مختصر كتاب "البرهان
على أن صلاة العيد لا تجزئ عن الجمعة إذا اجتمع عيدان".
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من
لا نبي بعده، أما بعد:
فإن القول بجواز ترك صلاة الجمعة لمن شهد العيد
قولٌ فقهيٌ مرجوحٌ، مخالفٌ للأدلة الصحيحة، تفرد به الحنابلة مع وجود اختلاف بينهم.
قال ابن هبيرة -الحنبلي- في تعليقه على حديث إذن
عثمان بن عفان -رضي الله عنه- لأهل العالية بعدم شهود الجمعة لمن صلى العيد منهم:
"وفيه أيضًا من الفقه: أن من وافق يوم الجمعة يوم عيد، فهو مخير بين حضور الجمعة
أو صلاة الظهر في بيته. وهذه المسألة تفرد بها الإمام أحمد بن حنبل -رضي الله عنه-
استنادًا إلى هذا الحديث".[1]
قلت: أما سائر المذاهب فعلى خلاف هذا القول، فقال
الإمام أبو حنيفة والإمام مالك -رحمهما الله-: "لا تسقط الجمعة بحضور العيد، ولا
العيد بحضور الجمعة".
ومذهب الإمام الشافعي -رحمه الله-: أنه يُرخص لأهل
البادية والقرى بعدم حضور الجمعة إذا شهدوا العيد مع الإمام، أما أهل الحضر فالجمعة
واجبة في حقهم.
ووافق الإمام ابن حزم -رحمه الله- الفقهاء الثلاثة
في عدم سقوط الجمعة عن المقيم إذا وافق يوم عيد.
كما وُجد قول شاذ يُنسب إلى عطاء بن أبي رباح
-رحمه الله-، يَرى فيه ترك الجمعة والظهر، ولا يُصلى في هذا اليوم بعد العيد إلا العصر!
.
ونظرًا لأهمية هذه المسألة لتعلقها بشعيرة الجمعة،
ولشيوع القول المرجوح بين الناس في هذا العصر، حتى زعم بعضهم -جهلاً- أن ترك الجمعة
يوم العيد من السنن المهجورة (!) ودعا إلى إغلاق المساجد حتى صلاة العصر، مع أن المذهب
الحنبلي نفسه يوجب على الإمام إقامة الجمعة في هذا اليوم، فقد وضعت بحثًا
حديثيًا بعنوان: "البرهان على أن صلاة العيد لا تجزئ عن صلاة الجمعة إذا اجتمع
العيدان"، بينت فيه السنة والرأي الراجح.
ومع علمي أن غيري سبقني في الكتابة في الموضوع،
إلا أنه لم يوفق فانتصر للقول الضعيف، وذلك لسببين:
الأول: مكانة علماء الحنابلة في نفوس العامة وطلبة
العلم في عصرنا، لدفاعهم عن السنة ومنهج السلف الصالح.
الثاني: أن حرف المسألة يعتمد على صحة أحاديث الباب،
وهي كثيرة ومتشعبة، وأغلبها يحمل علل خفية، تغمض على كثير ممن يعمل في هذه الصنعة فضلًا
عن غيرهم.
ولذا استلزم كشف هذه العلل بسطًا وإيضاحًا
حتى تتضح ويظهر مواطن الضعف فيها.
لذا طال البحث وتشعبت مباحثه، فأحببت تلخيصه
لتعم الفائدة، ومن أراد التفصيل فعنده الأصل، والله الموفق والمعين.
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه
وسلم.
وكتب
أبو صهيب وليد بن سعد
القاهرة 23 / شوال / 1444هـ
13 / مايو / 2023م
أولاً: فصل في الأحاديث.
فإنه لما اتفقت المذاهب الفقهية على ضرورة التحقق
من صحة الأحاديث قبل التأصيل الفقهي لأي مسألة، لقول الأئمة: "إذا صح الحديث فهو
مذهبي"، كان الحق أن تُدقق الأحاديث الواردة في الباب صحة وضعفًا قبل النظر في
أقوال الفقهاء، ليكون الاتباع للدليل لا لأقوال الرجال.
ولما كانت بعض
أحاديث الباب تخفى علل دقيقة، ألتبس الحق فيها واشتبه وظهر الخلاف.
وبيان
هذه العلل يحتاج إلى بسط لا يتسعه هذا المختصر، لأن ذلك يحتاج بعض البسط، من خلال جمع
أحاديث الباب وضرب بعضها ببعض حتى يظهر الحق فيها جليًا كما هو منهج علماء الصنعة.
فمن أُشكل عليه أمر فليراجع الأصل، والله المستعان.
وأول ما ينبغي معرفته في هذا المقام: أن
لعلماء الحديث منهجًا في قبول الأحاديث، فهم يشددون في أحاديث الأحكام والحلال والحرام،
فلا يقبلونها إلا من الثقات الحفاظ الأثبات. وشرط الحفظ هنا جوهري، إذ لا يقبلون تفرد
ثقة بحديث، وليس له إلا حديث أو اثنين أو حتى عشرة، لا سيما إن كان في الحديث حكم مهم وهذا الحديث لم يُروَ عن الحفاظ الكبار.
فمع كون الراوي ثقة عندهم، لكن لا يُقبل تفرده في أحاديث الأحكام.
وهذا بخلاف أحاديث الترغيب والترهيب والرقائق،
فتُقبل من الصدوق أو المستور المقل، بشرط ألا تحمل نكارة أو تأتي بحكم جديد.
وفي ضوء هذا، يُفترض أن تكون أحاديث الأحكام في
الصحيحين، لتوافق شرط الشيخين في الرواة مع رواة هذه الأحاديث.
ثم يلي الصحيحين الكتب التي اشترط مؤلفوها الصحة، كصحيحي ابن خزيمة وابن حبان،
ثم كتب السنن كسنن أبي داود والنسائي وابن ماجة، التي تُعنى بجمع هذا النوع من الأحاديث،
دون أحاديث الرقائق أو التفاسير أو الآداب أو صفة الجنة والنار.
فإن وُجد خلل في هذا الترتيب، فهو أول دلائل الضعف والوهن.
وقد كنت قسّمت أصل البحث إلى فصل في الأحاديث المرفوعة
وآخر في الموقوفة، لكن الاختصار لا يسمح بذلك، فرأيت البدء بما صح من أحاديث الباب
مرفوعة وموقوفة، ثم فصل في الأحاديث الضعيفة. والله الموفق.
أولا: الأحاديث الصحيحة:
الحديث الأول:
أخرج مسلم في "كتاب الجمعة" من صحيحه،
عن النعمان بن بشير -رضي الله عنه-، قال: " كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
يقرأ في العيدين وفي الجمعة، بسبح اسم ربك الأعلى، وهل أتاك حديث الغاشية"، قال:
"وإذا اجتمع العيد والجمعة، في يوم واحد، يقرأ بهما أيضًا في الصلاتين".
[2]
وفي رواية
الإمام أحمد في مسنده: "وربما اجتمعا في يوم واحد، فقرأ بهما". وقد قال أبو
عوانة[3]:
"وربما اجتمع عيدان في يوم".
قلت: وفي هذا الحديث أن النبي -صلى الله عليه وسلم-
القائل: "صلوا كما رأيتموني أصلى"، كان يصلي العيد والجمعة إذا اجتمعا في
يوم واحد، والحديث أخرجه الإمام مسلم في صحيحه
الحديث الثاني:
أخرج البخاري في صحيحه (5571) في كتاب الأضاحي،
بسنده إلى الزهري، قال : حدثني أبو عبيد، مولى ابن أزهر: "أنه شهد العيد يوم الأضحى
مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فصلى قبل الخطبة، ثم خطب الناس، فقال: " يا أيها
الناس، إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد نهاكم عن صيام هذين العيدين، أما أحدهما
فيوم فطركم من صيامكم، وأما الآخر فيوم تأكلون من نسككم "؛ قال أبو عبيد: ثم شهدت
العيد مع عثمان بن عفان، فكان ذلك يوم الجمعة، فصلى قبل الخطبة، ثم خطب فقال:
" يا أيها الناس، إن هذا يوم قد اجتمع لكم فيه عيدان، فمن أحب أن ينتظر الجمعة
من أهل العوالي فلينتظر، ومن أحب أن يرجع فقد أذنت له"؛ قال أبو عبيد: ثم شهدته
مع علي بن أبي طالب، فصلى قبل الخطبة، ثم خطب الناس، فقال: " إن رسول الله -صلى
الله عليه وسلم- نهاكم أن تأكلوا لحوم نسككم فوق ثلاث ". [4]
قلت: وقد ذكرت هذا الحديث بتمامه دون الاكتفاء
بموطن الشاهد، لنكتةٍ جليلة، وهي: أن هيئة صلاة الخلفاء الراشدين -رضوان الله عليهم-
تناقض الأحاديث المنكرة التي تأتي لاحقًا، وقد ارتضاه البخاري ليكون حديثَ الباب.
وفي الرواية: أن عثمان -رضي الله عنه- أذن لأهل
العوالي خاصة، بأن من أراد منهم انتظار الجمعة فلينتظر، ومن أراد الرجوع إلى أهله فقد
أُذن له.
والحكمة أن أهل العالية كانوا في سفر، والجمعة
غير واجبة في حقهم.
قال الإمام ابن رجب الحنبلي -رحمه الله-:
" أعلى المدينة: هو العوالي والعالية، وهو قباء وما حوله، وكانت قباء مسكن بني
عمرو بن عوف.
وقيل: إن كل ما كان من جهة نجد من المدينة، من قراها
وعمائرها إلى تهامة يسمى العالية، وما كان دون ذلك يسمى السافلة". [5]
قلت: أخرج البخاري في صحيحه (550)
في بيان أن السنة تعجيل صلاة العصر وعدم تأخيرها، عن أنس بن مالك، قال: "كان رسول
الله -صلى الله عليه وسلم- يُصلي العصر والشمس مرتفعة حية، فيذهب الذاهب إلى العوالي،
فيأتيهم والشمس مرتفعة، وبعض العوالي من المدينة على أربعة أميال أو نحوه".
وقال الإمام ابن حجر العسقلاني: "قوله: 'من
أهل العوالي': وهو جمع العالية، وهي قرى معروفة بالمدينة. قوله: 'فلينتَظر': أي يتأخر
ليصلي الجمعة. قوله: 'ومن أحب أن يرجع فقد أُذن له': استدل به من ذهب إلى سقوط الجمعة
عمن صلى العيد إذا وافق العيد يوم الجمعة، وهو محكي عن الإمام أحمد.
وأجيب بأن قوله: أُذن له، لا يتضمن تصريحًا
بعدم العَود، كذلك ظاهر الرواية أن أهل العوالي لم يكونوا ممن تجب عليهم الجمعة".[6]
ثانيًا:
الأحاديث الضعيفة:
الحديث الأول:
أخرج أبو داود (1073)، قال: حدثنا محمد بن المصفى، وعمر بن حفص الوصابي، الْمَعْنَى، قالا: حدثنا
بقية، حدثنا شعبة، عن مغيرة الضبى، عن عبد العزيز بن رُفَيْعٍ، عن أبي صالح عن أبي
هريرة، عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "قَدِ اجْتَمَعَ فِي يَوْمِكُمْ
هَذَا عِيدَانِ، فَمَنْ شَاءَ أَجْزَأَهُ مِنَ الْجُمُعَةِ، وَإِنَّا مُجَمِّعُونَ".
قال عمر: عن شعبة.[7]
قال البزار عقبه: "وحديث المغيرة عن عبد العزيز
لا نعلم رواه عن شعبة وأسنده إلا بقية، وحديث عبد العزيز بن رفيع، عن أبي صالح، عن
أبي هريرة فقد رواه غير واحد، عن أبي صالح، مرسلًا". اهـ
وقال ابن أبي حاتم في علل الحديث (602): "وسألت أبي عن حديث؛ رواه بقية، عن شعبة، عن مغيرة، عن عبد العزيز بن
رُفَيْعٍ، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، قال: "اجتمع
عيدان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم".
قال أبي: رواه أبو عوانة[8]،
عن عبد العزيز بن رُفَيْعٍ، قال: شهدت الحجاج بن يوسف، واجتمع عيدان في يوم فجمَّعوا،
فسألت أهل المدينة، قلت: كان فيكم رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين، فهل اجتمع
عيدان؟ قالوا: نعم.
قال أبي:
هذا أشبه". اهـ
وقال ابن الجوزي في العلل المتناهية (805): "قال الدارقطني: هذا حديث غريب من حديث مغيرة، ولم يرفعه غير شعبة، وهو
أيضًا غريب عن شعبة، ولم يروه عنه غير بقيه، وقد رواه "زيادٌ البَكَّائِيُّ وصالح
بن موسى الطَّلْحِي" عن "عبد العزيز بن رفيع" متصلًا، وروي عن الثوري
عن عبد العزيز متصلًا وهو غريب عنه؛ ورواه جماعة عن عبد العزيز عن أبي صالح عن النبي
-صلى الله عليه وسلم- مرسلًا ولم يذكروا أبا هريرة .
ثم قال: وكذا قال أحمد بن حنبل: "إنما رواه
الناس عن أبي صالح مرسلًا، وتعجب من بقية كيف رفعه؟ وقد كان بقية يروي عن الضعفاء ويُدلس".
اهـ
وروى الخطيب البغدادي في تاريخه بسنده، إلى أبي
بكر الأثرم، قال: قال أبو عبد الله أحمد بن حنبل: بلغني أن بقية روي عنه: شعبة، عن
مغيرة، عن عبد العزيز بن رفيع، عن أبي صالح، عن أبي هريرة في العيدين يجتمعان في يوم،
من أين جاء بقية بهذا؟ كأنه يعجب منه". [9]
وقال الدارقطني في علله (1984): وكذلك رواه أبو عوانة، وزائدة، وشريك، وجرير بن عبد الحميد، وأبو حمزة السكري
كلهم عن عبد العزيز بن رفيع، عن أبي صالح مرسلًا، وهو الصحيح.
وقال الخطابي في شرحه لسنن أبي
داود: "في إسناد حديث أبي هريرة مقال"[10].
قلت: كما نبه أبو داود أن "عمر
بن حفص الوصابي" لم يوافق صاحبه "محمد بن المصفى" من أن بقية قال:
حدثنا شعبة، وإنما قال: عن شعبة.
وبقية هذا، هو: ابن الوليد الحمصي
أبو يحمد، قال فيه سفيان بن عيينة -رحمه الله- : "لا تسمعوا من بَقية ما كان
في سنة، واسمعوا منه ما كان في ثواب وغيره". اهـ
وقالوا: بقية ليست أحاديثه نقية فكن منها
على تقية.
وهو صدوق صاحب حديث، إلا أنه مُدلس
تدليس تسوية، فلا ينفعه التصريح بالسماع من شيخه، ولكن يلزمه التصريح في كل طبقات
السند، خاصة في مثل هذا الحديث، لأنه تفرّد به، وهو غريب من حديث شعبة، فلا يرويه
من طلبة شعبه سوى بقية بن الوليد كما قال الدارقطني، والحاكم في المستدرك[11].
وقال فيه أبو حاتم: "يكتب
حديثه، ولا يحتج به".
قلت: ويكفي إيراد هذه العلة في هذا
المختصر، وللحديث علل أخرى، من أراد الوقوف عليها فليراجع الأصل.
وبهذا يكون علة هذا الحديث: تدليس "بقية
بن الوليد"، والذي تفرد برفع الحديث، والصحيح أن هذا الحديث مرسلًا كما قال الدارقطني.
ولفظ الحديث المرسل: "اجتمع عيدان على
عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: "إنكم قد أصبتم خيرَا وذكرًا، وإنا مُجَمِّعُون،
فمن شاء أن يُجَمِّع فليُجَمِّع ومن شاء أن يرجع فليرجع".
ويكون بقية تفرد أيضًا بلفظ: "فَمَنْ شَاءَ أَجْزَأَهُ مِنَ الْجُمُعَةِ".
وبهذا يكون ضعف هذا الحديث: الإمام
أحمد، وأبي حاتم الرازي والدارقطني وابن الجوزي.
الحديث الثاني:
أخرج ابن ماجة (1312) من حديث ابن عمر، قال: "اجتمع عيدان على عهد رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- فصلى بالناس، ثم قال: "مَنْ شَاءَ أَنْ يَأْتِيَ الْجُمُعَةَ
فَلْيَأْتِهَا، وَمَنْ شَاءَ أَنْ يَتَخَلَّفَ فَلْيَتَخَلَّفْ".
قلت: وهذا حديث ضعيف جدًا. وله
علتان:
الأولى: "
جُبَارةُ بن الْمُغَلِّس، وهو: الحماني أبو محمد الكوفي".
قال البزار: "كان كثير
الخطأ ليس يُحدّث عنه رجل من أهل العلم، إنما يُحدّث عنه قوم فاتتهم أحاديث كانت
عنده أو رجل غبي".
وذكره العقيلي في "جملة
الضعفاء"، وقال عنه أحمد: "أحاديثه موضوعة مكذوبة".
وقال ابن حبان: "كان يَقلب
الأسانيد ويرفع المراسيل، أفسده يحيى الحماني حتى بَطل الاحتجاج بأحاديثه
المستقيمة لما شانها من الأشياء المستفيضة عنه التي لا أصول لها، فخرج بها عن حد
التعديل إلى التجريح".
وعن الدارقطني: "متروك"[12].
والعلة الثانية هي: "مِندل بن علي"، وهو: العنزي أبو عبد
اللَّه الكوفِي.
ضعفه أحمد بن حنبل، وقال يحيى بن
معين في رواية ابن أبي خيثمة: "ليس بشيء"، وقال أبو زرعة: "لين"،
وقال ابن نمير: "حبان وأخوه مندل أحاديثهما فيها بعض الغلط".
وقال أبو حاتم: شيخ"[13]،
وضعفه النسائي في الضعفاء له (578).
وفي تنقيح التحقيق لابن عبد الهادي
(2 / 561): "وأما حديث ابن عمر: فإن مِندل بن علي، ضعيف، وجُبارة،
ليس بشيء أصلًا، قال يحيى بن معين: هو كذاب.
وقال ابن نمير: "كان يوضع له الحديث فيحدث به". اهـ
وقال ابن حجر في (التلخيص الحبير (2 / 211)): "ورواه أيضًا - يعني: ابن ماجة - من حديث ابن
عمر، وإسناده ضعيف. ورواه الطبراني من وجه آخر عن ابن عمر".
قلت: ورواية الطبراني التي ذكرها
ابن حجر، هي عنده في الكبرى (13591)، فيها: سعيد بن راشد المازني السماك.
قال البخاري في التاريخ الأوسط (2239): "منكر الحديث".
وقال ابن حبان في المجروحين (1 / 324): "كنيته أبو محمد وقد قيل: أبو حماد من بني مازن
من أهل البصرة... ينفرد عن الثقات بالمعضلات...سمعت أحمد بن زهير عن يحيى بن معين
قال: "سعيد السماك ليس بشيء".
وقال النسائي: متروك[14].
وقال ابن أبي حاتم في العلل (1/470): "وهذا لا يصح؛ مِندل بن علي ضعيف جدًا فليس بشيء؛
قال يحيى: هو كذاب". وقال ابن نمير: كان يُوضع الحديث فيُحدث به. وأصلح ما روي حديث زيد بن أرقم?". اهـ
وبهذا يكون ضعف هذا الحديث: الإمام أبي حاتم
الرازي، وابن عبد الهادي وابن حجر العسقلاني.
الحديث الثالث:
وأما حديث زيد بن أرقم الذي ذكره ابن
نمير، وقال: أنه أصلح ما روي في الباب.
هو ما أخرجه أبو داود الطيالسي
في مسنده (720، ط/ هجر) قال: حدثنا إسرائيل، قال: حدثنا عثمان ابن المغيرة، عن إياس
بن أبي رملة الشامي، قال: شهدت معاوية سأل زيد بن أرقم: أشَهدت مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عيدين اجتمعا في يوم؟ قال: نعم، قال: كيف صنع؟ قال: صلى العيد
ثم رخص في الجمعة، فقال: "مَنْ شَاءَ أَنْ يُصَلِّيَ فَلْيُصَلِّ"[15]
قلت: وهذا حديث منكر، وآفته: "إياس بن
أبي رملة الشامي"، تفرّد به وليس له في كتب السنة إلا هذا الحديث الفرد، وهو
مجهول.
قال ابن المنذر: "لا يثبت
هذا، فإن إياسًا مجهول"[16].
ووافقه ابن القطان الفاسي[17].
وكذا أعله البخاري -رحمه الله-،
فأخرجه في التاريخ الكبير، فقال: "قال لنا محمد بن كثير: أخبرنا إسرائيل، عن عثمان
بن المغيرة الثقفي، عن إياس بن أبي رملة الشامي، قال: سمعت معاوية يسأل زيد بن أرقم:
هل شهدت العيد مع النبي -صلى الله عليه وسلم- والجمعة؟ قال: "نعم، صلى العيد ثم
أتى الجمعة". الحديث.
قلت: وهذا بعينه إسناد أبي داود في "سننه"،
الذي اعتمد عليه من صحَّح الحديث، إذ أخرجه أبو داود من حديث محمد بن كثير عن إسرائيل
بتمامه، وكذلك فعل الطبراني في "المعجم الكبير" والبيهقي في "معرفة
السنن والآثار". غير أن متن حديث البخاري يتعارض مع متنهم، ففيه أن النبي-صلى
الله عليه وسلم- صلى الجمعة والعيد معًا، بينما في حديثهم أنه رخّص في الجمعة
وقال: "مَنْ شَاءَ أَنْ يُصَلِّيَ فَلْيُصَلِّ"، فالإسناد واحد والمتن
مختلف.
ولا يُتوهم هنا أن قول البخاري:
"قال لنا محمد بن كثير"، لا يُحمل على السماع، فإن "محمد بن كثير"
هو: "العبدي أبو عبد الله البصري" شيخ البخاري، أخرج حديثه في الصحيح،
ومن مشاهير حديثه: "مَنْ صَلَّى بِالنَّاسِ فَلْيُخَفِّفْ، فَإِنَّ فِيهِمُ
المَرِيضَ، وَالضَّعِيفَ، وَذَا الحَاجَةِ".
بيد أن البخاري -رحمه الله- يسوق الحديث بهذه
الطريقة إن كان في الحديث علة.[18]
قلت: ولما لم يخرج البخاري هذا الحديث في
"صحيحه" مع وجوده عنده، فهذا دليل على أن الحديث معلول لا يصح.
وهذه النكتة دل عليها ابن عبد البر المالكي -رحمه الله- وهو يتكلم عن ضعف
أحاديث الباب، قال: "ليس منها حديث إلا وفيه مطعن لأهل العلم بالحديث، ولم
يخرج البخاري ولا مسلم بن الحجاج منها حديثًا واحدًا وحسبك بذلك ضعفًا لها"[19].
كما أن هذا أيضًا ما ذهب إليه ابن خزيمة -رحمه
الله- وهو يبوب لهذا الحديث، قال: "باب الرخصة لبعض الرعية في التخلف عن الجمعة
إذا اجتمع العيد والجمعة في يوم واحد -إن صح الخبر- فإني لا أعرف إياس ابن أبي رملة
بعدالة ولا جرح". اهـ
قلت: وقد أخطأ من صحَّح الحديث مستندين إلى
كلمة نقلها ابن عبد البر في "الاستذكار" (2/386) عن الإمام علي بن المديني، حيث قال: "قال علي بن المديني:
في هذا الباب غير ما حديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم- بإسناد جيد". اهـ
فظنوا أن هذا تحسين لحال الحديث، وفق ما استقر
عليه عرف أهل المصطلح في العصور المتأخرة، بأن الحديث الحسن أو الجيد من أقسام الصحيح.
وهذا خلاف ما كان عليه علماء الطبقة المتقدمة، فإنهم كانوا يصفون الغرائب
والمناكير بأنها حسنة أو جيدة.
قال
أمية بن خالد: قلت لشعبة: مالكَ لا تُحدث عن عبد الملك بن أبي سليمان؟
قال: تركت حديثه.
قلت: تحدث عن محمد بن عبيد الله العَرْزَمِي،
وتدع عبد الملك بن أبي سليمان، وكان حسن الحديث؟
قال: من حسنها فررت"[20].
وجاء عن الإمام أحمد -رحمه الله-
وصف النكارة بالحسن، ففي رواية المروذي لعلل الحديث: حدثنا الميموني قال سألته عن
إبني بريدة، فقال: "سليمان أحلى في القلب، وكأنه أصحهما حديثًا، وعبد الله له
أشياء كنا ننكرها من حسنها وهو جائز الحديث"[21].
وحتى من تأخر عن هذه الطبقة كان يصف
الغرائب بالحسان، فهذا أبو عليٍ محمد بن علي الصوري، سمي كتابه: "الفوائد المنتقاة
والغرائب الحسان عن الشيوخ الكوفيين". فوصف الغرائب بالحسان.
وهذا مراد الإمام الترمذي في جامعه،
فإنه يصف الحديث الحسن المجرد بهذا لأنه معلول عنده، بعيدًا عن تخرصات "نور الدين عتر"، فإنه
يزعم أن الترمذي يصفه بالحسن إن كان الحديث حسن لغيره.
وهذا لا يعرف عنه الترمذي شيئًا، فإن قسمة
الحديث كانت عند هؤلاء الأوائل قسمة ثنائية، فالحديث عندهم: إما صحيح وإما ضعيف،
ولهذا نجده يقول: حديث حسن وإسناده ليس بمتصل، ويقول: حديث حسن وفيه فلان وهو
ضعيف.
فكانوا يصفون الغرائب بالحسن، ويصفون المناكير بالجودة.
وهذا الإمام الذهبي -رحمه الله- في تلخيصه
لتعليقات المستدرك، عند حديث (6738): " اللهم اغفر
لعائشة بنت أبي بكر الصديق مغفرة واجبة ظاهرة باطنة"، قال: "منكر على جودة
إسناده".
وقال في حديث "أبي خالد الدلاني"
الطويل الذي أخرجه الحاكم في كتاب الأهوال من المستدرك (8751): " ما أنكره حديثًا على جودة إسناده". اهـ
فقول الإمام علي بن المديني: إن هذا
إسناد جيد، يعني إسناد منكر؛ إذ تفرد به مجهول، والحديث المنكر هو ما تفرد به
الضعيف، فما بالنا بالمجهول؟
ويؤكد هذا أنه -رحمه الله- من نسب راوي
الحديث إلى الجهالة، ففي لسان الميزان في ترجمه "إياس بن أبي رملة" (2373): "شامي، قال ابن المديني: "مجهول". اهـ
وفي ميزان الذهبي (1052)، قال: "إياس بن أبى رملة... في حديث زيد بن أرقم حين سأله معاوية. قال
ابن المنذر: لا يثبت هذا، فإن إياسًا مجهول". اهـ
وبهذا يكون حديث زيد بن أرقم، ضعفه
البخاري وعلي بن المديني وابن المنذر وابن العربي وابن القطان.
الحديث
الرابع:
جاء عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب -رضي الله
عنه- في هذا الباب أربعة أحاديث، واحد منها فيه علة خفية، والباقي ضعفه بين، ولذا
سأطيل الكلام قليلًا في الحديث المعل وبه أبدأ، واختصر في الباقي:
أخرج عبد الرزاق في مصنفه في كتاب صلاة العيدين
(5731)، قال: "عن الثوري، عن عبد الله، عن أبي عبد الرحمن
السلمي، عن علي قال: اجتمع عيدان في يوم، فقال: "من أراد أن يُجَمِّع فليُجَمِّع،
ومن أراد أن يجلس فليجلس".
قلت: هذا حديث باطل، وعبد الله، هو: ابن المبارك
-رحمه الله-.
والعلة فيه من عبد الرزاق، فإنه ليس بالقوي في الثوري،
وقد اختلط بعد ما عمي -رحمه الله-، وإلا فإن هذا هو حديث سفيان المرسل، عن أبي صالح
(ذكوان)، وفيه: عن الثوري، عن عبد العزيز بن رفيع، عن ذكوان قال: "اجتمع عيدان
على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فطر وجمعة -أو أضحى وجمعة- قال: فخرج النبي
-صلى الله عليه وسلم- فقال: "إنكم قد أصبتم ذكرًا وخيرًا، وإنا مجمعون، من أراد
أن يُجَمِّع فليُجَمِّع، ومن أراد أن يجلس فليجلس" .
وقد روى عبد الرزاق نفسه الحديث المرسل
في مصنفه رقم: (5728).
سُئل يحيى بن معين عن عبد الرزاق
في سفيان فقال: "مثلهم، يعني مثل: الفريابي، وقبيصة، وعبيد الله بن موسى،
وابن يمان، وأبو حذيفة، ليس بالقوي"[22].
وقال أبو بكر بن أبي خيثمة: سمعت يحيى
بن معين وسُئل عن أصحاب الثوري فقال: أما عبد الرزاق، والفريابي، وعبيد الله بن
موسى، وأبو أحمد الزبيري، وأبو عاصم، وقَبِيصَةُ، وطبقتهم، فهم كلهم في سفيان
قريبًا بعضهم من بعض، وهم دون يحيى بن سعيد، وعبد الرحمن بن مهدى، ووكيع، وابن المبارك،
وأبى نعيم"[23].
وقال عباس الدوري: "سمعت
يحيى يقول: كان عبد الرزاق في حديث معمر أثبت من هشام بن يوسف وكان هشام بن يوسف
أثبت من عبد الرزاق في حديث ابن جريج، وكان أقرأ لكُتب ابن جريج من عبد الرزاق،
وكان أعلم بحديث سفيان من عبد الرزاق"[24].
وقال فيه ابن حجر: "ثقة، حافظ، مصنف
شهير، عمي في آخر عمره فتغير، وكان يتشيع"[25].
قلت: فالعلة في هذا الحديث من عبد الرزاق، فقد
خلط وأدخل حديثًا في حديث، فأدخل حديث سفيان المرسل عن أبي ذكوان، في حديث سفيان
الموقوف على علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-.
ويكون بهذا حديث "عبد العزيز بن رفيع"
الذي هو في أصله عن الحجاج بن يوسف، روي مرة مرفوعًا للرسول صلى الله عليه وسلم،
ومرة موقوفًا عن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-
الحديث الخامس:
رواه عبد الرزاق في المصنف (5730)، قال: عن ابن جريج، قال: أخبرني جعفر بن محمد أنهما اجتمعا وعليٌ بالكوفة فصلى،
ثم صلى الجمعة، وقال حين صلى الفطر: "من كان ها هنا فقد أذنا له، كأنه لمن حوله
يريد الجمعة". الحديث.
قلت: هذا حديث مرسل، فمحمد بن جعفر، هو الصادق،
ثقة فاضل، إلا أنه لم يدرك عليًا -رضي الله عنه-، والله أعلم.
ففي الكامل لابن عدي (334): سأله أبو بكر بن عياش عما يتحدث به من الأحاديث، أشيئًا سمعته؟ "قال:
لا، ولكنها رواية رويناها عن آبائنا". اهـ
قلت: وهناك أحاديث أخرى في الباب رواها
عن أبيه الباقر تجدها في صلب البحث، وهي أيضًا ضعيفة، منها: "اجتمع عيدان على
عهد علي فشهد بهم العيد، ثم قال: إنا مُجَمِّعُون، فمن أراد أن يشهد، فليشهد".
قلت: وتأمل هذا الحرف المذكور في هذا
الحديث: " إنا مُجَمِّعُون"،
وقد مر بنا في حديث بقية بن الوليد المرفوع، لتعلم كيف يتلاعب به المدلسون؟.
الحديث السادس:
روى ابن أبي شيبة في مصنفه (5838)، قال: حدثنا أبو الأحوص، عن عبد الأعلى، عن أبي عبد الرحمن، قال: اجتمع عيدان
على عهد عليٌ، فصلى بالناس، ثم خطب على راحلته فقال: "يا أيها الناس، من شهد منكم
العيد فقد قضى جمعته إن شاء الله". الحديث.
قلت: حديث ضعيف، تفرد به عبد الأعلى، وهو: ابن عامر
الثعلبي الكوفي.
ضعفه أحمد وأبو زرعة، وقال عبد الرحمن بن أبي حاتم:
سألت أبي عنه، فقال: ليس بقوي، ووافقه النسائي، وقال الذهبي: لين.
الحديث السابع:
روى الفريابي في أحكام العيدين رقم: (9)، قال: حدثنا قتيبة، ثنا أبو عوانة، عن قتادة، عن الحسن، قال: "اجتمع عيدان
على عهد عليٌ، فصلى أحدهما، ولم يصل الآخر".
قلت: إسناده ضعيف، فالحسن هو البصرى -رحمه الله-
أدرك عليًا ولم يسمع منه.
قال أحمد: "رواية الحسن، عن علي، لم تَثبت،
وأهل العلم بالحديث يرونها مرسلة .[26]
وقال الترمذي في جامعه (1423): "قد كان الحسن في زمان علي وقد أدركه، ولكنا لا نعرف له سماعًا منه".
اهـ
قلت: هذا هو الحديث الأخير عن علي بن أبي
طالب -رضي الله عنه- في هذا الباب، ويتلوه أحاديث عبد الله بن الزبير -رضي الله عنهما-،
وهي أحاديث كثيرة ومتشعبة. وبعضها يحمل عللًا خفية، فلا يكون ضعفها ظاهرًا كما في أحاديث
علي. لذا، يتطلب الكلام عليها شيئًا من التفصيل، ولا يناسبها الاختصار المخل. كما
أن من صحَّح حديث إياس بن أبي رملة المرفوع -وهو مجهول كما سبق، وحديثه منكر- ، اعتمد
في تقويته على أحاديث ابن الزبير.
الحديث الثامن:
تحقيق أحاديث عبد الله بن الزبير.
قلت: ذكرت عند الكلام على حديث عثمان بن
عفان وأذنه لأهل العوالي بجواز عدم شهود الجمعة لمن أحب منهم، أني لم أكتف بموطن الشاهد
فقط من الحديث؛ وإنما ذكرته بتمامه، لأنه يظهر علة أحاديث ابن الزبير، فالأمر كما
قال علمائنا: إنك لن تعرف علة الأحاديث حتى تضرب بعضها ببعض.
فحديث عثمان فيه هيئة صلاة العيد عن
ثلاثة خلفاء راشدين، وهم: عمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب -رضي
الله عنهم-، وثلاثتهم صلوا أولًا ثم خطبوا كما جاءت السنة، ولم تكن خطبتهم على
منبر كما هو هدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في خطبة العيد، والحديث أخرجه
البخاري.
وهذا هو الثابت أيضًا عن عبد الله بن
الزبير -رضي الله عنهما-.
فقد
أخرج مسلم في صحيحه، من طريق عبد الرزاق، قال: أخبرنا ابن جريج، أخبرني عطاء، أن ابن
عباس، أرسل إلى ابن الزبير أول ما بويع له "إنه لم يكن يؤَذن للصلاة يوم الفطر،
فلا تؤذن لها"، قال: فلم يؤذن لها ابن الزبير يومه، وأرسل إليه مع ذلك:
"إنما الخطبة بعد الصلاة، وإن ذلك قد كان يُفعل"، قال: فصلى ابن الزبير قبل
الخطبة" .
قلت: وسبب وصية ابن عباس هذه، لأنه في ولاية "مروان
بن الحكم" خالف مروان السنة فقدم الخطبة على الصلاة، وأخرج المنبر في مصلى العيد،
فأنكر عليه أبو سعيد الخدري رضي الله عنه- هذا الصنيع، لأنه لم يكن هذا هدي النبي -صلى
الله عليه وسلم-؛ فلما تولى ابن الزبير أرسل إليه عبد الله بن عباس بإرجاع الأمر إلى
نصابه وفق السنة.
قال الترمذي -رحمه الله- عقب حديث (531): " كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأبو بكر وعمر يصلون في العيدين
قبل الخطبة ثم يخطبون".
قال: "والعمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب
النبي -صلى الله عليه وسلم- وغيرهم: أن صلاة العيدين قبل الخطبة، ويقال: إن أول من
خطب قبل الصلاة مروان بن الحكم ". اهـ
وفي صحيح مسلم عن طارق بن شهاب البجلي، قال:
"أول من بدأ بالخطبة يوم العيد قبل الصلاة مروان".
وقال ابن قدامة: "لا نعلم فيه خلافًا
بين المسلمين إلا عن بني أمية قال: وعن ابن عباس وابن الزبير أنهما
فعلاه ولم يصح عنهما، قال: ولا يعتد بخلاف بني أمية لأنه مسبوق بالإجماع الذي كان قبلهم،
ومخالف لسنة النبي -صلى الله عليه وسلم- الصحيحة، وقد أنُكر عليهم فعلهم وعُد بدعة ومخُالفًا
للسنة" .
وقال العراقي: "الصواب أن أول من فعله
مروان بالمدينة في خلافة معاوية كما ثبت ذلك في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري، ولم يصح
فعله عن أحد من الصحابة لا عمر ولا عثمان ولا معاوية ولا ابن الزبير".
قلت: الصحيح عن عبد الله بن الزبير -رضي
الله عنه- أنه في صلاة العيد صلى أولًا ثم خطب، ولم يعتلِ المنبر، امتثالًا لوصية عبد
الله بن عباس -رضي الله عنه-، ليتماشى فعله مع سنة النبي -صلى الله عليه وسلم- الصحيحة
وممارسة الخلفاء الراشدين. وقد نفى الإمام ابن قدامة الحنبلي والحافظ العراقي ما ورد
عن ابن الزبير وابن عباس بخلاف ذلك.
قلت:
وليتبين للقارئ نكارة الأحاديث التي صححها من أجاز التخلف عن صلاة الجمعة لمن أدى صلاة
العيد، أورد أحاديث لا خلاف على صحتها، تظهر من خلالها علل تلك الأحاديث. وتأمل أسانيد
هذه الأحاديث في غاية الأهمية، ولذا أذكرها بأسانيدها:
أخرج البخاري (1449) من طريق إسماعيل بن علية، عن أيوب السختياني، عن عطاء بن أبي رباح، قال: قال
ابن عباس رضي الله عنهما: "أشهد على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لَصَلَّى
قبل الخطبة، فَرَأَى أَنَّهُ لم يُسْمِعِ النساء، فأتاهن ومعه بلال ناشر ثوبه، فَوَعَظَهُنَّ،
وأَمَرَهُنَّ أن يَتَصَدَّقْنَ".
وروى مسلم في كتاب العيدين من صحيحه (884) من طريق الثوري، عن أيوب، قال: سمعت عطاء، قال: سمعت ابن عباس، يقول:
"أشهد على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لصلى قبل الخطبة"، قال:
"ثم خطب".
وعند أحمد في مسنده (16108) من حديث وهب بن كيسان، مولى آل الزبير، قال: سمعت عبد الله
بن الزبير، في يوم العيد يقول حين "صلى قبل الخطبة، ثم قام يخطب الناس: يا أيها
الناس، كُلًا كذا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم" .
قلت: وهذا حديث حسن رجاله ثقات، إلا محمد بن إسحاق
فإنه صدوق مدلس، وقد صرح بالتحديث.
قال السندي: قوله: "كُلُّا"، بالنصب:
أي افعلوا كُلُّا، أو فعلت كُلُّا، من الصلاة والخطبة،
وقوله:
سنة الله: بدل من: " كُلُّا".
وقال البخاري: حدثنا أبو عاصم، قال : أخبرنا ابن
جريج، قال : أخبرني الحسن بن مسلم، عن طاوس، عن ابن عباس، قال: "شهدت العيد مع
رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وأبي بكر، وعمر، وعثمان رضي الله عنهم، فكلهم كانوا
يصلون قبل الخطبة".
هذا الحديث رواه البخاري من حديث طاوس عن ابن عباس،
وأخرجه الفريابي في كتاب العيدين له: (ص / 136) من حديث عطاء عن ابن عباس.
وأخرج البخاري (958) من طريق هشام بن يوسف الصنعاني، أن ابن جريج أخبرهم، قال: أخبرني عطاء، عن
جابر بن عبد الله، قال: سمعته يقول: "إن النبي -صلى الله عليه وسلم- خرج يوم الفطر،
فبدأ بالصلاة قبل الخطبة".
وأخرجه
مسلم (885) من طريق عبد الرزاق مثله.
وحديث البخاري في أذن عثمان بن عفان -رضي الله عنه-
لأهل العالية في صلاة الجمعة يوم العيد، أخرجه عبد الرزاق من حديث معمر وابن جريج عن
الزهري، به.
قلت:
وفيما ذكر كفاية في بيان أن السنة في صلاة العيد أن تكون بلا أذان ولا إقامة، وأن الصلاة
فيها تسبق الخطبة، وأنها تكون في مصلى العيد من غير منبر، وهذا ما مضت به سنة رسول
الله -صلى الله عليه وسلم-، وما كان عليه الخلفاء الثلاثة عمر وعثمان وعلي.
وهو ما أمر به عبد الله بن عباس ابن الزبير في أول
ولايته، لأن مروان بن الحكم الأموي أحدث فجعل الخطبة قبل الصلاة، وخطب العيد على المنبر،
وأن ابن الزبير التزم بهذا، ووافق السنة في صلاته.
وكل هذا أخرجها البخاري ومسلم، أو أحدهما من طريق
عطاء وابن جريج ووهب بن كَيْسَان مولى ابن الزبير، وبعضها أخرجه عبد الرزاق في مصنفه.
وأما الأحاديث المعلولة عن ابن الزبير فهي عشرة
أحاديث، والكلام عليها يطول، ولذا سأحاول التركيز على موطن الضعف فقط، ليتوافق هذا
مع الاختصار:
1 ـ أخرج أبو داود في سننه (1072)، قال: حدثنا يحيى بن خلف، حدثنا أبو عاصم، عن ابن جريج، قال: قال عطاء: اجتمع
يوم جمعة، ويوم فطر على عهد ابن الزبير، فقال: "عيدان اجتمعا في يوم واحد"،
فجمعهما جميعًا فصلاهما ركعتين بكرة، لم يَزد عليهما حتى صلى العصر.
قلت: تفرّد أبو داود عن أصحاب السنن بهذه الرواية،
ولم يشاركه فيها إلا عبد الرزاق في مصنفه.
وفيها: إن ابن الزبير جمع بين العيد والجمعة بركعتين
صلاهما بكرة، ولم يزد عليهما حتى صلى العصر. ولم يُسند عطاء إلى ابن الزبير إلا قوله:
عيدان اجتمعا في يوم واحد.
قلت: والحديث منكر، و"ابن جريج" هو: عبد
الملك بن عبد العزيز بن جريج القرشي الأموي أبو الوليد وأبو خالد.
ثقة فقيه
كثير الحديث من رجال الصحيحين؛ إلا أنه يُدلس ويُرسل. ولم يُصرح بالتحديث هنا، ولكن
قال: قال عطاء.
قال ابن
حجر: "عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج المكي، فقيه الحجاز، مشهور بالعلم، والتثبت
كثير الحديث، وصفه النسائي وغيره بالتدليس، قال الدارقطني: شر التدليس تدليس ابن جريج
فإنه قبيح التدليس لا يُدلس إلا فيما سمعه من مجروح".[27]
وقال الذهبي: " ثقة مدلس؛ قال الدارقطني: يجتنب تدليسه، فإنه وحش التدليس لا يدلس
إلا فيما قد سمعه من مجروح، كإبراهيم بن يحيى، وموسى بن
عبيدة، فأما ابن عيينة فيُدلس عن الثقات".[28]
وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل: قال أبي:
"بعض هذه الأحاديث التي كان يرسلها ابن جريج أحاديث موضوعة. كان ابن جريج لا يُبالى
من أين يأخذها.
يعني قوله: أخُبرت، وحُدثت عن فلان".[29]
وقال أحمد بن حنبل:" كان ابن جريج [إذ حدث]
من كتاب أصح، وكان في بعض حفظه إذا حدث حفظًا شيء".
وقال أحمد بن صالح المصري: "ابن جريج إذا أخبر
الخبر فهو جيد، وإذا لم يخبر فلا يعبأ به". [30]
قلت: فهو مدلس لا يُقبل حديثه إلا إذ صرح بالتحديث،
أما خلاف ذلك فَيُرد حديثه.
بيد أن من صحح هذا الحديث ذَكر قول ابن جريج الذي
جاء في تاريخ ابن أبي خيثمة: "إذا قلت: قال عطاء؛ فأنا سمعته منه، وإن لم أقل:
سمعت"!. اهـ
قلت: وهذا
لا ينفعه هنا؛ فالعلماء ردوا بعض حديثه وقد قال: أخبرني!
ففي إكمال
تهذيب الكمال لمغلطاي (3351): " قال أبو بكر: ورأيت في " كتاب علي بن المديني":
سألت يحيى بن سعيد عن حديث ابن جرج عن عطاء الخراساني؟ قال: ضعيف. قلت ليحيى: إنه يقول
أخبرني. قال: كله ضعيف، إنما هو كتاب دفعه إليه". اهـ
قلت: وأما
ما ذكره ابن جريج من أنه إذا قال: قال عطاء؛ فأنه سمعته منه، فمردود بكلام الإمامين،
أحمد بن حنبل، وابن رجب الحنبلي ـ رحمهما الله ـ .
قال ابن رجب في شرحه لعلل الترمذي:
"والحال الثاني: أن يكون القائل لذلك معروفًا
بالتدليس فحكم قوله: قال فلان، حكم قوله "عن فلان" كما سبق. وبعضهم كانت
هذه عادته كابن جريج.
قال:
"كل شيء قال ابن جريج: قال عطاء أو عن عطاء فإنه لم يسمعه".[31]
وقال أبو بكر الأثرم: قال لي أبو عبد الله: إذا
قال ابن جريج: قال فلان، وقال فلان، وأخُبرت، جاء بمناكير، فإذا قال: أخبرَني وسمعت
فحسبك به".[32]
قلت: فهذا الحديث
من مناكير ابن جريج، فقد قال: قال عطاء.
ولهذا لما أخرج له البخاري -رحمه الله- حديثه عن
عطاء في كتاب العيدين من صحيحه، لم يَقبل حديثه إلا بعد أن صرح بالتحديث.
قال البخاري: أخبرنا هشام، أن ابن جريج أخبرهم، قال:
أخبرني عطاء، عن جابر بن عبد الله، قال: سمعته يقول: "إن النبي صلى الله عليه
وسلم خرج يوم الفطر، فبدأ بالصلاة قبل الخطبة".
قال: وأخبرني عطاء، أن ابن عباس، أرسل إلى
ابن الزبير في أول ما بويع له "إنه لم يكن يؤذن بالصلاة يوم الفطر، إنما الخطبة
بعد الصلاة".
قلت: فالبخاري الإمام -عليه الرحمة- لما يخرج حديث ابن جريج بعد التصريح بالتحديث،
ولذا لم يوجد في حديثه نكارة، ونفس هذا الحديث سيأتي قريبًا وقد عنعه ابن جريج ودلس
فيها، فوجد فيه خلاف السنة.
والخلاصة: أن أحاديث ابن جريج الصحيحة في
الباب، هي ما أخرجها الشيخين، وما غيرها فقد أعرض عنها أصحاب السنن ولم يخرجها مع أهميتها إلا
أبو داود، وسيظهر نكارتها واضطرابها قريبًا بإذن الله.
الحديث
التاسع:
2- روى أبو داود في سننه (1071)، قال: حدثنا محمد بن طريف البجلي، حدثنا أسباط، عن الأعمش، عن عطاء بن أبي
رباح، قال: صلى بنا ابن الزبير في يوم عيد، في يوم جمعة أول النهار، ثم رحنا إلى الجمعة،
فلم يخرج إلينا فصلينا وُحْدَانًا، وكان ابن عباس بالطائف، فلما قَدِمَ ذكرنا ذلك له،
فقال: "أصاب السنة".
قلت: تفرّد كذلك أبو داود عن باقي أصحاب السنن بإخراج هذه الرواية مع أهميتها.
وفيها: تأكيد على أن ابن الزبير صلى الركعتين في
أول النهار بكرة، ولم يَخرج إلى صلاة الجمعة، إلا أن فيها زيادة، وهي: أنه لما أخُبر
ابن عباس -رضي الله عنهما- بفعل ابن الزبير، قال: أصاب السنة.
قلت: والحديث ضعيف، فهو من رواية
الأعمش عن عطاء بن أبي رباح.
والأعمش هو: الحافظ سليمان بن مهران الأسدي الكاهلي
مولاهم أبو محمد الكوفي.
ثقة ثبت ورع، لكنه يُدلس.
قال: ابن حجر- رحمه الله- :
"سليمان بن مهران الأعمش محدث الكوفة وقارؤها، وكان يُدلس، وصفه بذلك
الكرابيسي، والنسائي، والدارقطني، وغيرهم".[33]
وقال الذهبي -رحمه الله- : "سليمان
بن مهران الكاهلي الكوفي الاعمش، أبو محمد
أحد الائمة الثقات، عداده في صغار التابعين، ما نقموا عليه إلا التدليس... ، وهو يُدلس،
وربما دَلس عن ضعيف، ولا يَدري به، فمتى قال حدثنا فلا كلام، ومتى قال "عن"
تطرق إلى احتمال التدليس؛ إلا في شيوخ له أكثر عنهم: كإبراهيم، وابن أبى وائل،
وأبى صالح السمان، فإن روايته عن هذا الصنف محمولة على الاتصال.
قال ابن المدينى: الأعمش كان كثير
الوهم في أحاديث هؤلاء الضعفاء". [34]
قلت: والأعمش روى عن عطاء بن أبي رباح مباشرة،
وروى عنه بواسطة.
فروى عن عطاء بواسطة سلمة بن كهيل، وحبيب بن أبي ثابت، ومسلم البطين، وعمرو
بن مرة.
وكان من الممكن أن تُحتمل عنعنة
الأعمش هنا، ويٌقبل حديثه، إن كان الراوي عنه سفيان الثوري، فإنه كان أعلم الناس
بصحيح حديثه كما قال الإمام أحمد، ولكن هذا لم يكن!.
الحديث العاشر:
3- وأخرج عبد الرزاق في مصنفه (5725)، عن ابن جريج قال: قال عطاء: "إن اجتمع يوم الجمعة ويوم الفطر في يوم
واحد فليجمعهما فليصل ركعتين فقط، حيث يصلي صلاة الفطر ثم هي هي حتى العصر"، ثم
أخبرني عند ذلك قال: "اجتمع يوم فطر ويوم جمعة في يوم واحد في زمان ابن الزبير،
فقال ابن الزبير: عيدان اجتمعا في يوم واحد، فجمعهُما جميعًا بِجَعْلِهما واحدًا، وصلى
يوم الجمعة ركعتين بكرة صلاة الفطر، ثم لم يزد عليها حتى صلى العصر".
قال:"فأما الفقهاء فلم يقولوا في ذلك، وأما
من لم يفقه فأنكر ذلك عليه". قال: "ولقد أنكرت أنا ذلك عليه وصليت الظهر
يومئذ". قال: "حتى بلغنا بعدُ أن العيدين كانا إذا اجتمعا كذلك صليا واحدة".
الحديث.
قلت: وأخرجه ابن المنذر في الأوسط(2182) من حديث إسحاق بن إبراهيم الدبري، عن عبد الرزاق، بتمامه.
وإسحاق هذا، صدوق مأمون، إلا أنه سمع عبد الرزاق
بعد اختلاطه.[35]
وفيه: إن عطاء بن أبي رباح -رحمه الله- يحكي مذهبه بأنه لو اجتمع العيد والجمعة في يوم واحد، يُجمعا في ركعتين، ولا يُصلى بعدهما حتى العصر، ثم ذكر دليل مذهبه هذا، أنه في خلافة ابن الزبير، اتفق يوم فطر وجمعة، فجمعهما ابن الزبير في ركعتين (هكذا)، ولم يزد عليهما حتى صلى العصر، وهذا قول لا يُعرف في الشريعة أن رخصة الجمع تسقط فريضة، ولهذا بَين أن هذا القول لم يكن يعرفه من قبلُ الفقهاء من حملة الشريعة، حتى عطاء نفسه أنكره، وصلى يومئذ الظهر، حتى بلغه - ولم يذكر بلغه ممن؟- أن العيدين كانا إذا اجتمعا كذلك صليا واحدة.
قلت: وأما تحقيق هذا الحديث، فهو ضعيف يُقال
فيه ما قيل في الحديث الأول، فإن ابن جريج دلسه أيضًا ولم يصرح فيه بالتحديث.
الحديث الحادي عشر:
4- وأخرج ابن أبي شيبة في كتاب صلاة العيدين
من مصنفه (5842)، قال:
حدثنا هشيم، عن منصور، عن عطاء، قال: "اجتمع
عيدان في عهد ابن الزبير، فصلى بهم العيد، ثم صلى بهم الجمعة صلاة الظهر أربعًا".
قلت: تفرد بإخراجه ابن أبي شيبة - فيما أعلم -، وهو أيضًا من رواية عطاء عن ابن الزبير، والراوي فيه عن عطاء هو: منصور بن زاذان الواسطي أبو المغيرة، ثقة ثبت كبير الشأن.
وفيه: إنه اجتمع العيد والجمعة في خلافة ابن الزبير،
فصلى العيد، ثم صلى الجمعة ظهرًا أربع ركعات.
قلت: وأما الحديث فهو ضعيف، فالحديث من رواية
هشيم عن منصور، وهُشيم، وهو: ابن بشير السلمي أبو معاوية.
ثقة ثبت، كثير التدليس، والإرسال الخفي.
قال الذهبي -رحمه الله- : "هشيم بن بشير السلمى،
أبو معاوية الواسطي الحافظ، أحد الأعلام، سمع الزهري، وحصين بن عبدالرحمن.
وعنه يحيى
القطان، وأحمد، ويعقوب الدورقي، ... وكان مدلسًا، وهو لين في الزهري.
قال أحمد: لم يسمع من يزيد بن أبى زياد، ولا
من عاصم بن كليب، ولا من الحسن ابن عبدالله، ولا من اب ن أبى خلدة، ولا من سيار، ولا
من على بن زيد، وسمى جماعة، قال: وقد حدث عنهم.
قلت: كان
مذهبه جواز التدليس بـ "عن"، عنده عشرون ألف حديث، قاله الدورقى". [36]
وفي مسند ابن الجعد (759) قال عبد الله بن المبارك لهشيم : "لم تُدلس، وأنت كثير العلم؟ قال: كبيراك
دلسا، الأعمش وسفيان ".!
قلت: فـ علة هذا الحديث هو هُشيم بن بشير، فهو مع
ثقته كثير التدليس، يرى جوازه بـ "عن"، كما قال الذهبي؛ وهو ما ذكره في حديثنا
هذا.
وعليه:
فـ "هشيم" لا يُقبل حديثه إلا إذا صرح بالتحديث.
الحديث الثاني عشر:
5- وروى ابن أبي شيبة في مصنفه (5679)، قال:
حدثنا يحيى بن سعيد، عن ابن جريج، عن عطاء، أن ابن
الزبير سأل ابن عباس، قال: كيف أصنع في هذا اليوم، يوم عيد؟، وكان الذي بينهما حسن،
فقال: "لا تُؤذن، ولا تُقم، وصل قبل الخطبة"، فلما ساء الذي بينهما، أذن
وأقام وخطب قبل الصلاة". الحديث.
ويحيى بن سعيد، هو أبو سعيد القطان البصري الحافظ،
كان ثقة، نقي الحديث، كان لا يحدث إلا عن ثقة.
وفيه: أن ابن الزبير سأل ابن عباس عن هيئة صلاة
العيد، فأخبره ابن عباس بالسنة فيها، وهي أن الصلاة تكون قبل الخطبة، وأنه لا أذان
فيها ولا إقامة. فلما ساءت العلاقة بينهما، خالف ابن الزبير السنة، فخطب قبل الصلاة
وأذَّن وأقام.
وهذا هو الحديث الأخير عن عطاء بن أبي رباح في
هذا المقام، إذ إن هُشيمًا، الذي مر ذكره في الحديث الرابع، روى حديثًا آخر عن عطاء،
لكنه عطاء بن السائب، وسيأتي ذكره قريبًا بإذن الله تعالى.
قلت: الحديث ضعيف، والعلة فيه من ابن جريج، فيُقال
فيه ما قيل في الحديث الأول.
هذا؛ ولو تساهلنا مع أحاديث هؤلاء المدلسين
وصححناها، لأدى ذلك إلى تصحيح هذا المنكر، الذي يزعم أن عبد الله بن الزبير -رضي الله
عنهما- خالف السنة عمدًا بسبب خلاف شخصي مع ابن عباس-رضي
الله عنهما-.
ولهذا، نجد الإمام مسلمًا -رحمه الله-، عندما أخرج
هذا الحديث في "صحيحه"، لم يورد هذا المنكر، إذ لم يَقبل فيه تدليس ابن جريج،
فقال: حدثني محمد بن رافع، حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا ابن جريج، أخبرني عطاء، أن ابن
عباس، أرسل إلى ابن الزبير أول ما بويع له، "أنه لم يكن يؤَذن للصلاة يوم الفطر،
فلا تؤذن لها"، قال: فلم يؤذن لها ابن الزبير يومه، وأرسل إليه مع ذلك:
"إنما الخطبة بعد الصلاة، وإن ذلك قد كان يفعل"، قال: فصلى ابن الزبير قبل
الخطبة. الحديث.
قلت: فلم يُشر مسلم إلى شيء من أمر الخصومة أو
مخالفة ابن الزبير للسنة عمدًا، والحديث يتفق مع صحيح السنة الثابتة عن النبي -صلى
الله عليه وسلم- في صفة صلاة العيد. أما من صحَّح الحديث بمجموع الطرق، فإنه يغفل عن
مثل هذه النكات، والله المستعان.
الحديث الثالث عشر:
6 ـ أخرج النسائي
في سننه الصغرى (1592)، قال: أخبرنا محمد بن بشار، قال: حدثنا يحيى، قال: حدثنا
عبد الحميد بن جعفر، قال: حدثني وهب بن كيسان، قال: "اجتمع عيدان على عهد ابن
الزبير فأخّر الخروج حتى تعالى النهار، ثم خرج فخطب فأطال الخطبة، ثم نزل فصلى ولم
يصل للناس يومئذ الجمعة، فذكر ذلك لابن عباس فقال: أصاب السنة". الحديث.
قلت: وأخرجه في الكبرى أيضًا (1807)، وابن خزيمة (1465)، والحاكم في المستدرك (1097) من طريق عبد الله بن أحمد عن أبيه -ولم يخرجه الإمام أحمد في المسند- والفاكهي
في أخبار مكة (1845)، وابن المنذر في الأوسط (2181)، وسيأتي له طريق آخر اثناء التحقيق ذكره ابن عبد البر في الاستذكار.
وهم جميعًا خلا رواية النسائي عندهم زيادة في آخر
الحديث، وهي: "فعاتبه عليه ناس من بني أمية بن عبد شمس فبلغ ذلك ابن عباس، فقال:
أصاب ابن الزبير السُنة، فبلغ ابن الزبير، فقال: "رأيت عمر بن الخطاب إذا اجتمع
عيدان صنع مثل هذا". اهـ
وفيه: أن وهب بن كيسان، مولى آل الزبير، ذكر أنه
اجتمع عيدان في عهد ابن الزبير، فأخر الخروج حتى ارتفع النهار، ثم صعد المنبر فخطب،
كما في رواية ابن خزيمة، ثم نزل فصلى، ولم يصلِّ يومئذ الجمعة. وقد عاب قوم من بني
أمية هذا الصنيع، فلما بلغ ذلك ابن عباس، قال: أصاب السنة. أما ابن الزبير، فنسب فعله
إلى عمر بن الخطاب، زاعمًا أنه فعل مثله.
ورواية وهب هذه تتفق مع رواية عطاء بن أبي رباح
في بعض الجوانب وتختلف في أخرى. فتتفق في أن ابن الزبير صلى يوم العيد ركعتين فقط،
ولم يصلِّ الجمعة، وأن ابن عباس، لما بلغه صنيع ابن الزبير، قال: أصاب السنة. وتختلف
في أن عطاء قال: إنه صلاها مبكرًا في أول النهار، بينما قال وهب بن كيسان: إنه أخرها
حتى ارتفع النهار. وفي رواية وهب تفاصيل هيئة الصلاة، وهي أنه خطب على المنبر، وأنه
قدم الخطبة على الصلاة، وهذه صفة صلاة الجمعة لا صلاة العيد، كما أنها لم تذكر أنه
لم يصلِّ يومئذ حتى العصر.
فإن قال قائل: لا تعارض بين الروايتين، وإنما حصل
هذا بعد أن ساءت العلاقة بين ابن الزبير وابن عباس، فخالف ابن الزبير بعد ذلك فقدم
الخطبة على الصلاة، وأذّن وأقام، كما في رواية عطاء.
أقول:
هذا مردود، لأن رواية وهب تنص على أن ابن عباس، لما بلغه فعل ابن الزبير، قال: أصاب
السنة.
وهذا
الحديث، لما رواه ابن خزيمة، أنكره، وكذلك الحاكم رواه من طريق عبد الله بن أحمد -ولا
وجود له في المسند-، فهو مما حذفه الإمام أحمد من مسنده لنكارته.
قلت: والحديث ضعيف مضطرب، و"محمد بن
بشار" هو بندار، ثقة لا بأس به، ويحيى هو: ابن سعيد القطان، الإمام الحافظ، و"عبد الحميد بن جعفر"
ثقة لا بأس به. وهؤلاء الثلاثة ليس فيهم من عُرف بالتدليس كما في الأحاديث السابقة.
وبوب لهذا الحديث الإمام ابن خزيمة: "باب
الرخصة للإمام إذا اجتمع العيدان والجمعة أن يُعِيدّ بهم ولا يُجْمّع بهم، إن كان ابن
عباس أراد بقوله: أصاب ابن الزبير السنة، سنة النبي -صلى الله عليه وسلم-."
ثم قال عقبه: "قول ابن عباس: أصاب ابن
الزبير السنة، يحتمل أن يكون أراد سنة النبي -صلى الله عليه وسلم-، وجائز أن يكون أراد
سنة أبي بكر، أو عمر، أو عثمان، أو علي، ولا أخال أنه أراد به أصاب السنة في تقديمه
الخطبة قبل صلاة العيد؛ لأن هذا الفعل خلاف سنة النبي -صلى الله عليه وسلم-، وأبي بكر،
وعمر، وإنما أراد تركه أن يجمع بهم بعدما قد صلى بهم صلاة العيد فقط دون تقديم الخطبة
قبل صلاة العيد."
قلت: ما ذكره الإمام ابن خزيمة هنا تنبيه على نكارة
هذا المتن، وهو مما يُرد به الحديث وإن بدا سنده صحيحًا. فلم يُعلم من سنة الرسول
-صلى الله عليه وسلم- ولا من سنة الخلفاء الراشدين بعده أن صلاة العيد تكون الخطبة
فيها قبل الصلاة، وأن تُؤدى على المنبر، بل إن ذلك بدعة أموية.
ومن وجوه النكارة أيضًا أن بعض طرق الحديث جاء
فيها أن قومًا من بني أمية عابوا على ابن الزبير صنيعه، فبلغ ذلك ابن الزبير، فقال:
"رأيت عمر بن الخطاب إذا اجتمع عيدان صنع مثل هذا." وهذا لم يُنقل عن عمر
-رضي الله عنه- ولو بسند ضعيف. فأيهما أولى بنقل فعله؟ عمر بن الخطاب، الخليفة الراشد
صاحب السنة المتبعة، أم ابن الزبير -رضي الله عنهما-؟
ومثل هذه النكارة في المتن كافية لرد العلماء الحديث،
وإن بدا سنده صحيحًا.
يقول العلامة
المعلمي- رحمه الله-: "إذا استنكر الأئمة المحققون المتن، وكان ظاهر السند الصحة،
فإنّهم يتطلبون له علة، فإذا لم يجدوا علة قادحة مطلقًا، حيث وقعت، أعلوه بعلة ليست
بقادحة مطلقًا، ولكنهم يرونها كافية للقدح في ذاك المنكر.
فمن ذلك:
إعلاله بأنّ راويه لم يصرِّح بالسماع، هذا مع أنّ الراوي غير مدلِّس". [37]
قلت: وربما ردوا الحديث لنكارته من غير كلام على
العلة.
كفعل الإمام
الذهبي -رحمه الله- في أكثر من حديث في تلخيصه لتعليقات المستدرك.
قال في تعليقه على حديث رقم : (6738): "منكر على جودة إسناده".
وقال في حديث رقم : (7048) : "لم يصححه المؤلف، وهو حديث منكر على نظافة سنده".[38]
قلت: غير أننا لا نحتاج إلى هذا هنا، فالحديث فيه
علة بيَّنها ابن عبد البر -رحمه الله-.
قال في
التمهيد (10/ 275 : 276) : " فإن احتج محتج بما حدثناه عبد الوارث، قال حدثنا
قاسم، قال حدثنا أبو قلابة، قال حدثنا عبد الله بن حمران، قال حدثنا عبد الحميد بن
جعفر، قال أخبرني أبي، عن وهب بن كيسان قال: اجتمع عيدان على عهد ابن الزبير فصلى العيد
ولم يخرج إلى الجمعة، قال فذكرت ذلك لابن عباس فقال: "ما أماط عن سنة نبيه"،
فذكرت ذلك لابن الزبير فقال هكذا صنع بنا عمر".
قيل له:
هذا حديث اضطرب في إسناده، فرواه يحيى القطان قال حدثنا عبد الحميد بن جعفر، قال أخبرني
وهب بن كيسان قال: اجتمع على عهد ابن الزبير عيدان فأخر الخروج حتى تعالى النهار، ثم
خرج فخطب فأطال الخطبة، ثم نزل فصلى ركعتين ولم يصل للناس يومئذ الجمعة فذكر ذلك لابن عباس، فقال: "أصاب السنة"
ذكره أحمد بن شعيب النسوي، عن سوار عن القطان، عن عبد الحميد بن جعفر -لم يقل عن أبيه-
عن وهب بن كيسان، وذكر أن ذلك حين تعالى النهار وأنه أطال الخطبة". اهـ
قلت: وقال ابن حزم -رحمه الله- في المحلى
(3 / 303)، وهو يتكلم على حديث زيد بن أرقم المرفوع، حيث ضعفه وضعف
حديث ابن الزبير بقوله: " إذا اجتمع عيد في يوم جمعة: صلي للعيد، ثم للجمعة ولا
بُدْ، ولا يصح أثر بخلاف ذلك؟ لأن في رواته: إسرائيل، وعبد الحميد بن جعفر، وليسا بالقويين
".
قلت: فـ علة هذا الحديث "عبد الحميد بن جعفر"،
فهو مع ثقته يُرسل ويَخطيء ويَهم أحيانًا.
ووهمه عندي هنا أنه أدخل حديثنا هذا، مع حديث سجود
عبد الله بن الزبير للسهو لما صلى في الحرم ونسي ركعة، فقام يستلم الحجر، فنُبه فعاد
فأتم الصلاة، ثم سجد للسهو، فلما بلغ ذلك ابن عباس، قال: "لله أبوه ما أماط عن
سنة نبيه". [39]
جاء في
ترجمته كما في سؤالات أبي داود للإمام أحمد بن حنبل (193): "سمعت أحمد ذكر عبد الحميد بن جعفر، فقال: ليس به بأس، قد احتمله الناس.
وسمعت أحمد
قال: قال يحيى: كان سفيان الثوري يُضعف حديث عبد الحميد بن جعفر".
وفي الجرح والتعديل لابن أبي حاتم (6 /10) : "حدثنا أبو بكر بن أبي خيثمة ... سمعت يحيى ابن معين
يقول: عبد الحميد بن جعفر ليس به بأس، ... (وقال): عبد الحميد بن جعفر كان يحيى بن
سعيد يُوثقه، وكان سفيان الثوري يُضعفه، قلت ما تقول أنت؟ قال ليس بحديثه بأس هو صالح،
ثنا عبد الرحمن قال: سألت أبى عن عبد الحميد بن جعفر فقال: "محله الصدق".
اهـ
وفي المراسيل
له (482): "قال أبي: عبد الحميد بن جعفر عن عمر مرسل".
اهـ
وفي الضعفاء
للنسائي ( 396 ): "عبد الحميد بن جعفر ليس بالقويّ". اهـ
وقال ابن حبان في الثقات (9277 ): "عبد الحميد بن جعفر بن عبد الله بن الحكم بن رافع
بن سنان أبو حفص الأوسي الأنصاري، من أهل المدينة، وقد قيل: كنيته أبو الفضل، يَروي
عن محمد بن عمرو بن عطاء وأبيه، روى عنه هُشيم ويحيى القطان، مات سنة ثلاث وخمسين ومائة
وهو ابن سبعين، ربما أخطأ". اهـ
وقال ابن حجر في التقريب ( 3756) : "عبد الحميد بن جعفر بن عبد الله بن الحكم بن رافع الأنصاري، صدوق، رمي بالقدر، وربما وهم". اهـ
الحديث الرابع عشر:
7- وروى ابن أبي شيبة في كتاب العيدين من مصنفه
(5841)، قال:
حدثنا أبو أسامة، عن هشام بن عروة، عن وهب بن كيسان،
قال: "اجتمع عيدان في يوم، فخرج
عبد الله
بن الزبير فصلى العيد بعدما ارتفع النهار، ثم دخل فلم يخرج حتى صلى العصر، قال هشام:
فذكرت ذلك لنافع، أو ذُكر له فقال: ذُكر ذلك لابن عمر، فلم ينكره".
قلت: تفرد بهذه الرواية ابن أبي شيبة، وهشام هو
ابن عروة بن الزبير بن العوام.
وفيها: موافقة لحديث وهب السابق في أن ابن الزبير
صلى بعد ما ارتفع النهار، وأنه لم يصل الجمعة.
وفيها زيادة: أنه لم يخرج حتى صلى العصر، وأنه
لما بلغ هذا ابن عمر لم يُنكره، وهذا أول ظهور لابن عمر في هذا الحديث، وفي باقي الطرق
أن ابن عباس هو من لم ينكر فعل ابن الزبير.
قلت: وهذا حديث ضعيف، وله علتان:
الأولى: عنعنة أبو أسامة، وهو: حماد بن أسامة بن
زيد القرشي أبو أسامة الكوفي.
قال ابن سعد: "كان ثقة مأمونًا كثير الحديث،
يُدلس ويُبين تدليسه".
وقال ابن حجر في التقريب: " ثقة ثبت ربما دلس،
وكان بأخرة يحدث من كتب غيره" .
والثانية: عنعنة هشام بن عروة قال فيه ابن حجر:
"ثقة فقيه، ربما دلس" .
قلت: فعاد الحديث مرة أخرى إلى المدلسين، والله
المستعان.
الحديث الخامس عشر:
8 ـ وأخرج الإمام أحمد في المسند (16108)، قال:
حدثنا يعقوب
بن إبراهيم، قال: حدثنا أبي، عن ابن إسحاق، قال : حدثني وهب بن كيسان، مولى آل الزبير،
قال: سمعت عبد الله بن الزبير، في يوم العيد يقول حين "صلى قبل الخطبة، ثم قام
يخطب الناس: يا أيها الناس، كُلًّا كَذَا سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-".
قلت: ورواه البزار(2203)، عن محمد بن إسحاق، عن وهب بن كيسان، أن ابن الزبير، خرج عليهم في يوم عيد
فصلى، ثم خطب، ثم قال: "إن هذه سنة الله وسنة رسوله".
ورواه الطبراني في الكبرى (319)، عن محمد بن إسحاق، عن وهب بن كيسان، قال : صلى بنا عبد الله بن الزبير يوم
عيد، ثم خطب بعد الصلاة، ثم قال: " كُلٌ سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-،
غَيَّرَ فلانٌ حتى الصلاة".
وفيه: إن عبد الله بن الزبير ـ رضي الله عنهما ـ
صلى بالناس يوم عيد، ثم خطب فيهم، فكان من قوله: كُلًا كذا سنة رسول الله -صلى الله
عليه وسلم-.
يعني:
كلًّا، بالنصب: أي افعلوا كلًّا، أو فعلت كلًّا،
من الصلاة والخطبة. كما قال السندي.
وفي رواية الطبراني: أن فلانًا غَيَّرَ حتى الصلاة
-يقصد مروان بن الحكم، كما ورد في رواية إنكار أبي سعيد الخدري عليه-، فأعاد الأمر
إلى نصابه وفق السنة، فصلى ثم خطب.
قلت: والحديث حسن، فيعقوب، هو: ابن إبراهيم بن
سعد القرشي الزهري أبو يوسف المدني.
ثقة حجة
مأمون.
يُحدِّث هنا عن أبيه، وهو ثقة من كبار العلماء،
قال أحمد: أحاديثه مستقيمة.
ومحمد بن إسحاق، هو: ابن يسار المدني، صاحب السير،
صدوق من بحور العلم، إلا أنه مُدلس، ولكنه صرح في رواية أحمد بالتحديث.
وهنا نكتة: أن الإمام أحمد كما مر في
الحديث السادس، ضرب في المسند على رواية عدم صلاة
عبد الله بن الزبير لصلاة الجمعة يوم العيد،
والحديث أخرجه الحاكم من طريق ابنه عبد الله.
وهنا يَقبل رواية محمد بن إسحاق، لأن ليس
فيها هذه النكارة، مع أن الإمام أحمد لا يعتمد أحاديث ابن إسحاق في الأحكام كما
سيأتي.
وقد اختلفت كلمة العلماء في أحاديث
محمد بن إسحاق، فقال البخاري: "محمد بن إسحاق ينبغي أن يكون له ألف حديث ينفرد
بها لا يشاركه فيها أحد".
ونقل عن شيخه علي بن المديني، قوله: "نظرت
في كتب ابن إسحاق فما وجدت عليه إلا في حديثين، ويمكن أن يكونا صحيحين".
وقال: "رأيت علي بن عبد الله[المديني] يحتج
بحديث ابن إسحاق".
وقال يعقوب بن شيبة: "سألت علي بن المديني
قلت: كيف حديث محمد بن إسحاق عندك صحيح؟ فقال: نعم، حديثه عندي صحيح".
