسائي وغيره بسند صحيح.

[6] ـ متفق عليه.

[7] ـ متفق عليه.

[8] ـ رواه أحمد من حديث أبي هريرة بسند لا بأس به.

[9] ـ رواه مسلم.

[10] ـ متفق عليه، وقد مر من حديث عائشة -رضي الله عنه-.

[11] ـ رواه مسلم.

[12] ـ رواه أحمد وابن خزيمة وابن حبان في صحيحهما.

[13] ـ متفق عليه.

[14] ـ  يتصالحون على عوض.

[15] ـ متفق عليه.

[16] ـ تفسير الطبري (15 / 217).

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق