إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الاثنين، 31 يناير 2022

حكم الوضوء بالثلج!


 حكم الوضوء بالثلج


الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد:
  فإنه قد انتشر أخيرًا مقاطع لأُناس تتوضأ بالثلج!، وقد استحسن البعض صنيعهم، بل زعموا أنه من إسباغ الوضوء على المكاره!.
ومثل هذه الهيئة إن سُكت عليها ولم يُبين حكمها، ظن البعض صحتها، وأنها من صحيح الدين، وأنه يجوز للمسلم التعبد بها.
فهذه وقفة مع فقه الوضوء وحكم الوضوء بالثلج أردت منها بيان الحكم الشرعي، والله من وراء القصد، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
    فأقول: ذكر الله ـ عز وجل ـ في آية الوضوء ( غسل ومسح)، فقال ـ سبحانه ـ : {
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} . [سورة المائدة : 6 ].
   فنبه الله ـ سبحانه ـ على النية في قوله: { إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ} يعني: إذا أردتم الصلاة، ثم ذكر غسل الوجه واليدين إلى المرفقين، ثم عطف عليهما الرجلين إلى الكعبين، ثم ذكر مسح الرأس.
فذكر أعضاء في الوضوء حقها الغسل، وأن الرأس فيها المسح.

   ولو كان المراد بالغسل هو المسح لبطلت فائدة التفرقة بينهما في الآية؛ وفي وجوب إثبات التفرقة بينهما ما يوجب أن يكون المسح غير الغسل، فمن مسح ولم يغسل فلا يجزيه لأنه لم يفعل المأمور به.
   فإن أخل العبد بأن مسح ما حقه الغسل بطل وضوءه بلا خلاف بين العلماء.
وهذا مما يُؤخذ على الشيعة، إذ أنهم يمسحون على أرجلهم ولا يغسلونها بزعم أنها معطوفة على الرأس!، فيصلون بلا وضوء.
   وأما ما يتوضأ ويتطهر به فهو الماء، قال الله تعالى : { فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا}.[سورة النساء: 43].

وقال ـ عز وجل ـ : { وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا }. [سُورَة الْفرْقَان : 48].
   والعلماء على أن الماء الصالح للوضوء هو الماء المطلق، فإن صار لا يسمى ماءً إلا بالقيد، فلا يتوضأ به، كماء الورد وماء الزعفران.

  كما لا يصح الوضوء باللبن أو النبيذ أو العصير وإن لم يكن ثخينًا، كعصير البطيخ مثلًا، إذ أنهم ليسوا بماء.
فالوضوء لا يكون إلا بالماء، ولا يجوز فيه إي مائع.
   فإن خالط الماء طاهر أثر فيه ولم يخرجه عن طبيعته، جاز الوضوء به .
فلو بل الخبز بالماء مثلًا وبقي رقيقًا جاز به الوضوء؛ فإن صار ثخينًا لا يجوز. ولو وقع الثلج في الماء وصار ثخينًا غليظًا لا يجوز به التوضؤ، فإن لم تذهب رقته جاز به الوضوء.
   وظاهر السنة أنه يجوز الوضوء بالماء المستعمل، وهو الماء المنفصل عن أعضاء المتوضئ أو المغتسل.
   فإن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان يتوضأ فيمسح أذنيه بعد مسح رأسه، ولا يأخذ لهما ماء جديدا.