وقال ابن عدي: "وقد فتشت أحاديثه الكثيرة فلم
أجد في أحاديثه ما يتهيأ أن يقطع عليه بالضعف، ورُبما أخطأ أو وهم في الشيء بعد الشيء
كما يخطئ غيره ولم يَتخلف عنه في الرواية عنه الثقات والأئمة، وهو لا بأس به"
. اهـ
قلت: وحديث محمد بن إسحاق حسن إذ صرح بالتحديث،
وقد استشهد الإمام مسلم في "صحيحه" بخمسة أحاديث له.
غير أنه نُقل عن الإمام أحمد -رحمه الله-
أنه لا يُحتج بحديث ابن إسحاق في السنن.
فعن
عبد الله بن أحمد بن حنبل، وقد سُئل عن محمد بن إسحاق، فقال: "كان أبي يتتبع حديثه
فيكتبه كثيرًا بالعلو والنزول ويخرجه في المسند"، وما رأيته أنفى حديثه قط".
قيل له: يحتج به؟ قال: لم يكن يحتج به في السنن". اهـ
قلت: ومع ذلك، يُقبل حديثه في هذا المقام لأسباب،
منها:
1 ـ أن الحديث موقوف.
2ـ أن متنه لا يحمل نكارة، إذ يتفق مع صحيح السنة
المشهورة عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في صفة صلاة العيد، بخلاف الأحاديث المنكرة
السابقة.
3 ـ صنيع الإمام أحمد، إذ أخرج الحديث في
"مسنده"، وأعرض عن حديث عبد الحميد بن جعفر لنكارته، والذي أخرجه الحاكم
عن عبد الله بن أحمد عن أبيه. فنزه الإمام أحمد "مسنده" من هذا المنكر.
4 ـ قول الإمام الناقد أبي بكر البزار في
"مسنده" عقب الحديث: "وهذا الكلام قد رُوي عن النبي
-صلى
الله عليه وسلم- من غير وجه، وهذا الإسناد من أحسن إسناد يروى عن ابن الزبير."
قلت: ويكفينا هذا التحسين من هذا الإمام، واعتباره
أحسن إسناد يروى عن عبد الله بن الزبير في هذا الباب.
5 ـ انتقاء الضياء المقدسي لهذا الحديث في
"المختارة" من طريقين.
غير أن هذا الحديث خارج نطاق البحث، إذ لا يتضمن
ذكر اجتماع العيدين. وسبب إيراده هنا أنه يكشف نكارة الأحاديث الأخرى التي رويت عن
وهب بن كيسان.
والتنبيه أن الإمام أحمد -رحمه الله- مع أن مذهبه ينفرد بهذه المسألة، غير أنه يضعف الأحاديث
المنكرة في هذا الباب، كحديث بقية بن الوليد المرفوع، وسائر أحاديث عبد الله بن الزبير
المنكرة التي تخالف السنة. وهذه من طرق إعلال الأئمة للأحاديث التي قد لا يتنبه إليها
الكثيرون. فالحمد لله على توفيقه.
الحديث
السادس عشر:
9ـ وأخرج البيهقي في معرفة السنن والآثار(6909) ، من طريق الشافعي -رحمه الله- قال: أخبرنا إبراهيم، عن وهب بن كيسان قال: رأيت ابن الزبير يبدأ بالصلاة قبل الخطبة، ثم قال: " كُلُّ سُنن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد غُيِّرت، حتى الصلاة".
قلت: وافقت هذه الرواية حديث محمد بن إسحاق السابق؛
في إخبار وهب بن كيسان أن ابن الزبير صلى يوم العيد قبل الخطبة، ثم بَين أن هذه هي
سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وأن السنن كانت قد غُيِّرت، يعني في ولاية
مروان بن الحكم.
وتخالف هذه الرواية روايات وهب بن كيسان المنكرة
والتي فيها، أن ابن الزبير خطب يوم العيد قبل الصلاة.
قلت: غير أنه لم يظهر لي وجه هذا الحديث،
إذ لم يَتبين لي مَن هو إبراهيم الذي روى عنه الشافعي؟، فقد روى عن اثنين من نفس الطبقة،
الأول: هو إبراهيم بن محمد الأسلمي، والثاني: إبراهيم بن نصر القرشي؟
فإن كان
الأول: فهو ضعيف ليس بثقة، كان الشافعي يحسن به الظن.
وأما الثاني: فهو ثقة حجة من كبار العلماء.
والحديث
لم أجده في مسند الشافعي.
إلا أني أميل إلى أنه "إبراهيم بن نصر"
الثقة، وليس "إبراهيم بن محمد"، إذ أن هذا الضعيف يروي عن وهب بواسطة، فحدث
عنه من طريق "محمد بن عمرو بن حلحلة الديلي"، وهنا حدث عنه مباشرة.
وعلى كل حالٍ سواء كان إبراهيم هذا ضعيفًا أم ثقة،
فقد تابع ابن إسحاق على حديثه. فالمتن يكاد يتطابق مع رواية الطبراني -رحمه الله-،
وهذا مما يقوي رواية محمد بن إسحاق، وهي حسنة كما مر .
الحديث
السابع عشر:
10 ـ وأخرج عبد الرزاق في مصنفه (5726) ، قال:
عن
ابن جريج قال: أخبرني أبو الزبير، في جَمْعِ ابن الزبير بينهما يوم جَمَعَ بينهما قال
: سمعنا ذلك أن ابن عباس قال : "أصابَ، عيدان اجتمعا في يوم واحد".
قلت: وأبو الزبير هو المكي محمد بن مسلم، صدوق إلا
أنه يُدلس.
قال الذهبي في الكاشف (5149): "حافظ ثقة، قال أبو حاتم: لا يحتج به، وكان مدلسًا واسع العلم".
اهـ
وقال الإمام النسائي في سننه الكبرى (1/ 640) بعد حديث الصلاة على النجاشي والذي رواه أبو الزبير بالعنعة
عن جابر بن الله -رضي الله عنه-، قال: "أبو الزبير اسمه محمد بن مسلم بن تدرس،
مكي، كان شعبة سيء الرأي فيه، وأبو الزبير من الحفاظ روى عنه يحيى بن سعيد الأنصاري،
وأيوب، ومالك بن أنس؛ فإذا قال: سمعت جابرًا فهو صحيح، وكان يدلس، ... وبالله التوفيق".
وفي الكبرى أيضًا ( 6/ 178): سأل "زهير بن معاوية الجعفي أبو خيثمة" عن حديث
حدث به أبو الزبير.
حدثنا
زهير، قال: سألت أبا الزبير: أسمعت جابرًا يذكر أن نبي الله -صلى الله عليه وسلم- كان
لا ينام حتى يقرأ الم تنزيل وتبارك؟ ". قال: ليس جابر حدثنيه، ولكن حدثني صفوان
أو أبو صفوان".
قلت: وصفوان هو الجمحي ثقة قليل الحديث، أما أبو
صفوان أو ابن صفوان كما في رواية "القاسم بن سلام" في فضائل القرآن فهو لا
يعرف، والغالب أنه خطأ.
هذا، وقد أقر أبو الزبير بالتدليس كما في قصته المشهورة
مع الليث بن سعد.
وهو يحدث هنا عن ابن عباس. وقد اختلفت الكلمة في
سماعه من ابن عباس -رضي الله عنهما-.
قال العلائي: "محمد بن مسلم بن تدرس أبو الزبير
المكي تقدم ذكره في المدلسين، قال ابن معين وأبو حاتم: لم يسمع من عبد الله بن عمرو
بن العاص، وقال أبو حاتم: رأى ابن عباس رؤية، ولم يسمع من عائشة، وقال سفيان بن عيينة:
يقولون أبو الزبير لم يسمع من ابن عباس. اهـ
قلت: وفي
حديثه هنا لم يذكر سماعًا من ابن عباس، ولكن ذكر كلمة موهمة، فقال: " سمعنا ذلك
أن ابن عباس قال: "أصابَ، عيدان اجتمعا في يوم واحد".
وعليه: فيرد هذا الطريق أيضًا لعدم تصريح أبو الزبير
بالسماع، ويكون بهذا عاد الحديث مرة أخرى إلى المدلسين، والله المستعان.
قلت: وهذه هي الرواية الأخيرة من أحاديث ابن الزبير
-رضي الله عنه- في هذا الباب.
ولو تأملنا هذه الروايات، لوجدنا بينها تضادًا وتعارضًا
يمنع الجمع بينها، إلى جانب مخالفتها الصريحة لما صح في سنة النبي -صلى الله عليه وسلم-
وسنة الخلفاء من بعده، فضلًا عن تعارضها مع ما صح عن ابن الزبير وابن عباس، وأخرجه
الشيخان في صحيحيهما، وكذلك ما صح عن عطاء وابن جريج، وقد مر بعضه.
وبهذا نكون قد انتهينا من استعراض جميع طرق حديث
ابن الزبير -رضي الله عنه- في هذا الباب، وعددها عشرة أحاديث. وقد تبين أنها جميعًا
ضعيفة معلة، باستثناء حديثين. سبعة منها رواها مدلسون لم يصرحوا بالتحديث، فَرُدَّت
لتدليسهم. والثامن: من رواية صدوق يُرسل ويهم، فلا يُقبل تفرده، وقد اضطرب في حديثه
كما قرر ابن عبد البر -رحمه الله-.
أما الحديثان المستثنيان، فالأول: حديث حسن، وهو
حديث محمد بن إسحاق، ويتوافق مع أصول الشريعة، ولم يتضمن نكارة في متنه كسائر الأحاديث
الضعيفة والمدلسة في هذا الباب. ولهذا قال الإمام البزار: "وهذا الإسناد من أحسن
إسناد يُروى عن ابن الزبير".
والحديث الثاني: لم يتضح لي وجهه، إذ لم يتبين لي
من هو شيخ الشافعي؟ ومع ذلك، فقد تابع هذا الحديث رواية ابن إسحاق الحسنة.
خلاصة
البحث:
من خلال التحقيق، تبين أن جميع الأحاديث التي تتحدث عن جواز التخلف عن صلاة الجمعة لمن شهد صلاة العيد، وأن صلاة العيد تجزئ عن الجمعة في هذا اليوم، هي أحاديث ضعيفة معلة، وغير محفوظة.
وليس فيها
ما يصح الاحتجاج به؛ فهي إما من رواية مدلس لم يصرح بالتحديث، أو مجهول ليس له في دواوين
السنة إلا هذا الحديث المنكر، أو صدوق يَهم، وقد اضطرب في روايته.
ويكفي في بيان ضعفها ونكارتها أن أصحاب كتب السنن
زهدوا فيها، فنجد الحديث يتفرد بإخراجه عبد الرزاق أو ابن أبي شيبة، وحتى ما أخرجه
أبو داود لم يُشاركه فيه غيره، وقد أشار إلى خلاف رواته عليه. وما أخرجه ابن خزيمة،
نبه على نكارته.
بل يكفي في إثبات نكارة هذه الأحاديث أن الشيخين
(البخاري ومسلم) تجنباها، بل أخرجا ما يخالفها.
ولا يصح تصحيح هذه الأحاديث أو تحسينها، إذ هي
منكرة شاذة، والمنكر يظل منكرًا كما قال الإمام أحمد -رحمه الله-. فضلًا عن تنافر متونها
واختلافها، مما يجعل الجمع بينها مستحيلًا.
وحتى من ذهب إلى تقوية هذه الأحاديث بمجموع طرقها
وشواهدها، لم يقبل مفهومها، إذ يلزم من ذلك أن تكون هيئة صلاة العيد في هذا اليوم إما
في أول النهار أو تتأخر حتى يتعالى النهار -على حسب اختلاف الروايات-، ثم تكون الخطبة
قبل الصلاة، وتُقام على المنبر، وأن يجمع الإمام بين العيد والجمعة في ركعتين، ثم لا
يصلي بعدها إلى العصر، كما هو مفهوم روايات عبد الله بن الزبير، ومع صحح الحديث لا
يقول بهذا القول.
وأما تخيير المصلين بين الجمع بين العيد والجمعة
أو الاكتفاء بالعيد عن الجمعة، وقول الإمام "إنا مجمعون"، فهذا الحديث من
رواية إياس بن أبي رملة -وهو مجهول-. ومن قوى حديثه، قواه بحديث ابن الزبير، وبينهما
تنافر واضح في المتن يبطل هذه التقوية.
وإن هذه النكارة الظاهرة في هذه الأحاديث، واضطراب
أسانيدها وضعفها، دفع جمعًا من كبار العلماء إلى تضعيف بعضها أو كلها، منهم: الإمام
أحمد، والبخاري، وأبو حاتم الرازي، والبزار، والدارقطني، وابن حزم، وابن المنذر، وابن
عبد البر المالكي، وابن القطان الفاسي -رحمهم الله جميعًا-. وقد وردت أقوالهم في صلب
البحث.
والصحيح في باب اجتماع العيدين في يوم واحد:
حديث النعمان بن بشير -رضي الله عنه- أنه إذا اجتمع
عيدان في عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صلاهما جميعًا، وهو في صحيح مسلم.
وحديث عثمان بن عفان -رضي الله عنه- في إذنه لأهل
البر والعوالي بالتخلف عن الجمعة إذا صلوا العيد معه، وهذا خاص بهم دون أهل المدينة،
وهو في صحيح البخاري.
وأما الخطأ في هذه الأحاديث المنكرة عندي فهو:
1ـ أن الضعفاء
مثل مِندل بن علي وجبارة بن مغلس، رواة حديث ابن ماجة، خلطوا بين حديث جواز عدم شهود
خطبة العيد، فجعلوه في جواز عدم شهود الجمعة إذا وافقت يوم عيد، ثم دلَّسه المدلسون
عنهم.
فهذا الحديث من رواية ابن جريج عن
عطاء، فقد أخرج أبو داود في سننه من طريق ابن جريج، عن عطاء، عن عبد الله بن السائب،
قال: شهدت مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- العيد، فلما قضى الصلاة، قال: "إنا
نخطب، فمن أحب أن يجلس للخطبة فليجلس، ومن أحب أن يذهب فليذهب".
قال أبو
داود عقبه: "هذا مرسل عن عطاء، عن النبي -صلى الله عليه وسلم-".
قلت: فخلط هؤلاء الضعفاء بين هذا الحديث،
والذي فيه التخيير بين الجلوس للاستماع إلى خطبة العيد وجواز الانصراف عنها،
والأحاديث الأخرى التي من رواية ابن جريج عن عطاء وفيها التخيير بين شهود الجمعة
لمن صلى العيد.
فخلطوا بين الحديثين، مع ضعفهما، فقد
حكم أبو داود على الحديث بالإرسال بعد إخراجه، وسبقه إلى هذا الإمام أحمد ويحيى بن
معين.
ومن تأمل هذا المتن، تبين له وجه الصواب -إن شاء الله-، وأنه هو الصحيح، فالحديث
المرسل الذي فيه التخيير بين الجلوس للاستماع لخطبة العيد، أو الانصراف، متنه:
"فمن أحب أن يجلس للخطبة فليجلس، ومن أحب أن يذهب فليذهب".
وهذا المتن هو ما جاء في أحاديث اجتماع العيدين.
2ـ أو
أنه اشتبه على الرواة حديث "عبد العزيز بن رُفيع" الذي نقله عن الحجاج، من
أنه صلى العيد وأذن للناس بالتخلف عن الجمعة.
ولا أدري، هل فعل الحجاج ذلك ظنًا منه أنه يتوافق مع فعل عثمان بن عفان، أم
أنه إحداث منه في الدين؟ الله أعلم. لكني على يقين أن فعله ليس من السنة.
ودلَّ على هذا الحديث أبو حاتم الرازي -إمام العلل-
رحمه الله.
قال عبد الرحمن بن أبي حاتم -رحمه الله-: وسألت
أبي عن حديث رواه بقية، عن شعبة، عن مغيرة، عن عبد العزيز بن رفيع، عن أبي صالح، عن
أبي هريرة، عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، قال: "اجتمع عيدان في عهد النبي -صلى
الله عليه وسلم".
قال أبي:
رواه أبو عوانة، عن عبد العزيز بن رفيع، قال: شهدت الحجاج بن يوسف، واجتمع عيدان في
يوم فجمعوا، فسألت أهل المدينة، قلت: كان فيكم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عشر
سنين، فهل اجتمع عيدان؟ قالوا: نعم.
قال أبي:
هذا أشبه".[40]
قلت: يقصد هذا الحَبر -رحمه الله- ما رواه ابن أبي شيبة في كتاب الأمراء من مصنفه،
باب ما ذكر من حديث الأمراء والدخول عليهم(30706) :
قال: حدثنا ابن فضيل عن عطاء قال : اجتمع عيدان في يوم فقال الحجاج في العيد الأول: من شاء
أن يُجَمِّع معنا فليُجَمِّع، ومن شاء أن ينصرف فلينصرف ولا حرج, ، فقال أبو البختري
وميسرة: "ماله
قاتله الله، من أين سقط على هذا؟".
قلت: وهذا إسناد صحيح. ومحمد بن الفضيل وأبو البختري
ثقتان كوفيان شيعيان!.
والحديث من رواية عطاء بن أبي رباح، فتأمل!
وعند ابن
أبي شيبة أيضًا في كتاب العيدين، قال: حدثنا هشيم، عن عطاء بن السائب، قال:
"اجتمع
عيدان على عهد الحجاج، فصلى أحدهما" فقال أبو البختري: " قاتله الله، أنى
علق هذا ".
قلت: وهذا الطريق فيه هُشيم وعطاء بن السائب،
والذي قبله من رواية عطاء بن أبي رباح، وهم من دار عليهم أحاديث عبد الله بن
الزبير المنكرة، وقد صرح الإمام أبي حاتم الرازي أن حديث الحجاج بهذا الإسناد هو
الأشبه
فالحديث
حديث الحجاج بن يوسف، وعثمان بن المغيرة راوي حديث إياس الرملي، هو ابن عم الحجاج. تلقف منه الحديث الضعفاء ، وروي بنفس المتن مرفوعًا،
أو انقلب إسناده على ضعيف كـ "مِندل بن علي وصاحبه"، ثم دلسه عنهم المدلسون،
فاشتبه أمره، والله أعلم، وهو المعين والمستعان.
أو أن هشيمًا وعطاء بن السائب من رواة
أحاديث ابن الزبير، قد دلسا هذا الحديث عن ضعفاء، وهما أيضا من رواة حديث الحجاج
كما في رواية ابن أبي شيبة.
ويكون الحديث
الوحيد الصحيح المرفوع في باب اجتماع العيدين، هو حديث النعمان بن بشير الذي أخرجه
مسلم في صحيحه، أنه كان إذا اجتمع في يوم عيدان على عهد النبي -صلى الله عليه وسلم-
صلهما جميعًا؛ وأن كل ما يخالف هذا فهو منكر مردود.
وهذا ما يتوافق مع قوله تعالى من الأمر بالسعي إلى الجمعة لكل من سمع النداء، يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} .[ الجمعة : 9-10 ] .
فجعل
الله الخير والفلاح في صلاة الجمعة والسعي إليها.
قال عطاء بن أبي رباح -رحمه الله- في قوله تعالى:
{ ِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ
} ، قال: " إذا كنت في قرية جامعة فنودي بالصلاة من يوم الجمعة ، فحق عليك أن
تشهدها سمعت النداء أو لم تسمعه ".[41]
وللفائدة
أذكر بعض أقوال الفقهاء في المسألة:
والمسألة هذه متداخلة عندهم مع مسألة مَن
تجب عليه صلاة الجمعة؟
وهل من يَسكن على بُعد مسافة ثلاثة أميال من المسجد
تكون الجمعة عليه غير واجبة؟
أم أنها تلزم كل من يبلغه صوت النداء من غير نظر
إلى المسافة؟
أولاً:
قول الأحناف:
ذهبوا إلى أنه إذ اجتمع عيدان في يوم واحد، أنه
يلزم المسلم أن يُصليهما جميعًا، وأنه لا تجزئ صلاة العيد عن الجمعة.
جاء في الجامع الصغير لمحمد بن الحسن الشيباني
- رحمه الله -:
"محمد عن يعقوب عن أبي حنيفة -رضي الله عنهم- عيدان اجتمعا في يوم واحد، فالأول
سُنة،
والآخر
فريضة، ولا يُترك واحد منهما، ويُجهر بالقراءة في العيدين والجمعة" .[42]
قلت: وتأولوا الأحاديث المرفوعة إلى رسول-صلى الله
عليه وسلم- في تخيير المصلين في عدم شهود الجمعة لمن صلى العيد منهم، بأنها مخصصة بأهل
العوالي كما جاء في حديث عثمان بن عفان -رضي الله عنه -.
ثانيًا: قول المالكية:
1ـ جاء في المدونة، قلت: "ما قول مالك إذا
اجتمع الأضحى والجمعة، أو الفطر والجمعة فصلى رجل من أهل الحضر العيد مع الإمام ثم
أراد أن لا يشهد الجمعة، هل يضع ذلك عنه شهوده صلاة العيد ما وجب عليه من إتيان الجمعة؟
قال: لا، وكان يقول: لا يَضع ذلك عنه ما وجب
عليه من إتيان الجمعة، قال مالك: ولم يَبلغني أن أحدًا أذن لأهل العوالي إلا عثمان،
ولم يكن مالك يرى الذي فعل عثمان، وكان يرى: "إن من وجبت عليه الجمعة
لا يضعها
عنه إذن الإمام وإن شهد مع الإمام قبل ذلك من يومه ذلك عيدًا وبلغني ذلك عن مالك".[43]
2-
وذهبوا إلى وجوب شهود الجمعة إذا اجتمعت مع العيد، وأن الرخصة لأهل العوالي فقط
دون أهل الأمصار، وانفرد ابن القاسم بروايته عن مالك: أنه لم يَأخذ بإذن عثمان
لأهل العوالي[44].
3- قال
القرافي وهو يَتكلم عن مسقطات الجمعة: "ولا تسقط بشدة الحر، والبرد، ولا بصلاة
العيد
إذا كانا في يوم، خلافًا لابن حنبل"[45].
4- قال
أبو عمر بن عبد البر: "ذهب مالك - رحمه الله - في إذن عثمان -رضي الله عنه- فيما
ذهب إلى أهل العوالي إلى أنه عنده غير معمول به. ذكر ابن القاسم عنه أنه قال: ليس عليه
العمل.
وذلك
أنه كان لا يَرى الجمعة لازمة لمن كان من المدينة على ثلاثة أميال، والعوالي عندهم
أكثرها كذلك، فمن هنا لم يَر العمل على إذن عثمان، ورأى أنه جائز له خلافه باجتهاده
إلى رؤى الجماعة العاملين في المدينة بما ذهب إليه في ذلك.
وقال الثوري وأبو حنيفة والشافعي وأكثر أهل العلم:
إن إذن عثمان كان لمن لا تلزمه الجمعة من أهل العوالي، لأن الجمعة لا تَجب إلا على
أهل المصر عند الكوفيين.
وأما الشافعي فتجب عنده على من سمع النداء من خارج
المصر.
ولا يختلف
العلماء في وجوب الجمعة على من كان في المصر بالغًا من الرجال الأحرار، سمع النداء
أو لم يسمعه.
قال أبو عمر: وقد روي في هذا الباب عن ابن الزبير
وعطاء قول منكر أنكره فقهاء الأمصار ولم يقل به أحد منهم...
قال أبو عمر: أما فعل ابن الزبير، وما نقله عطاء
من ذلك وأفتى به، على أنه قد اختلف عنه، فلا وجه فيه عند جماعة الفقهاء، وهو عندهم
خطأ إن كان على ظاهره، لأن الفرض من صلاة الجمعة لا يسقط بإقامة السنة في العيد عند
أحد من أهل العلم.
ثم ذكر الأحاديث الموقوفة على ابن الزبير، ثم
قال: "هذه الآثار كلها مرسلها ومسندها ليس في شيء منها أنه لم يصل بعد صلاة العيد
شيئًا إلا صلاة العصر"[46]
وقال
في التمهيد (10/ 267: 278): وأما القول الأول: إن الجمعة تسقط بالعيد ولا تصلى ظهرًا
ولا جمعة فقول بَيّن الفساد وظاهر الخطأ متروك مهجور لا يعرج عليه، لأن الله عز وجل
يقول: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ}، ولم يخص يوم عيد من غيره.
وأما الآثار
المرفوعة في ذلك فليس فيها بيان سقوط الجمعة والظهر ولكن فيها الرخصة في التخلف عن
شهود الجمعة، وهذا محمول عند أهل العلم على وجهين أحدهما: أن تسقط الجمعة عن أهل المصر
وغيرهم ويصلون ظهرًا.
والآخر: أن الرخصة إنما وردت في ذلك لأهل البادية
ومن لا تجب عليه الجمعة"، ثم ذكر حديث بقية بن الوليد "وإنا لمجمعون"،
ثم قال: "احتج من ذهب مذهب عطاء في هذه المسألة بهذا الحديث لما فيه من قوله -صلى
الله عليه وسلم-: "إن شئتم أجزأكم فمن شاء أجزأته". وهذا الحديث لم يروه
فيما علمت عن شعبة أحد من ثقات أصحابه الحفاظ، وإنما رواه عنه بقية بن الوليد، وليس
بشيء في شعبة أصلًا، وروايته عن أهل بلده أهل الشام فيها كلام، وأكثر أهل العلم يضعفون
بقية عن الشاميين وغيرهم، وله مناكير وهو ضعيف ليس ممن يحتج به، ثم تكلم عن الأحاديث
المرفوعة وبَين ما فيها من اضطراب وضعف.
ثم قال: "وأحسن ما يتأول في ذلك أن الأذن
رخص به من لم تجب الجمعة عليه ممن شهد ذلك العيد، والله أعلم.
وإذا
احتملت هذه الآثار من التأويل ما ذكرنا، لم يجز لمسلم أن يذهب إلى سقوط فرض الجمعة
عمن وجبت عليه، لأن الله عز وجل يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ
لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ}. [الجمعة: 9]، ولم يخص الله ورسوله يوم عيد من غيره من وجه تجب حجته،
فكيف بمن ذهب إلى سقوط الجمعة والظهر المجتمع عليهما في الكتاب والسنة والإجماع بأحاديث
ليس منها حديث إلا وفيه مطعن لأهل العلم بالحديث؟
ولم يخرج البخاري ولا مسلم بن الحجاج منها حديثًا
واحدًا وحسبك بذلك ضعفًا لها". اهـ
قلت: وأطلت في نقل كلام ابن عبد البر -رحمه الله- لأنه إمام محقق من أهل العلم
بالحديث والفقه، وقد حكم على الأحاديث بالضعف، فلنا فيه سلف، كما نبه على أن ترك
الشيخين لحديث هام في الأحكام دليل على ضعفه.
ثالثا: قول الشافعية:
قال الشافعي
-رحمه الله- : "وإذا كان يوم الفطر يوم الجمعة صلى الإمام العيد حين تحل الصلاة
ثم أذن لمن حضره من غير أهل المصر في أن ينصرفوا إن شاءوا إلى أهليهم، ولا يعودون إلى
الجمعة، والاختيار لهم أن يقيموا حتى يُجَمّعوا أو يعودوا بعد انصرافهم إن قدروا حتى
يُجمعوا، وإن لم يفعلوا فلا حرج إن شاء الله تعالى.
قال:
ولا يجوز هذا لأحد من أهل المصر أن يدعوا أن يُجَمّعوا إلا من عذر يجوز لهم به ترك
الجمعة، وإن كان يوم عيد.
وهكذا إن كان يوم الأضحى لا يختلف إذا كان ببلد
يجمع فيه الجمعة ويصلي العيد، ولا يصلي أهل منى صلاة الأضحى، ولا الجمعة لأنها ليست
بمصر.
قال: أخبرنا الربيع، قال: أخبرنا الشافعي، قال: أخبرنا
إبراهيم بن محمد، قال: أخبرنا إبراهيم ابن عقبة، عن عمر بن عبد العزيز، قال:
"اجتمع عيدان على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: من أحب أن يجلس من
أهل العالية فليجلس في غير حرج" .[47]
قال: أخبرنا
مالك، عن ابن شهاب، عن أبي عبيد مولى ابن أزهر، قال: شهدت العيد مع عثمان ابن عفان
فجاء فصلى ثم انصرف فخطب فقال: "إنه قد اجتمع لكم في يومكم هذا عيدان فمن أحب
من أهل العالية أن ينتظر الجمعة فلينتظرها، ومن أحب أن يرجع فليرجع فقد أذنت له[48]".
[49]
رابعًا: قول الحنابلة:
قال عبد الله بن أحمد
بن حنبل -رحمهما الله- : "سألت أبي عن عيدين اجتمعا في يوم، يترك أحدهما؟
قال: لا بأس به، أرجو أن يجزئه"[50].
وقال موفق الدين ابن قدامة المقدسي: "وإن اتفق
عيد في يوم جمعة، سقط حضور الجمعة عمن صلى العيد، إلا الإمام، فإنها لا تسقط عنه إلا
أن لا يجتمع له من يصلي به الجمعة.
وقيل:
في وجوبها على الإمام روايتان،... ولنا ما روى إياس بن أبي رملة الشامي، قال:
"شهدت معاوية يسأل زيد بن أرقم: هل شهدت مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عيدين
اجتمعا في يوم واحد؟ قال: نعم. قال: فكيف صنع؟ قال: صلى العيد، ثم رخص في الجمعة، فقال:
من شاء أن يصلي فليصل". رواه أبو داود، والإمام أحمد، ولفظه "من شاء أن يجمع
فليجمع".[51]
وعن أبي هريرة، عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "اجتمع في يومكم
هذا عيدان، فمن شاء أجزأه من الجمعة، وإنا مجمعون". رواه ابن ماجه. وعن ابن عمر،
وابن عباس[52]،
عن النبي -صلى الله عليه وسلم- نحو ذلك.