  وهذا ماء مستعمل بلا خلاف، مر على الرأس قبل أن تمسح به الأذن.
   وأما ما ذكره بعض الشافعية أن مسح الرأس يكون بثلاثة أصابع، حتى يمسح الأذن بأصبعين لم يستعمل ماءهما!، فهذا تنطع يفتقر إلى دليل.
ومن أوضح الأدلة على جواز الوضوء بالماء المستعمل: وضوء الصحابة بفضل وضوء رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في صلح الحديبية.
فقد أخرج البخاري في صحيحه في كتاب الوضوء : "باب استعمال فضل وضوء الناس "، من حديث المسور بن مخرمة ـ رضي الله عنه ـ قال:" وإذا توضأ النبي صلى الله عليه وسلم كادوا يقتتلون على وضوئه".
وفي كتاب الشروط قال عروة بن الزبير في وصف هذه الهيئة: " فوالله ما تنخم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم ، فدلك بها وجهه وجلده".
وفي "باب استعمال فضل وضوء الناس " أيضًا من صحيح البخاري، عن أبي جحيفة السوائي ـ رضي الله عنه ـ  يقول : خرج علينا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالهاجرة ، فأتي بوضوء فتوضأ، فجعل الناس يأخذون من فضل وضوئه فيتمسحون به".
   هذا؛ ولله در الإمام ابن حزم ـ رحمه الله وعفا عنه ـ إذ قال: " والوضوء بالماء المستعمل جائز، وكذلك الغسل به للجنابة، وسواء وجد ماء آخر غيره أو لم يوجد، وهو الماء الذي تُوُضئ به بعينه لفريضة أو نافلة أو اغتسل به بعينه لجنابة أو غيرها، وسواء كان المتوضئ به رجلا أو امرأة.
برهان ذلك قول الله تعالى { وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا } .

[ النساء : 43] ، فعم تعالى كل ماء ولم يخصه، فلا يحل لأحد أن يترك الماء في وضوئه وغسله الواجب وهو يجده، إلا ما منعه منه نص ثابت أو إجماع متيقن مقطوع بصحته. وقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " وجعلت لنا الأرض كلها مسجدًا، وجعلت تربتها لنا طهورا إذا لم نجد الماء ". [رواه مسلم].
    فعم أيضًا ـ عليه السلام ـ  ولم يخص، فلا يحل تخصيص ماء بالمنع لم يخصه نص آخر أو إجماع متيقن...
   وأما من الإجماع فلا يختلف اثنان من أهل الإسلام في أن كل متوضئ فإنه يأخذ الماء فيغسل به ذراعيه من أطراف أصابعه إلى مرفقه، وهكذا كل عضو في الوضوء وفي غسل الجنابة، وبالضرورة والحس يدري كل مشاهد لذلك أن ذلك الماء قد وضئت به الكف وغسلت، ثم غسل به أول الذراع ثم آخره، وهذا ماء مستعمل بيقين، ثم إنه يرد يده إلى الإناء وهي تقطر من الماء الذي طهر به العضو، فيأخذ ماء آخر للعضو الآخر، فبالضرورة يدري كل ذي حس سليم أنه لم يطهر العضو الثاني إلا بماء جديد قد مازجه ماء آخر مستعمل في تطهير عضو آخر وهذا ما لا مخلص منه.
[المحلى ( 1 / 184) ط/ دار الفكر].

ويتبقى الآن حكم الوضوء بالثلج..
  فأقول: قد مر آنفًا أن الوجه والكفين إلى المرفقين والرجلين إلى الكعبين حقهم في الوضوء الغسل، فمن مسح عليهم، لم يكن متوضئ بذلك.
   وهذا هو ما يحدث في التوضؤ بالثلج، فإن غاية ما يحدث هو مسح الأعضاء التي حقها الغسل، فلا يلتفت هنا إلى أن هذه الأعضاء أصابها البلل من الثلج، فهذا حادث بأدنى تأمل في مسح  الرأس كما في آية الوضوء.
    ولا حجة لمن أستدل بدعاء الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ الذي كان يستفتح به الصلاة، وهو : " اللهم اغسل خطاياي بالماء والثلج والبرد ".
[متفق عليه].
فالمقصود هو أغسل خطاياي بماء الثلج والبرد، كما بينته أحاديث أخرى،
فعند البخاري ومسلم من حديث أم المؤمنين عائشة ـ رضي الله عنها ـ أنه كان من دعائه ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، أنه قال: " اللهم اغسل عني خطاياي بماء الثلج والبرد، ونق قلبي من الخطايا كما نقيت الثوب الأبيض من الدنس، وباعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب".
وبوب للحديث الإمام النسائي في سننه الصغرى : "
باب الوضوء بماء الثلج".

فائدة:
   "معلوم
أن الغسل بالماء الحار أبلغ في الإزالة، ولكن جِيءَ في الحديث الغسل بالثلج والبرد، بدلًا من الماء الحار، وسبب ذلك: ليناسب حرارة الذنوب التي يراد إزالتها، والله أعلم".

  هذا؛ ومن أظهر الأدلة على مخالفة الوضوء بالثلج للسنة الصحيحة، أنه لا يتصور كيف يتمضمض المرء بالثلج؟
أو كيف يستنشقه؟
   وأعجب من ذلك أنهم اختلفوا علي حكم التيمم بالثلج، فجوز بعض المالكية التيمم به، فجعلوه مساويًا للتراب.
ولا أعلم أنه وجد من يقول: ببطلان التيمم بالتراب مع وجود الثلج، فتأمل!.

  وأخرج أبو عبيد القاسم بن سلام في كتاب الطهور: "أنه أصاب الناس ثلج بالجابية, لما نزلها عمر بن الخطاب رضي الله عنه , فقال عمر بن الخطاب : " أيها الناس إن الثلج لا يتيمم به ".
قلت: فإن كان " عبد الملك بن محمد" الذي في السند هو الرقاشي، فالحديث حسن.
  وبسند صحيح عنده، أن الحسن البصري ـ رحمه الله ـ قال في الذي لا يجد إلا الثلج , قال : " إن وجد ماء, وإلا تيمم ".
  ثم قال "أبو عبيد" بعد أن أخرج بسند ضعيف قول الأوزاعي أن الثلج يجوز التيمم به إذ تقاطر، وإلا تيمم بالصعيد الطيب، قال: " وكذلك قول سفيان, وعليه أصحاب الرأي من أهل العراق : أن الثلج لا يجزئ به الوضوء ما دام ثلجًا قبل أن يُذاب, ولا أحسبه إلا قول أهل الحجاز. وهكذا هو عندنا غير مجزئ على الأصل الذي ذكرنا في الباب الذي قبل هذا، ولا أعلم أحدا أفتى به إلا الحكم بن عتيبة".اهـ

والخلاصة:
   إن الوضوء له هيئة جاءت بها الشريعة، وصحت في سنة نبينا ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وهي أن فيه أعضاء تُغسل، وأخرى تُمسح، فمن مسح ما حقه الغسل لم يصح له وضوء، وخالف السنة.
   وهذا هو الحاصل في التوضؤ بالثلج، إذ أنه لا يتعدى المسح على أعضاء في حقها الغسل.
    وإنّ تقاطر الثلج عند غسل الأعضاء لا يُتصور في زمان الشتاء، فضلا عن أن الأصل أن يجري الماء على الأعضاء في الوضوء، لا أن يجري بعد ملاقاة الأعضاء!.

   فإن عالج المسلم الثلج قبل الوضوء حتى يسيل، جاز له الوضوء به، لأن الثلج في الأصل ماء تجمد على سطح الأرض، والبرد مطر متجمد، فإن رجعا إلى أصلهما جاز التوضؤ بهما، بخلاف ماء الملح، فهو يجمد في الصيف، ويذوب في الشتاء، بعكس الماء.

   فإن وجد عند المسلم ماء الثلج أو البرد، توضأ بهما بلا خلاف، وإلا تيمم ولا شيء عليه، قال الله تعالى: { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ 

وقال سبحانه: { يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ }.
 وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
وكتب
أبو صهيب وليد بن سعد
القاهرة 28 / جمادى الآخرة / 1443
31 / 1 / 2022