ولأن الجمعة إنما زادت عن الظهر بالخطبة، وقد حصل سماعها في العيد، فأجزأ عن سماعها ثانيًا، ولأن وقتهما واحد بما بيناه، فسقطت إحداهما بالأخرى، كالجمعة مع الظهر، وما احتجوا به مخصوص بما رويناه، وقياسهم منقوض بالظهر مع الجمعة، فأما الإمام فلم تسقط عنه، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "وإنا مجمعون"، ولأنه لو تركها لامتنع فعل الجمعة في حق من تجب عليه، ومن يريدها ممن سقطت عنه، بخلاف غيره من الناس.
قال: وإن قدم الجمعة فصلاها في وقت
العيد، فقد روي عن أحمد، قال: تجزئ الأولى منهما، فعلى هذا تجزئه عن العيد والظهر،
ولا يلزمه شيء إلى العصر عند من جواز الجمعة في وقت العيد.
وقد روى أبو داود، بإسناده عن عطاء، قال: اجتمع يوم الجمعة ويوم فطر على عهد
ابن الزبير، فقال: عيدان قد اجتمعا في يوم واحد، فجمعهما وصلاهما ركعتين بكرة، فلم
يزد عليهما حتى صلى العصر. وروي عن ابن عباس أنه بلغه فعل ابن الزبير، فقال: أصاب السنة.[53]
وقال الشيخ عبد المحسن العباد -حفظه الله- وهو
يشرح حديث ابن الزبير، والذي فيه: "فصلاهما ركعتين بكرة لم يزد عليهما حتى
صلى العصر"، قال: "هذه الرواية عن ابن الزبير مُشكَلة، وهي تختلف عن
الرواية السابقة، والرواية السابقة هي الأوضح والأنسب والأليق في حق ابن الزبير -رضي
الله تعالى عنه-؛ وأنه ما اكتفى بصلاة العيد عن الجمعة، والرسول -عليه الصلاة
والسلام- أخبر أنه سيصلي العيد وأنه سيُجَمّع؛ فهذه غير هذه، ولا تكون صلاة واحدة
يجتمع فيها صلاتان، والروايتان كلاهما عن عطاء بن أبي رباح، وهي حكاية فعل حصل من
ابن الزبير، وعلى هذا فالرواية الأرجح هي الأولى التي جاءت من طريق الأعمش، فهي
أرجح من الطريق التي جاءت من طريق ابن جريج المكي، وفيها أن ابن الزبير ركعهما
ركعتين عن الجمعة وعن العيد في الصباح، وأنه لم يزد عليهما حتى صلى العصر، ومعنى
هذا أنه لم يصل الجمعة ولا الظهر، فالإشكال في كونه جمعهما فصلى صلاة واحدة عن
العيد وعن الجمعة، وهذا غير مستقيم، لأن الجمعة شيء والعيد شيء، ولكن الشيء الذي
جاءت به السُنة أن من حضر العيد يمكنه أن يتخلف عن الجمعة، وأن أهل الأطراف وأهل
العوالي الذين جاءوا في الصباح ليحضروا صلاة العيد إذا رجعوا إلى منازلهم وإلى
أماكنهم لهم أن يصلوا الظهر جماعة، ولكن كونه يأتي بصلاة واحدة وينوى بها صلاة
الجمعة والعيد غير مستقيم، وهذه حكاية من عطاء لما حصل من ابن الزبير، والرواية
الأولى تفيد أنهم صلوا العيد ثم جاءوا للجمعة، وأنه لم يخرج إليهم هي الأظهر
والأقرب.
وبعض أهل العلم يقولون: الظهر تسقط عمن حضر
العيد، ويستدلون بهذه الرواية عن ابن الزبير، وهي أنه صلى في الصباح ثم لم يحصل
أنه صلى إلا العصر، ويُفهم من هذا أنه ما صلى الظهر، ولكن هذا غير واضح، والرواية
الأولى هي الأظهر، وهي لا تدل على أنه جمعهما في صلاة واحدة، ونوى بهما الجمعة
والعيد".
ثم
تكلم على رجال الإسناد، ثم قال: "لا بدّ من صلاة الجمعة أو الظهر في يوم
العيد إذا وافق الجمعة".
ورواية الأعمش هي الموافقة لِما جاء في الروايات الأخرى التي في حديث زيد
بن ثابت.
وحديث أبي هريرة، متفقة معها من جهة أن الظهر تُصلى،
وأنه لا يكتفي بصلاة العيد عن صلاة الجمعة والظهر، والرواية السابقة التي فيها
إقرار ابن عباس لابن الزبير وقوله: "أصاب السنة" هي حكاية من عطاء، وقول
ابن عباس: "أصاب السنة" يحمل على الروايات الأخرى التي فيها بقاء الظهر
وعدم سقوطها، وبعض الإخوان في جامعة أم القرى كتب بحثًا خاصًا في هذه المسألة،
ورجح أن صلاة الظهر لا تسقط يوم العيد، وسماها: (الطهر في أداء صلاة الظهر) يعني: إذا وافق يوم
الجمعة يوم عيد، وهي رسالة مطبوعة.
والألباني صحح هذه الرواية وغيرها، لكنها مُشكَلة في الحقيقة، لأن ظاهرها
أنه جمع بينهما، وبعض أهل العلم قال "إنه عدّ الجمعة هي الأصل والعيد تبعًا
لها، يعني أنه أتى بالجمعة قبل الزوال، لكن الروايات عن ابن الزبير ليس فيها شيء
من هذا، ولا أنه نوى بالعيد الجمعة، بل الذين صلوا معه العيد جاءوا بعد ذلك ليصلوا
الجمعة كالمعتاد"[54].
وقال ابن هبيرة في تعليقه على حديث عثمان الذي أخرجه البخاري، وأذنه لأهل
العالية لمن أحب منهم عدم شهود الجمعة إذا صلى العيد، قال: "وفيه أيضًا من
الفقه: أنه إذا اتفقت الجمعة في يوم عيد كان مخيرًا بين حضور الجمعة أو صلاته
ظهرًا في بيته. وهذه المسألة تفرد بها أحمد بن حنبل -رضي الله عنه- عملًا بهذا الحديث"[55].
خامسًا: قول الإمام ابن حزم
الظاهري .
قال أبو محمد علي بن حزم -رحمه الله-: "مسألة: وإذا اجتمع عيد في يوم
جمعة: صلي للعيد، ثم للجمعة ولا بُدّ، ولا يصح أثر بخلاف ذلك؟ لأن في رواته:
إسرائيل، وعبد الحميد بن جعفر، وليسا بالقويين، ولا مؤنة على خصومنا من الاحتجاج
بهما إذا وافق ما روياه تقليدهما، وهنا خالفا روايتهما فأما رواية إسرائيل، فإنه
روى عن عثمان بن المغيرة، عن إياس بن أبي رملة: سمعت معاوية سأل زيد بن أرقم: "أشهدتَ
مع
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عيدين؟ قال: نعم صلى العيد أول النهار، ثم
رخص في الجمعة".
وروى عبد الحميد بن جعفر: حدثني وهب بن
كيسان قال: "اجتمع عيدان على عهد ابن الزبير، فأخر الخروج حتى تعالى النهار،
ثم خرج فخطب فأطال، ثم نزل فصلى ركعتين، ولم يصل للناس يومئذ الجمعة، فقال ابن عباس: أصاب السنة".
قال أبو محمد: الجمعة فرض والعيد تطوع، والتطوع لا يُسقط الفرض" [56].
قلت: قصد -رحمه الله- بذكره للروايتين، إظهار النكارة فيهما؛ إذ كيف يقول
ابن عباس عن فعل ابن الزبير: أصاب السنة، وهو أخّر الصلاة حتى تعالى النهار، بخلاف
حديث زيد بن أرقم المرفوع الذي فيه أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- صلى أول
النهار؟ والله أعلم.
وبهذا، يظهر أن هذا الحكم تفرد به الحنابلة عن
باقي المذاهب، وأن عمدتهم في المسألة الأحاديث المنكرة التي جاءت في الباب، وأن من
هذه الأحاديث ما ضعفه الإمام أحمد -رحمه الله- ونزه مسنده من منكرها.
كما أن له رواية توافق رأي الجمهور، كما مر من
كلام ابن قدامة المقدسي -رحمه الله-.
وأما السنة الصحيحة في الباب، أن الجمعة والعيد
إذا اجتمعا في يوم يصليان جميعًا، ويجوز فقط لمن كان على سفر وصلى العيد أن يتخلف
عن شهود الجمعة، ويصليها ظهرًا، والله أعلم.
هذا؛ والله
أسأل أن يكون هذا العمل خالصًا لوجهه، موافقًا لسُنة نبيه صلى الله عليه وسلم.
انتهى بحمد الله.
[1] ــ الإفصاح عن معاني
الصحاح : ( 1 / 148) لأبي المظفر يحيى بن أبي هبيرة الشيباني.
[2] ـ وأخرجه ابن
أبي شيبة، وابن خزيمة وابن حبان في صحيحهما، والترمذي وصححه.
[3] ـ الوضاح بن
عبد الله اليشكري راوي الحديث، مسند أحمد (18409)
[4] ـ ورواه ابن أبي شيبة في
مصنفه (5887)، وعبد الرزاق في المصنف (5636)، والفريابي في أحكام العيدين ص/ 63،
والبيهقي في معرفة السنن والآثار (7025) وغيرهم.
[5] - فتح الباري لابن
رجب: (3 / 205).
[6] ـ فتح الباري لابن
حجر: (10 / 27).
[7] ـ يعني أن "عمر بن
حفص الوصابي" في روايته قال أن بقية قال: عن شعبة، بخلاف صاحبه "محمد بن
المصفى" قال في روايته: حدثنا بقية قال: حدثنا شعبة. والفرق بينهما كبير كما
سيأتي.
والحديث رواه الفريابي في أحكام العيدين (150)، وابن الجارود في المنتقى (302)،
والبزار (8996) والحاكم في المستدرك (1064)، والبيهقي في الكبرى (6288) وغيرهم
[8] ـ هو الوضاح بن عبد
الله اليشكري راوي حديث النعمان بن بشير الذي أخرجه مسلم، والذي فيه أنه إذا اجتمع
عيدان على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صلاهما جميعا، وفي جواب أبي حاتم
-رحمه الله-، أنه له رواية عن "عبد العزيز بن رُفَيْعٍ" راوي الحديث
المرفوع: " اجتمع في يومكم هذا عيدان، فمن شاء أجزأه من الجمعة، وإنا
مجمعون"، غير أن هذه الرواية يرويها أبو عوانة الوضاح بن عبد الله عن
"عبد العزيز بن رفيع" عن "الحجاج بن يوسف الثقفي" أنه جمع بين
العيد والجمعة في زمانه.
[9] ـ قلت: وينتبه هنا أن
الإمام أحمد -رحمه الله- ضعف هذا الحديث، مع أن مذهبه كما سيأتي سيستدل به.
[10] - معالم السنن، شرح
سنن أبي داود: (1 / 246).
[11] - قال في المستدرك
(1064): "وهذا حديث غريب من حديث شعبة والمغيرة وعبد العزيز"
[12] - إكمال التهذيب
لمغلطاي: (3 / 159) ط/ الفاروق.
[13] - الجرح والتعديل
لابن أبي حاتم، رقم: (1987).
[14] - ميزان الاعتدال
(3169).
[15] ـ ورواه أحمد في
مسنده (19318)، وأبو داود في سننه (1070)، والنسائي في الكبرى (1793)، وابن خزيمة
(1464)، وغيرهم.
[16] - ميزان الذهبي:
(1052).
[17] - في بيان الوهم
والإيهام: (4 / 204).
[18] ـ تفاصيل هذا المبحث في
الأصل ص / 22
[19]- التمهيد:
(10 / 277: 278).
[20] - الكامل في ضعفاء
الرجال: رقم: 1446.
[21] - العلل ومعرفة
الرجال عن أحمد بن حنبل رواية المروذي: ص / 161: 162.
[22] - الكامل لابن عدي:(1463).
[23] - الجرح والتعديل:
(204) لابن أبي حاتم.
[24] - تاريخ ابن معين:
(538) رواية الدوري.
[25] - التقريب: (4064).
[26] ـ معرفة السنن والآثار
للبيهقي: (5 / 151).
[27] ـ تعريف أهل
التقديس بمراتب الموصوفين بالتدليس: (ص / 41) .
[28] ـ ذكر
أسماء من تُكلم فيه وهو مُوثق (222) .
[29] ـ ميزان الاعتدال
في نقد الرجال، للذهبي (5227).
[30] ـ تاريخ بغداد
(5526) .
[31] شرح علل للترمذي (2
/ 600) .
[32] (تاريخ بغداد(5526)
.
[33] ـ تعريف أهل التقديس بمراتب
الموصوفين بالتدليس (ص / 33) .
[34] ـ ميزان الاعتدال في نقد
الرجال (3517)
[35] ـ فائدة: يوم مات عبد
الرزاق كان لإسحاق بن إبراهيم ست أو سبع سنوات، وسماعه صحيح.
[36] - ميزان الاعتدال، رقم:
(9250).
[37] - مقدمة الفوائد
المجموعة في الأحاديث الموضوعة للشوكاني ص: (8: 9).
[38] ـ بسطت هذه المسألة بتوسع
في شرح الموقظة عند الكلام على الحديث المنكر .
[39] ـ والحديث في مسند أحمد
وابن أبي شيبة من طريق عطاء.
[40] ـ علل الحديث : (
602).
[41] - رواه البخاري في
صحيحه معلقًا.
[42] ـ باب في العيدين والصلاة
بعرفات والتكبير في أيام التشريق: (ص /113).
[43] - المدونة: (1 / 233:
234).
[44] - انظر شرح التلقين لأبي
عبد الله محمد بن علي المازري: (1 / 1035: 1036).
[45] - الذخيرة لأبي العباس
القرافي: (2 / 355).
[46] ـ اذكر تفاصيل هذا
في الاستذكار: (2 / 284: 288).
[47] ـ حديث مرسل.
[48] ـ رواه البخاري .
[49] ـ الأم: (1 / 274).
[50] - مسائل عبد الله، رقم:
(482).
[51] ـ حديث منكر، وقد مر
تحقيقه.
[52] ـ قال ابن حجر في:
"التلخيص الحبير (2 / 211)": "ووقع عند ابن ماجه عن أبي صالح عن
ابن عباس بدل أبي هريرة، وهو وهم، نبه هو عليه".
[53] ـ المغني: (2
/ 265: 266).
قلت: والأحاديث التي استدل بها الحنابلة كلها ضعيفة، وقد ضعف بعضها إلامام أحمد
نفسه، ومنها ما هو خطأ، كما نبهنا في الحديث السابق.
[54] - شرح سنن أبي داود:
(درس رقم: 598)، تفريغ الشاملة.
[55] - الإفصاح عن معاني
الصحاح: (1 / 148) لأبي المظفر يحيى بن أبي هبيرة الشيباني.
[56] - المحلى، مسألة
رقم: (547).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق