إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الاثنين، 11 مارس 2024

ضعف حديث الذكر أثناء ثني الرجل

 

               ضعف حديث الذكر أثناء ثني الرجل
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد:
فإنه كثر السؤال عن ذكر يُقال بعد صلاة الفجر مباشرة، وله هيئة خاصة في الجلوس له؟
 فنظرت في حديثه، فتبين لي ضعفه، وهذا بيان المسألة :
 

أولًا: تخريج الحديث:

  عن أبي ذر مرفوعًا، قال: "من قال في دبر صلاة الفجر وهو ثاني رجله قبل أن يتكلم : "لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت بيده الخير وهو على كل شيء قدير، عشر مرات، كان له بكل واحدة منهن عشر حسنات، ومحي عنه بها عشر سيئات، ورفع له بها عشر درجات، وكان له بكل واحدة منهن عدل رقبة وكان يومه ذلك في حرز من كل مكروه من الشيطان ولم يتبع بذنب يدركه إلا الشرك" . الحديث.

  قال البزار في مسنده المعلل عقب الحديث: "وهذا الحديث لا نعلمه يروى بهذا اللفظ إلا عن أبي ذر بهذا الإسناد".

  قلت: ومدار هذا الإسناد المذكور على: شهر بن حوشب يرويه عن عبد الرحمن بن غَنْم الأشعري، وعبد الرحمن يرويه عن أبي ذر.

   إلى هنا يكاد يكون الإسناد متفق عليه؛ إلا أنه اختلف فيه على شهر، و"شهر بن حوشب الأشعري أبو سعيد" مختلف في توثيقه، وثقه أحمد وابن معين وغيرهما، وتركه يحيى بن سعيد القطان، وقال النسائي: ليس بالقوي.

  قال صالح جزرة: "لم يوقف منه على كذب. وكان رجلًا يتنسك إلا أنه روي أحاديث يتفرد بها لم يشركه فيها أحدًا".

  قلت: وقد اتفقوا على أنه كثير الإرسال والوهم.

وبهذا يكون أحسن أحواله أنه صدوق، ولا يقبل منه التفرد.

  وهذا الحديث تفرد به كما مر في كلام البزار، ولهذا وصفه الإمام الترمذي بالغريب عندما أخرجه في جامعه.

  غير أن الأمر أبعد من رد هذا الحديث بهذه العلة، أو بالتدليس لأنه عنعه، فالحديث اضطرب سنده ومتنه جدًا.

1   ـ فالحديث عند الترمذي يرويه عن شهر = زيد بن أبي أنيسة أبو أسامة (ثقة). ليس فيه لفظة: "بيده الخير"، أو " له بكل واحدة منهن عدل رقبة ".

2  ـ وعند النسائي في الكبرى يرويه عن شهر = عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي حسين (ثقة)، وعنه "زيد بن أبي أنيسة"!.

  وحديثه ذكرت فيه لفظة: "بيده الخير"، إلا أن الثواب فيه مختلف، فبدلًا من عشر حسنات، تقلصت إلى واحدة!، ونصه:

"   كتب الله له بكل واحدة قالها منهن حسنة، ومحى عنه سيئة، ورفع بها درجة، وكان له بكل واحدة قالها عتق رقبة".

3  ـ كما رواه النسائي في عمل اليوم والليلة يرويه عن شهر = عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي حسين ، أيضًا؛ إلا أن الصحابي هنا "معاذ بن جبل" وهو حديث أبي ذر كما مر.

  وليس فيه ذكر "ثني الرجل" أو "يحيى ويميت". وزاد في الثواب:

" وكن له عدل عشر نسمات"!.

   وفيه زيادة: " ومن قالهن حين ينصرف من صلاة العصر أعطي مثل ذلك في ليلته".

قلت: وليس في حديثنا ذكر لصلاة العصر البتة، فانتبه!

  ولهذا قال الإمام النسائي بعده:" حصين بن عاصم = مجهول ، وشهر بن حوشب = ضعيف ، سئل ابن عون عن حديث شهر فقال : إن شهرًا نزكوه ، وكان شعبة سيئ الرأي فيه، وتركه يحيى القطان؛ خالفه زيد بن أبي أنيسة ، رواه عن ابن أبي حسين، عن شهر، عن عبد الرحمن بن غنم، عن أبي ذر". اهـ

قلت: قال النضر بن شميل: نزكوه : أي طعنوا فيه.

4    ـ كما أخرجه الطبراني في الكبير عن شهر، وعنه عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي حسين أيضًا، وصحابي الحديث معاذ كذلك.

كما أن الثواب فيه: " أعطي بهن سبعًا كتب له بهن عشر حسنات " (هكذا)، وبدلًا من صلاة العصر، ذكرت صلاة المغرب!!، ونصه:

"  ومن قالهن حين ينصرف من صلاة المغرب أعطي مثل ذلك لثلثه".

كما أنه ليس فيه "ثني الرجل".

5  ـ ورواه عبد الرزاق في مصنفه عن شهر عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي حسين، وليث بن أبي سليم القرشي أبو بكر معًا.

  غير أن عبد الرحمن بن غَنْم أرساله إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأسقط الصحابي.

وفيه بدلًا من أن يُقال هذا الذكر بعد صلاة الفجر، يُقال: " دبر كل صلاة".

  وبدلًا من "عشر نسمات" = :" عدل رقبة من ولد إسماعيل".

6   ـ وكذا رواه أحمد في مسنده مرسلًا من عبد الرحمن بن غنم، وفيه: " من قال قبل أن ينصرف ويثني رجله من صلاة المغرب، والصبح".

فذُكرت صلاة المغرب هنا في أول الحديث!!.


ثانيًا: الخلاصة:

الحديث ضعيف، معل بأكثر من علة.

ومثله لا يتقوى ولا يحسن لغيره.

  وقد ضعفه الدارقطني في العلل ( 6 / 247 )، وكذا ضعفه الشيخ الألباني في الصحيحة ( 1 / 232 )، حيث قال: " وفي هذه الرواية فائدة عزيزة وهي زيادة " يحيي ويميت " فإنها قلما تثبت في حديث آخر، وقد رويت من حديث أبي ذر وعمارة بن شبيب وحسنهما الترمذي، وإسنادهما ضعيف كما بينته في " التعليق الرغيب على الترغيب والترهيب " وفي حديث الأول منهما: " من قال في دبر صلاة الفجر وهو ثان رجليه قبل أن يتكلم لا إله إلا الله.. " فهذا القيد:

" وهو ثان... " لا يصح في الحديث لأنه تفرد به شهر بن حوشب، وقد اضطرب في إسناد الحديث وفي متنه اضطرابًا كثيرًا كما أوضحته في المصدر المذكور ...". اهـ

  قلت: غير أن الشيخ -رحمه الله-  وهِمَ في الصحيحة ( 6 / 353 )، فقال في حديث: "من قال في دبر صلاة الغداة: " لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت بيده الخير وهو على كل شيء قدير " مئة مرة، وهو ثان رجليه، كان يومئذ أفضل أهل الأرض عملًا إلا من قال مثل ما قال أو زاد على ما قال ".

قال الشيخ - رحمه الله- : " . وفي الحديث شهادة قوية لحديث شهر بن حوشب الذي فيه هذه الجملة: " وهو ثان رجليه "،

  وكنت لا أعمل بها لضعف (شهر) حتى وقفت على هذا الشاهد، وفيه التهليل (مائة) مكان (عشر) والكل جائز لثبوتهما". اهـ

  قلت: والشيخ -رحمه الله- وهِم فنقل الحديث : "وهو ثان رجليه "، بينما رواية الطبراني التي هو بصددها، فيها: " قبل أن يثني رجليه"، والفرق بينهما كبير.

  كما أن رواية الطبراني في الأوسط (4 / 450) أيضًا معلة، فقد قال بعدها: " لم يرو هذا الحديث عن أبي غالب إلا آدم بن الحكم ، ولا رواه عن آدم إلا عبد الصمد بن عبد الوارث ".

  فبَين أن "آدم بن الحكم" تفرد بها، وهو " آدم بن الحكم أبو عباد" صاحب الكرابيس، ذكره البخاري في التاريخ الكبير، ومسلم في الكنى، ولم يذكرا فيه جرحًا ولا تعديلًا.

   وذكره ابن أبي حاتم في كتابه، وقال: "ابن معين: آدم بن الحكم : صالح، قال: وسمعت أبي يقول: آدم بن الحكم: ما أرى بحديثه بأسا". [ الجرح والتعديل (2 / 267)].

   وقال ابن حجر في اللسان: "وقال ابن أبي حاتم: تغير حفظه، روى شريك عن آدم البصري ،عن الحسن البصري وهو عندي آدم بن الحكم هذا إن شاء الله".[ لسان الميزان (1 / 335 : 336)].

   قلت: فمثله لا يقبل تفرده، فصالح الحديث هذه من أدنى ألفاظ التوثيق، وهي تفيد العدالة ولا تفيد الضبط، فإن انضم إليها تغير حفظه، فنسأل الله العافية.

   هذا؛ ويغني عن هذا كله حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال : "من قال : لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، في يوم مائة مرة، كانت له عدل عشر رقاب، وكتبت له مائة حسنة ومحيت عنه مائة سيئة، وكانت له حرزًا من الشيطان، يومه ذلك، حتى يمسي ولم يأت أحد أفضل مما جاء به إلا أحد عمل أكثر من ذلك، ومن قال : سبحان الله وبحمده، في يوم مائة مرة حطت خطاياه ولو كانت مثل زبد البحر ". [ متفق عليه، واللفظ لمسلم].

   كما أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يقول في دبر كل صلاة مكتوبة : "لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد ". [متفق عليه].

  هذا؛ والله أعلم.

وصلى الله على محمد وعلى اله وصحبه وسلم

وكتب

أبو صهيب وليد بن سعد
١٨ / جمادى الآخرة / ١٤٤٤ هـ
11 / 1 / 2023

 

الخميس، 7 مارس 2024

بذل الإحسان في تخريج حديث نهي الصوم إذا انتصف شعبان

 

بذل الإحسان في تخريج حديث نهي الصوم إذا انتصف شعبان.


      الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد:
  فإن حديث النهي عن الصيام بعد النصف من شعبان من الأحاديث التي يَحدث بسببها خلاف موسمي، فينقسم الناس بسببه إلى فريقين، فريق يذهب إلى صحته وأن الصيام مكروه أو محرم إذ انتصف شعبان إلا صيام العادة.
وفريق يذهب إلى ضعفه ونكارته وأنه لا يترتب عليه حكم، وكل فريق يذكر أدلته على الصحة أو الضعف.
   غير أنه يقع بسبب مثل هذا الحديث وما يشبهه من الأحاديث التي تنازع العلماء في صحتها، كثيرًا من الخصومة والخلاف بين غير المؤهلين لفهم خبايا وأسرار علم الحديث؛ فينتج عن ذلك تطاول من غير قصد على أئمة الصنعة؛ بسبب رد أحكامهم بكلام نظري أو قواعد أصولية -كما سيأتي- .
أو يصبح قبولهم للحديث والعمل به أو رده، مبناه على شهرة المحقق أو كثرة الموافقين له.
فأحببتُ أن أجعل من هذا الحديث نموذجًا يَفهم من خلاله محبي هذا العلم بعض أسراره، وكيف يُتصور هذا العلم؟، وكيف يَرتقي من يقع في حيرة بسبب اختلاف كلمة العلماء من التقليد إلى الاتباع؟.

فليس همي في هذا البحث تحقيق صحة الحديث أو ضعفه، بقدر إظهاري لسبب خلاف العلماء وتَبيّن قرائن الترجيح بينهم، ليستفيد القارئ من خطوات التحقيق في فهم غيره من الأحاديث المُشكلة، والله هو الموفق والمستعان.
وسأحاول وضع البحث في نقاط تساعد على تصور مسائله.
أولًا: تخريخ الحديث:
1 ـ سند الحديث ومتنه:
   روى عبد الرزاق في مسنده، عن ابن عيينة، عن العلاء بن عبد الرحمن بن يعقوب، عن أبيه، عن أبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
«إذا كان النصف من شعبان، فأفطروا».
والحديث رواه ابن حبان في صحيحه وأحمد في مسنده أبو داود والنسائي في سننهما، وغيرهم.
  قلت: والعلماء تقدم سند عبد الرزاق هنا لأنه أقوى طريق للحديث.
 ويقدمون ابن حبان في التخريج لأنه اشترط الصحة، فهو أولى من غيره ممن لم يشترطها.
هذا؛ وقد اختلفت بعض ألفاظ المتن بعض الشيء.  
 ففي بعض طرقه كما عند أبي عوانة في مستخرجه:
«إذا انتصف شعبان فلا صوم حتى يأتي رمضان».
وهذه الرواية من طريق أبي عُميسٍ المسعودي "عتبة بن عبد الله الهذلي"، وهو ثقة.
  ومن طريقه عند أحمد، قال:
«إذا كان النصف من شعبان، فأمسكوا عن الصوم حتى يكون رمضان».
 وفي روايته عند النسائي قال:
«إذا انتصف شعبان فكفوا عن الصوم».

  وأخرجه ابن حبان من طريق روح بن القاسم التميمي (ثقه)، بلفظ: « إذا كان النصف من شعبان ، فأفطروا حتى يجيء رمضان».
  وجاء المتن بألفاظ أخرى وزيادات، غير أن هذا كله لا يَضر الحديث، فهو داخل في رواية الحديث بالمعنى، وهذا معتبر عند بعض العلماء إن لم يغير المعنى.[1]
  فإن جاء المتن بزيادة أو حرف جديد، وكان راويه ضعيفًا، فهذا لا يُقبل منه ويُرد، كما في رواية الدارقطني:
«لا صوم بعد النصف من شعبان حتى رمضان, ومن كان عليه صوم من رمضان فليسرده ولا يقطعه».
فزيادة :
«ومن كان عليه صوم من رمضان ... »، هي من رواية: "عبد الرحمن بن إبراهيم القاص"، وهو ضعيف.
  2 ـ الكشف عن المدار:

   فإن العلماء عندما تَتعدد طرق الحديث، ويَحدث اختلاف في ألفاظه يبحثون عن المدار، ليَنظُروا هل الخلاف من الراوي الذي عليه مدار الحديث أم ممن روىَ عنه؟
ومخرج حديثنا ومداره على: "العلاء بن عبد الرحمن بن يعقوب الحرقي المدني".
رواه عنه جماعة منهم:
ـ سفيان بن عيينة.
ـ أبو عميس عتبة بن عبد الله المسعودي.
ـ
عبد العزيز بن محمد الدراوردي.
ـ
روح بن القاسم التميمي.
ـ مسلم بن خالد الزنجي.
ـ زهير بن محمد التميمي الحرقي.
ـ محمد بن الوليد بن عامر الزبيدي القاضي.
ـ زهير بن معاوية الجعفي.
ـ عبد الرحمن بن إبراهيم القاص، وغيرهم.
قلت: والأصل في مثل هذا الحديث بدء النظر في حال الراوي الذي عليه مدار الحديث، وعدم الاشتغال بحال من روى عنه، لأن فيهم أكثر من ثقة، والطريق إليهم صحيحة، وإليه أيضًا.

  3 ـ ترجمة العلاء بن عبد الرحمن.
قال محمد بن سعد في طبقاته: "
العلاء بن عبد الرحمن بن يعقوب، مولى الحرقة من جهينة، وكانت له سن، وبقي إلى أول خلافة أبي جعفر.

  قال مالك بن أنس: "كانت عند العلاء بن عبد الرحمن بن يعقوب صحيفة يحدث بما فيها، فكان إذا أتاه الرجل يَكتب بعضًا ويَدع بعضًا، قال العلاء: إما أن تأخذوها جميعًا وإما أن تدعوها جميعًا".

   وقال محمد بن عمر: "وصحيفة العلاء بالمدينة مشهورة، وكان ثقة كثير الحديث ثبتًا، وتوفي في أول خلافة أبي جعفر".[2]
   وقال عبد الرحمن بن أبي حاتم: "روى عنه مالك بن أنس، وابن جريج، وشعبة، ومحمد بن عجلان، والحسن بن الحر، وسفيان بن عيينة، وعبد العزيز بن أبي حازم، وسعد بن سعيد أخو يحيى بن سعيد الانصاري، والوليد بن كثير، ومحمد بن إسحاق، وإسماعيل بن جعفر".

  قال عبد الله بن أحمد بن حنبل: قال أبى: "العلاء بن عبد الرحمن ثقة، لم نسمع أحدًا ذكر العلاء بسوء".
  وعن يحيى بن معين أنه قال: "العلاء بن عبد الرحمن ليس حديثه بحجة".

  وقال عبد الرحمن، حدثنا أبو بكر بن أبي خيثمة فيما كتب إلي، قال: سمعت يحيى بن معين يقول: "العلاء بن عبد الرحمن ليس بذاك، لم يزل الناس يَتَقون حديثه".
  وقال عبد الرحمن: سألت أبى عن العلاء بن عبد الرحمن؟ فقال :صالح، قلت فهو أوثق أو العلاء بن المسيب؟ فقال العلاء بن عبد الرحمن عندي اشبه.

  وقال: "سُئل أبو زرعة عن العلاء بن عبد الرحمن، فقال: ليس هو بأقوى ما يكون".
  وقال: قيل لأبي: ما قولك في العلاء بن عبد الرحمن؟ قال: روى عنه الثقات، وأنا أنكر من حديثه أشياء.[3]

  وقال الإمام العجلي في ثقاته: "
العلاء بن عبد الرحمن مولى الحرقة، مدني تابعي ثقة".[4]
   وزاد
الإمام أبو الحجاج المزي في ترجمته:
 "قال النسائي: "ليس به بأس".
    وقال أبو أحمد بن عدي: "وللعلاء نسخ عن أبيه عن أبي هريرة يرويها عنه الثقات وما أرى به بأسًا".
   وذكره ابن حبان في كتاب الثقات، وقال محمد بن سعد :قال محمد بن عمر: "وصحيفة العلاء بالمدينة مشهورة، وكان ثقة كثير الحديث ثبتًا، وتوفي في أول خلافة أبي جعفر".[5]

  وقال أبو يعلى الخليلي في الإرشاد: "العلاء بن عبد الرحمن بن يعقوب مولى الحرقة: مديني مُختلف فيه؛ لأنه يَتفرد بأحاديث لا يُتابع عليها، كحديثه عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا كان النصف من شعبان فلا صوم حتى رمضان»؛ وقد أخرج مسلم في الصحيح المشاهير من حديثه, دون هذا, والشواذ".[6]
وقال أبو الفرج ابن الجوزي: "العلاء بن عبد الرحمن بن يعقوب مولى الحرقة، قال أحمد: لم يُسمع أحدًا ذكره بسوء، وقال يحيى: ليس حديثه بحجة مضطرب الحديث، لم يزل الناس يَتَقون حديثه، وقال مرة: ليس بالقوي، وقال ابن عدي: ما أرى بحديثه بأسًا".[7]
  وذكره الذهبي في المغني في الضعفاء، فقال: " العلاء بن عبد الرحمن مولى الحرقة، صدوق مشهور، قال ابن عدي: ما أرى بحديثه بأسًا، وقال أبو حاتم: صالح الحديث أُنكر من حديثه أشياء".[8]
وقال في ترجمته في سير أعلام النبلاء: "لا ينزل حديثه عن درجة الحسن، لكن يُتجنب ما أنكر عليه... ومن أغرب ما أتى به عن أبيه، عن أبي هريرة، مرفوعًا: «إذا انتصف شعبان، فلا تصوموا...» الحديث.

توفي العلاء: سنة ثمان وثلاثين ومائة".[9]
قلت: واتفقت كلمة البدر العيني وابن حجر العسقلاني على أنه: "صدوق ربما وهم".[10]

4 ـ خلاصة الترجمة.
فترجمة العلاء -رحمه الله- عند تأمل كلام العلماء نجدهم اتفقوا فيها على أشياء، منها:
  1- أنه كان يُحدث من صحيفة، كان أهل الحديث يَنتقون منها، فلم يكونوا يكتبون حديثه على الوجه، ولهذا كان يَنكر عليهم كما قال الإمام مالك، فكان يقول: "إما أن تأخذوها جميعًا، وإما أن تدعوها جميعًا".
  2- أنه مأمون الحديث، لم يُذكر بسوء كما قال الإمام أحمد، ولهذا حدث عنه الثقات الكبار مثل: الإمام مالك، وسفيان بن عيينة، وابن جريج، وغيرهم.
  3- إلا أن نقاد الحديث كانوا يَتقون بعض حديثه كما أخبر يحيى بن معين وأبو حاتم الرازي.
  4- ولهذا اختلفت كلمة العلماء فيه كما قال الخليلي في الإرشاد، مع اتفاقهم على أنه لا بأس بحديثه ما لم يُغرب.

  والإغراب عند العلماء يدخل فيه التفرد، كما يدخل فيه مخالفة من هو أوثق منه، وربما عبروا عنه بالنكارة أو الشذوذ وهما من علل الحديث التي تكون سببًا في رده.
  5 - مَثَل الخليلي والذهبي لغريب حديث العلاء، بحديث : «إذا انتصف شعبان، فلا تصوموا».
  6- ونبه الإمام الخليلي أن الإمام مسلم مع أنه خرج أحاديث في صحيحه من صحيفة العلاء، غير أنه تجنب منها الشواذ كحديث انتصاف شعبان.
  7- وقد أحسن الحافظ ابن حجر والبدر العيني في تلخيص ترجمة العلاء في كلمة مختصره، وهي : "صدوق ربما وهم".
8 ـ فحديث العلاء لا يَنزل عن رتبة الحسن كما قال الذهبي -عليه الرحمة-  ، وهي رتبة الراوي الصدوق.
 ولأنه يَهم.. كان أصحاب الحديث يَتقون بعض حديثه، ولهذا ذهب نقاد الحديث إلى طرح غريب حديثه.
فيكون حديثه مقبولًا صالحًا، إلا ما أُنكر منه.
  9ـ وفي ضوء هذا يُفهم معنى كلمة أبي زرعة فيه: "ليس هو بأقوى ما يكون"، وقول ابن معين: "ليس بالقوي".
فإن هذا الحرف يُعبر به العلماء عن حال الراوي الذي بحديثه شيء من الغلط والنكارة، فيقولون عنه: تَعرف وتُنكر.
   يعني يروي أحاديث معروفة محفوظة، كما يروي أيضًا أحاديث غرائب منكرة.
ويقولون عنه أيضًا: "ليس بالقوي"، يعني ليس هو بقوة الحفاظ الأثبات، فهو ليس بذاك القوي.

  وهذا الحرف يختلف عن قولهم: "ليس بقوي" فهذه تضعيف مطلق، إذ أنه نفي عن قوة الراوي بالكلية، بخلاف الكلمة الأولى، فانتبه!.

خامسا: حكم العلماء على الحديث:
1 ـ قول الإمام أحمد بن حنبل -رحمه الله- :
  ـ قال أبو أحمد بن عدي: "سمعت أحمد بن حفص السعدي يقول: قيل لأحمد بن حنبل -رحمة الله عليه-، -يعني: وهو حاضر- حديث أبي هريرة «إذا كان النصف من شعبان فلا يصوم أحد حتى يصوم رمضان»، قال: ذاك أي ضعيف؛ ثم قال: حديث العلاء كان يرويه وكيع عن أبي العميس، عن العلاء؛ وابن مهدي كان يرويه ثم تركه، قيل عمن كان يرويه قال عن زهير، ثم قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصوم شعبان يصله برمضان.".[11]
  ـ وقال ابن أبي يعلى-رحمه الله-: قال أحمد في رواية محمد بن يحيى الكحال:"هذا الحديث العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- «إذا كان النصف من شعبان فلا تصوموا»، ليس هو محفوظ. والمحفوظ الذي يروى عن أبي سلمة عن أم سلمة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : « كان يصوم شعبان ورمضان ».[12]
  ـ وقال الإمام أبو داود: سمعت أحمد، ذكر حديث العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا دخل النصف من شعبان أمسك عن الصوم» , فقال: كان عبد الرحمن بن مهدي لم يحدثنا به، لأن عن النبي صلى الله عليه وسلم خلافه، يعني: حديث عائشة، وأم سلمة: «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصوم شعبان» .

  قال أحمد: هذا حديث منكر، يعني: حديث العلاء هذا". [13]

  وقال الزيلعي -رحمه الله-: "وروي عن الإمام أحمد رضي الله عنه أنه قال: هذا الحديث ليس بمحفوظ، قال: وسألت عنه ابن مهدي فلم يصححه: ولم يحدثني به، وكان يتوقاه، قال أحمد: والعلاء ثقة، لا يُنكر من حديثه إلا هذا".[14]

2 ـ قول أبي زرعة الرازي-رحمه الله-:

قال البرذعي -رحمه الله-: "وشهدت أبا زرعة يُنكر حديث العلاء بن عبد الرحمن «إذا انتصف
شعبان»،
وزعم أنه منكر".[15]
3 ـ قول يحيى بن معين-رحمه الله-:
  قال ابن حجر-رحمه الله-: "وقال جمهور العلماء يجوز الصوم تطوعًا بعد النصف من شعبان، وضعفوا الحديث الوارد فيه؛ وقال أحمد وبن معين: إنه منكر".[16]
4 ـ قول أبي داود -رحمه الله-:
  قال في سننه عقب الحديث: " وكان عبد الرحمن، لا يحدث به، قلت لأحمد: لم قال؟ لأنه كان عنده، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصل شعبان برمضان، وقال: عن النبي صلى الله عليه وسلم خلافه"، قال أبو داود: "وليس هذا عندي خلافه، ولم يجئ به غير العلاء، عن أبيه". اهـ
  قلت: وعبد الرحمن هو ابن مهدي، إمام الصنعة، قال علي بن المديني : كان يحيى بن سعيد أعلم بالرجال، وكان عبد الرحمن أعلم بالحديث، وما شبهت علم عبد الرحمن بالحديث إلا بالسحر.
  وقال أيضًا: والله لو أُخذت فحُلِّفت بين الركن والمقام لحلفت بالله أني لم أر أحدًا قط أعلم بالحديث من عبد الرحمن بن مهدي.

ـ وقال أبو داود: "سهيل أعلى عندنا من العلاء، أنكروا على العلاء صيام شعبان"؟
قال ابن حجر: "يعني حديث إذا انتصف شعبان فلا تصوموا".[17]
5- قول الترمذي -رحمه الله- :
 قال في جامعه عقب الحديث: "حديث أبي هريرة حديث حسن صحيح، لا نعرفه إلا من هذا الوجه على هذا اللفظ". اهـ
6- قول النسائي -رحمه الله-:

  قال في سننه الكبرى عقب الحديث: " لا نعلم أحدًا روى هذا الحديث غير العلاء بن عبد الرحمن". اهـ
7ـ قول أبي عوانة -رحمه الله-:
  بوب له في مستخرجه: "باب بيان النهي عن صوم آخر النصف من شعبان، وبيان الخبر المعارض له المبيح صومه، والخبر المبين فضيلة صومه على صوم سائر الشهور، والدال على توهين الخبر الناهي عن صيامه".
ثم أورد رحمه الله طرق حديث العلاء، والأحاديث الأخرى التي تخالفه.
8 ـ قول الحاكم النيسابوري -رحمه الله- :
  ـ قال في معرفة علوم الحديث : "ذكر النوع الثالث والعشرين من علم الحديث: هذا النوع من هذا العلم معرفة المشهور من الأحاديث المروية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمشهور من الحديث غير الصحيح، فرب حديث مشهور لم يُخرجّ في الصحيح، من ذلك قوله صلى الله عليه وسلم : " ..." , ومنه " إذا انتصف شعبان فلا صيام حتى يجيء رمضان "...، فكل هذه الأحاديث مشهورة بأسانيدها، وطرقها، وأبواب يجمعها أصحاب الحديث، وكل حديث منها تجمع طرقه في جزء أو جزئين، ولم يُخرج في الصحيح منها حرف".[18]
 
  ـ وقال في المدخل: "القسم الرابع من الصحيح المتفق عليه: هذه الأحاديث الأفراد الغرائب التي يرويها الثقات العدول، [أو] تفرد بها ثقة من الثقات، وليس لها طرق مخرجة فى الكتب، مثل حديث العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبى هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قال إذا انتصف شعبان فلا تصوموا حتى يجىء رمضان»، وقد خرج مسلم أحاديث العلاء أكثرها في الصحيح، وترك هذا وأشباهه مما تفرد به العلاء عن أبيه عن أبى هريرة".[19]
9 ـ قول البيهقي -رحمه الله-:  
  بوب في سننه الكبرى: " باب الرخصة في ذلك بما هو أصح من حديث العلاء، قد مضى حديث أبي سلمة عن أبي هريرة في النهي عن التقدم إلا أن يكون صومًا  كان يصومه". اهـ
ثم أورد عدة أحاديث أغلبها في الصحيحين، وستأتي قريبًا -إن شاء الله-.

   قلت: هذه هي أغلب أقول الأئمة حول هذا الحديث -وسيأتي غيرها- ، وقد لخصها الحافظ ابن رجب -رحمه الله- ، فقال: "واختلف العلماء في صحة هذا الحديث ثم في العمل به: فأما تصحيحه فصححه غير واحد منهم: الترمذي وابن حبان والحاكم والطحاوي وابن عبد البر، وتكلم فيه من هو أكبر من هؤلاء وأعلم، وقالوا: هو حديث منكر، منهم: الرحمن بن المهدي والإمام أحمد وأبو زرعة الرازي والأثرم، وقال الإمام أحمد: "لم يرو العلاء حديثًا أنكر منه"، ورده بحديث: «لا تقدموا رمضان بصوم يوم أو يومين»؛ فإن مفهومه جواز التقدم بأكثر من يومين، وقال الأثرم: "الأحاديث كلها تخالفه" يشير كلها تخالفه إلى أحاديث صيام النبي صلى الله عليه وسلم شعبان كله ووصله برمضان ونهيه عن التقدم على رمضان بيومين؛ فصار الحديث حينئذ شاذًا مخالفًا للأحاديث الصحيحة، وقال الطحاوي: هو منسوخ، وحكى الإجماع على ترك العمل به".[20]


خلاصة كلام العلماء:
  فالحديث اختلفوا عليه، فاشتهر القول عن الإمام أحمد أنه حديث منكر غير محفوظ، وكذا حكم عليه بالنكارة الإمام عبد الرحمن بن مهدي، وأبو زرعة الرازي، وحكم عليه بالتفرد النسائي، وكذا أبو داود، ونُقل عنه أنه انكره، ووهاه أبو عوانة، وترجم له ابن خزيمة ولم يسنده، وأعله الأثرم بالمخالفة، وحكم عليه الطحاوي بالنسخ!، وبَين ابن رجب أن مخالفته للأحاديث الصحيحة جعلته شاذًا، وأنكره الذهبي؛ وضعفه غيرهم كما سيأتي.

   وقد صححه الترمذي وابن حبان، وأما الحاكم عليه الرحمة فصححه في علوم الحديث، وجعله مثالًا لغرائب الثقات في المدخل، ولم يستدركه على الشيخين في كتابه.
كما ذهب إلى تصحيحه بعض الفقهاء، ومن المعاصرين الشيخ أحمد شاكر والشيخ الألباني وغيرهما، وقال بعض من صححه: أنه صحيح على شرط مسلم.

  وعليه: ينبغي على طالب الحديث أن ينظر في قرائن الترجيح حتى يقف على حكم يطمئن إليه القلب، ويتدين به.
وهذا ما نحاول توضيحه الآن..
سادسًا: قرائن الترجيح:

  معلوم أن الحق واحد لا يتعدد، فهذا الحديث إما أن يكون قاله الرسول صلى الله عليه وسلم، وإما أن يكون خطأ لا يَصح نسبته إليه.
  ولهذا ينبغي على طالب العلم أن يَبذل قصارى جهده ليتحقق من الصواب، ولا يكتفي بقول: أن هذه مسألة خلافية، أو أن هذا الحديث اختلفوا عليه، ولكن لابد أن يجتهد في فهم حقيقة الخلاف، حتى يكون على بصيرة من دينه، والله المستعان.
   هذا؛ ولو حاولنا النظر في أدلة الفريقين حتى نحاول الترجيح بينهما، سنجد أن من ضعف الحديث، أعله بالتفرد والمخالفة، والتي يُعبرون عنها بالنكارة أو الشذوذ.
    فالإمام عبد الرحمن بن مهدي -رحمه الله- كان يرويه ثم تركه، فمخالفته لحديث : «إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصوم شعبان يصله برمضان».
  وأن هذا الحديث رواته أعلى رتبة ومنزلة من العلاء بن عبد الرحمن، وهو مخرج في الصحيحين

-كما سيأتي- .
    ـ كما أن علماء الحديث والعلل مذهبهم باختصار: "التشدد في أحاديث الأحكام، والتساهل في أحاديث الترغيب والترهيب والتاريخ".
  فلا يقبلون أحاديث الأحكام والحلال والحرام إلا من الحفاظ الأثبات، أما بعيدًا عن أحاديث الأحكام فيقبلون رواية الصدوق وخفيف الضبط ما لم يُغرب أو يأتي بمنكر.

  ـ وانكار الإمام أحمد للحديث، وقوله: أنه ليس محفوظ؛ لأن المحفوظ عنده هو الذي يروى عن أبي سلمة عن أم سلمة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : « كان يصوم شعبان ورمضان».

  ـ أما أبو داود فلم يوافق عبد الرحمن بن مهدي من أنه يخالف حديث وصل صيام شعبان برمضان، فقال: "وليس هذا عندي خلافه "، كأنه قال أنه من الممكن الجمع بينهما، والله أعلم.
   ثم قال: "ولم يجئ به غير العلاء، عن أبيه" اهـ، فذكر التفرد هنا، والتفرد من أسباب العلة، لأنه لا يُقبل من أي أحد.
   فيقال مثلًا: أين باقي أصحاب أبي هريرة-رضي الله عنه- من هذا الحديث؟ وهو حديث يترتب عليه حكم في الشريعة يحتاج الناس إليه.
كما نقل أبو داود إنكار العلماء لحديث العلاء.

  ـ وكذا قال النسائي -رحمه الله- : " لا نعلم أحدًا روى هذا الحديث غير العلاء بن عبد الرحمن".
فذكر التفرد أيضًا.
  ـ وقال الأثرم -رحمه الله- :"الأحاديث كلها تخالفه".
قال ابن رجب -رحمه الله- معقبًا على كلمته هذه: " كلها تخالفه، يشير إلى أحاديث صيام النبي صلى الله عليه وسلم شعبان كله ووصله برمضان ونهيه عن التقدم على رمضان بيومين فصار الحديث حينئذ شاذا مخالفا للأحاديث الصحيحة ".[21]
قلت: وقد مر حكم أبو زرعة على الحديث بالنكارة، ووافقهم ابن طاهر المقدسي في ذخيرة الحفاظ بعد أن ساق طرق حديث العلاء وحكم على بعض رجالها، ثم قال: "وهذا منكر".[22]

وكما مر حكم عليه بالنكارة أيضا "عفان بن مسلم" كما نقله عنه أبو عوانة في مستخرجه، وجعل أبو عوانة الأحاديث الصحيحة سببًا في توهين خبر العلاء.
وقال الحوت البروتي -رحمه الله-: "رواه الأربعة وغيرهم بألفاظ مختلفة، وفيه مقال".[23]


   هذا؛ وحتى تُفهم المسألة بفهم هؤلاء العلماء نسوق الأحاديث الصحيحة في الباب، فالأمر كما قال إمام علل الحديث "علي بن المديني" -رحمه الله- : "الباب إذا لم تجمع طرقه لم يتبين خطؤه".
وقال ابن المبارك -رحمه الله-: "إذا أردت أن يصح لك الحديث فاضرب بعضه ببعض".
وقال الخطيب البغدادي: "والسبيل إلى معرفة علة الحديث أن يجمع بين طرقه، ويُنظر في اختلاف رواته، ويعتبر بمكانهم من الحفظ ومنزلتهم من الإتقان والضبط".

  ـ روى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال : «لا يتقدمن أحدكم رمضان بصوم يوم أو يومين، إلا أن يكون رجل كان يصوم صومه، فليصم ذلك اليوم ».
   ـ وروى البخاري من حديث أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- أنها قالت: «لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يصوم شهرًا أكثر من شعبان، فإنه كان يصوم شعبان كله».
   ـ وعند مسلم في صحيحه أن أبا سلمة بن عبد الرحمن قال: سألت عائشة رضي الله عنها، عن صيام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: «كان يصوم حتى نقول: قد صام ويفطر حتى نقول: قد أفطر، ولم أره صائمًا من شهر قط، أكثر من صيامه من شعبان كان يصوم شعبان كله، كان يصوم شعبان إلا قليلًا».
   ـ وروى ابن خزيمة في صحيحه، أن عائشة قالت: «كان أحب الشهور إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصومه شعبان, ثم يصله برمضان» .
  ـ وعند أحمد في مسنده بسند صحيح عن أم سلمة، قالت : «ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صام شهرين متتابعين، إلا أنه كان يصل شعبان برمضان"».
ـ وروى البخاري ومسلم من حديث عمران بن حصين رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال له - أو لآخر - : «أصمت من سَرَرِ شعبان؟ » قال : لا، قال : «فإذا أفطرت، فصم يومين».
   قلت: اختلفوا في معنى سرر الشهر، فقالوا أوسطه، وقالوا أخره.
ولعل أخر الشهر أقرب وأصح، لأنه أمره أن يصوم بدلًا عنهما يومين من شوال، وهذا معناه أنه دخل عليه صيام رمضان.
   قال ابن حبان في صحيحه عقب الحديث: "قوله صلى الله عليه وسلم: «أصمت من سرر هذا الشهر»، لفظة استخبار عن فعل مرادها الإعلام بنفي جواز استعمال ذلك الفعل المستخبر عنه كالمنكر عليه لو فعله، وهذا كقوله صلى الله عليه وسلم لعائشة : «أتسترين الجدار؟»، أراد به الإنكار عليها بلفظ الاستخبار، وأمره صلى الله عليه وسلم بصوم يومين من شوال، أراد به أنها السرار، وذلك أن الشهر إذا كان تسعًا وعشرين يستتر القمر يومًا واحدًا ، وإذا كان الشهر ثلاثين يستتر القمر يومين، والوقت الذي خاطب صلى الله عليه وسلم بهذا الخطاب يشبه أن يكون عدد شعبان كان ثلاثين من أجله أمر بصوم يومين من شوال". اهـ
   وقال الطحاوي عقب الحديث في معاني الآثار: "وهذا في آخر شعبان، ففي هذه الآثار من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته ما قد وافق فعله".
   وقال البيهقي في معرفة السنن: «صوموا الشهر وسرره»، وإنما أراد بالشهر الهلال، وأراد بالسرر آخر الشهر، فكأنه استحب صوم أول الشهر وآخره، فمن كره صوم يوم الشك حمل ذلك على أنه علم ذلك من عاداته، أو أراد اليوم الذي يستسر فيه القمر قبل يوم الشك. وقد قيل:
 أراد بالسرر: وسط الشهر، وسَرَر كل شيء جوفه، فكأنه أراد أيام البيض، والله أعلم . اهـ
   ـ وعند البخاري ومسلم، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعبد الله بن عمرو رضي الله عنهما:

«صم من الشهر ثلاثة أيام»، قال: أطيق أكثر من ذلك، ... فقال : «فصم صوم داود عليه السلام، صم يومًا وأفطر يومًا».

  ـ وروى البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها، قالت: « كان يكون علي الصوم من رمضان، فما أستطيع أن أقضيه إلا في شعبان»، قال يحيى بن سعيد القطان: "الشغل من رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو برسول الله صلى الله عليه وسلم".

  ـ وعند ابن أبي شيبة في مصنفه موقوفًا على ‏أبي هريرة، قال: «نهى أن يتعجل قبل رمضان بيوم ، أو يومين». وإسناده صحيح.

  ـ وعند البخاري موقوفًا على عمار بن ياسر -رضي الله عنه-، قال: «من صام يوم الشك فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم».

  قلت: والأحاديث كثيرة في هذا الباب، وما ذكر فيه كفاية لتصور المسألة، وفهم كيف أن حديث نهي الصيام بعد نصف شعبان يخالف هذه الأحاديث، والتي غالبها مخرجة في الصحيحين.
    هذا؛ وحتى أن شذوذ ونكارة حديث العلاء مشهور جدًا عند العلماء لدرجة أنهم يمثلون به في كتب المصطلح للحديث الشاذ.
قال العلامة محمد صالح العثيمين -رحمه الله-:
   "الحديث الشاذ هو: الذي يرويه الثقة مخالفًا لمن هو أرجح منه، إما في العدد، أو في الصدق، أو في العدالة. فإذا جاء الحديث بسند متصل لكنه شاذ، بحيث يكون مخالفًا لرواية أخرى، هي أرجح منه، إما في العدد، وإما في الصدق، وإما في العدالة؛ فإنه لا يُقبل ولو كان الذي رواه عدلًا، ولو كان السند متصلًا، وذلك من أجل شذوذه.
   مثاله: ما ورد في السنن أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الصيام إذا انتصف شعبان، والحديث لا بأس به من حيث السند، لكن ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيحين أنه قال: «لا تقدموا رمضان بصوم يوم ولا يومين إلا رجل كان يصوم صومًا فليصمه» فإذا أخذنا بالحديث الثاني الوارد في الصحيحين قلنا إن فيه دلالة على أن الصيام بعد منتصف شعبان جائز، وليس فيه شيء، لأن النهي حدد بما قبل رمضان بيوم أو يومين، وإذا أخذنا بالأول فنقول إن النهي يبدأ من منتصف شعبان، فأخذ الإمام أحمد بالحديث الوارد في الصحيحين وهو النهي عن تقدم رمضان بصوم يوم أو يومين، وقال إن هذا شاذ، يعني به حديث السنن، لأنه مخالف لمن هو أرجح منه إذ أن هذا في الصحيحين وذاك في السنن".[24]
 
  قلت: فهذه الذي مر ذكره هو في المجمل أدلة من ضعف الحديث.
  ـ أما من قال بصحته كالإمام الترمذي وابن حبان، فلما يذكرا أدلة التصحيح، غير أنه يفهم أنهما صححاه لسلامة سنده من الضعفاء وأنه ليس فيه انقطاع أو علة إسنادية.
  وهذا حق لا مرية فيه، فالحديث من جهة السند لا بأس به كما قال العلامة العثيمين؛ بيد أن العلماء يذكرون أن من شروط الحديث الصحيح أيضًا عدم الشذوذ والعلة، وهذا الحديث قد أعل بالشذوذ والنكارة.
  ـ وهناك من دفع علة التفرد ممن صححوا الحديث بحجة أن التفرد ليس علة قادحة في هذا الحديث؛ إذ أن العلماء قبلوا رواية العلاء بن عبد الرحمن، وأنه إن كانت زيادة الثقة مقبولة عند العلماء، فتفرد الثقة أيضًا مقبول.
   قلت: الاستدلال بالقواعد الأصولية في تحقيق الأحاديث من الخلل المنهجي الذي يحدث بسببه فجوة بين التطبيق والتنظير، كما أنه من أسباب الخلاف بين منهج الفقهاء ومنهج المحدثين.
فنجد بعض الفقهاء في كتبهم يصححون أحاديثًا ويرتبون عليها أحكامًا، وهي عند المحدثين بواطيل وأوهام.
ثم ينشأ بينهم ما يعرف بالجمع بين الأدلة، وأن الإعمال أولى من الإهمال.

  أو يأتي الواحد منهم بحكم ينفرد به، كما مر كلام الطحاوي الإمام أن الحديث منسوخ، وذلك لأنه أراد رد هذا الحديث المُشكل المخالف للأحاديث الأخرى الصحاح.
  ومن نظر في كتب ابن حزم -رحمه الله- يجد أن سبب كثير من المسائل التي يُغرب فيها، تصحيحه للأحاديث بالقواعد الأصولية كقبول زيادة الثقة، ووصل ما حقه الوقف، وهكذا..    
   والأمر عند علماء الحديث ليس بهذه الصورة، فليست زيادة الثقة عندهم مقبولة بإطلاق، ولا تفرد الثقة يُقبل من أي أحد.
    كما أن لهم ذوق خاص في الأحاديث من كثرة الممارسة، وهو ما يُعرف بالمَلكة، والمَلكة بعضها من العلم المكتسب من كثرة المزاولة كما عرفها ابن خلدون.
   فإن نصوا على علة حديث فيسلم لهم، ولا يشغب عليهم بقواعد أصولية هم أعلم بها من غيرهم.

  كما أنه من الممكن أن يُقال في هذا المقام: إن هذا السند الذي ظاهره الصحة، واستدل به من استدل على صحة الحديث، هو بعينة لا يُقبل به أحاديث أخرى.
   فهذا الحاكم -رحمه الله- صحح حديث العلاء خارج المستدرك، وصحح للعلاء في مستدركه بنفس سلسلة الرجال عن مسلم بن خالد الزنجي، عن العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: " إني أريت في منامي كأن بني الحكم بن أبي العاص ينزون على منبري كما تنزو القردة " قال : فما رئي النبي صلى الله عليه وسلم مستجمعًا ضاحكًا حتى توفي ". الحديث.
   قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه.
  قلت: فهل يَشفع لنكارة متن هذا الحديث حسن سنده وتصحيح الحاكم له؟
  فهذا من هذا، فنكارة المتن معتبرة عند العلماء يُعلّون بها الأحاديث وإن كان ظاهر سندها الصحة أو الحسن.

  ـ كما أن بعض من صححه الحديث قال أنه على شرط مسلم؛ إذ أخرج أحاديث كثيرة بهذا السند في صحيحه.

    قلت: وهذا أيضًا مما يحتاج إلى بيان وتوضيح، فالقول أن البخاري أو مسلمًا إن أخرجا أحاديث راوي بعينه، أو مجموعة من الرواة، فإن اتفقوا في حديث خارج الصحيحين، فهل يقال ساعتئذ أن هذا الحديث على شرط البخاري، أو على شرط مسلم، أو على شرطهما؟.
  وجواب ذلك مختصرًا: إن إخراج الحديث عندهما له أصول التزما بها، فربما يخرجان للراوي عن شيخ دون شيخ، أو يخرجان له أحاديث أهل بلده فقط، لأنه في غيرهم ضعيف، أو يخرجان له في الشواهد والمتابعات، أو كما يفعل الإمام مسلم بإخراج أحاديث لرواة فيهم بعض الكلام طلبًا للعلو، وذلك لأن الحديث محفوظ مشهور من غير طريقهم، فيَترك حديث الثقة الثبت ويخرج رواية الصدوق الذي يَهم لأن سنده أعلى، وهكذا...
   هذا؛ وقد نبه العلماء على أنه لا يُنسب شرط البخاري أو مسلم لما خارج الصحيحين لأنهما كانا ينتقيان الأحاديث.
  قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "وأما شرط البخاري ومسلم, فلهذا رجال يروي عنهم يختص بهم, ولهذا رجال يروي عنهم يختص بهم, وهما مشتركان في رجال آخرين, وهؤلاء الذين اتفقا عليهم مدار الحديث المتفق عليه. وقد يروي أحدهم عن رجل في المتابعات والشواهد دون الأصل, وقد يروي عنه ما عُرف من طريق غيره ولا يَروي ما انفرد به, وقد يترك من حديث الثقة ما علم أنه أخطأ فيه, فيظن من لا خبرة له أن كل ما رواه ذلك الشخص يحتج به أصحاب الصحيح, وليس الأمر كذلك, فإن معرفة علل الحديث علم شريف يعرفه أئمة الفن, كيحيى بن سعيد القطان, وعلي بن المديني, وأحمد بن حنبل, والبخاري صاحب الصحيح, والدارقطني وغيرهم, وهذه علوم يعرفها أصحابها. والله أعلم".[25]

وقال ابن عبد الهادي -رحمه الله- كلامًا نفيس جدًا في هذا الباب، قال: " فقد تبين أن هذا الحديث الذي تفرد به أبو صخر عن ابن قسيط عن أبي هريرة لا يخلوا من مقال في إسناده، وإنه لا ينتهي به إلى درجة الصحيح .

  وقد ذكر بعض الأئمة أنه على شرط مسلم، وفي ذلك نظر، فإن ابن قسيط، وإن كان مسلم قد روى في صحيحه من رواية أبي صخر عنه، لكنه لم يخرج من روايته عن أبي هريرة شيئًا، فلو كان قد أخرج في الأصول حديثًا من رواية أبي صخر، عن ابن قسيط عن أبي هريرة أمكن أن يُقال في هذا الحديث : أنه على شرطه .
   واعلم أن كثيرًا ما يروي أصحاب الصحيح حديث الرجل عن شيخ معين
لخصوصيته به ومعرفته بحديثه وضبطه له، ولا يخرجون من حديثه عن غيره لكونه غير مشهور بالرواية عنه، ولا معروف بضبط حديثه، أو لغير ذلك، فيجيء من لا تحقيق عنده، فيرى ذلك الرجل المخرج له في الصحيح
   قد روى حديثًا عمن خرّج له في الصحيح من غير طريق ذلك الرجل، فيقول : هذا على شرط الشيخين، أو على شرط البخاري، أو على شرط مسلم، لأنهما احتجا بذلك الرجل في الجملة.

وهذا فيه نوع تساهل، فإن صاحبي الصحيح لم يحتجا به إلا في شيخ معين لا في غيره، فلا يكون على شرطهما، وهذا كما يخرّج البخاري ومسلم حديث خالد بن مخلد القطواني عن سليمان بن بلال، وعلي بن مسهر وغيرهما، ولا يخرجان حديثه عن عبد الله بن المثنى؛ وإن كان البخاري قد روى لعبد الله بن المثنى من غير رواية خالد عنه .
  فإذا قال قائل في حديثه عن عبد الله بن المثنى: هذا على شرط البخاري كما قاله بعضهم في حديثه عنه عن ثابت البنائي عن أنس بن مالك قال: «أول ما كرهت الحجامة للصائم أن جعفر بن أبي طالب احتجم وهو صائم، فمر به النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أفطر هذا»، ثم رخص النبي بعد في الحجامة للصائم، وكان أنس يحتجم وهو صائم، كان في كلامه نوع مساهلة ، فإن خالدًا غير مشهور بالرواية عن عبد الله بن المثنى .

  والحديث فيه شذوذ وكلام مذكور في غير هذا الموضع، وكما يخرج مسلم حديث حماد بن سلمة عن ثابت في الأصول دون الشواهد، ويخرج حديثه عن غيره في الشواهد، ولا يخرج حديثه عن عبد الله بن أبي بكر بن أنس بن مالك وعامر الأحوال وهشام بن حسان وهشام بن زيد بن أنس بن مالك وغيرهم؛ وذلك لأن حماد بن سلمة من أثبت من روى عن ثابت، أو أثبتهم، قال يحيى بن معين: "أثبت الناس في ثابت البنائي حماد بن سلمة" .

  وكما يخرج مسلم أيضًا حديث سويد بن سعيد، عن حفص بن ميسرة الصنعاني، مع أن سويدًا ممن كثر الكلام فيه واشتهر، لأن نسخة حفص ثابتة عن مسلم من طريق غير سويد لكن بنزول، وهي عنده من رواية سويد بعلو؛ فلذلك رواها عنه، قال إبراهيم بن أبي طالب: قلت لمسلم: كيف استخرجت الرواية عن سويد في الصحيح؟ فقال : ومن أين كنت أتى بنسخه حفص بن ميسرة؟ فليس لقائل أن يقول في كل حديث، رواه سويد بن سعيد عن رجل روى له مسلم من غير طريق سويد عنه، هذا على شرط مسلم فاعلم ذلك ...
  وهكذا عادة مسلم غالبًا إذا روى لرجل قد تكلم فيه ونسب إلى ضعف وسوء حفظه وقلة ضبطه، إنما يروي له في الشواهد والمتابعات، ولا يخرج له شيئًا انفرد به ولم يتابع عليه.

فعُلم أن هذا الحديث الذي تفرد به أبو صخر، عن ابن قسيط عن أبي هريرة لا ينبغي أن يقال هو على شرط مسلم ...، والله أعلم".[26]

   وقال الحافظ ابن حجر -رحمه الله- في النكت وهو يتكلم عن مستدرك الحاكم: "
القسم الثاني: أن يكون إسناد الحديث قد أخرجا لجميع رواته لا على سبيل الاحتجاج بل في الشواهد والمتابعات والتعاليق أو مقرونًا بغيره. ويلحق بذلك ما إذا أخرجا لرجل وتجنبا ما تفرد به أو ما خالف فيه. كما أخرج مسلم من نسخة العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه- ما لم يتفرد به.

  فلا يَحسن أن يقال إن باقي النسخة على شرط مسلم؛ لأن ما خرج بعضها إلا بعدما تَبين له أن ذلك مما لم ينفرد به. فما كان بهذه المثابة لا يلحق أفراده بشرطهما".[27]

  قلت: وقد مر بنا في ثنايا البحث قول أبي عبد الله الحاكم: "القسم الرابع من الصحيح المتفق عليه: هذه الأحاديث الأفراد الغرائب التي يرويها الثقات العدول، [أو] تفرد بها ثقة من الثقات، وليس لها طرق مخرجة فى الكتب، مثل حديث العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبى هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قال إذا انتصف شعبان فلا تصوموا حتى يجىء رمضان»، وقد خرج مسلم أحاديث العلاء أكثرها في الصحيح، وترك هذا وأشباهه مما تفرد به العلاء عن أبيه عن أبى هريرة".[28]
  وتابعه عليه تلميذه أبو يعلى الخليلي، فقال: " العلاء بن عبد الرحمن ... مختلف فيه؛ لأنه يَتفرد بأحاديث لا يُتابع عليها، كحديثه عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا كان النصف من شعبان فلا صوم حتى رمضان»؛ وقد أخرج مسلم في الصحيح المشاهير من حديثه
دون هذا, والشواذ".[29]
    كما تبعهما عليه السيوطي -رحمه الله- في البحر، فقال: " الأحاديث الأفراد الغرائب التي يتفرد بها ثقة من الثقات، كحديث: العلاء عن أبيه عن أبي هريرة في "النهي عن الصوم إذا انتصف شعبان"، تركه مسلم لتفرد العلاء به، وقد أخرج بهذه النسخة أحاديث كثيرة".[30]

قلت:
  فلعله ظهر بعد هذا الاسترسال حقيقة الخلاف ومواطن النزاع، ومسالك العلماء، وأن لهذا العلم أصولًا من تعلمها وتمسك بها وأخلص لله، أخرجه الله من الحيرة والشتات، ووفق لفهم ما أصاب فيه العلماء، واعتذر لمن جانبه الصواب منهم، وتأول له، فأهل السنة يعلمون الحق ويرحمون الخلق.
   هذا؛ وأختم بكلمة جامعة لشيخ الإسلام ابن تيمية تظهر موطن النزاع في الأحاديث المختلف في صحتها، وإن كان كلامه حول أحاديث الأحاد، قال -رحمه الله- :
   "والناس في هذا الباب طرفان: طرف من أهل الكلام ونحوهم ممن هو بعيد عن معرفة الحديث وأهله، لا يميز بين الصحيح والضعيف، فيشك في صحة أحاديث أو في القطع بها مع كونها معلومة مقطوعًا بها عند أهل العلم به.
   وطرف ممن يَدعي اتباع الحديث والعمل به، كلما وجد لفظًا في حديث قد رواه ثقة أو رأى حديثًا بإسناد ظاهره الصحة يريد أن يجعل ذلك من جنس ما جزم أهل العلم بصحته، حتى إذا عارض الصحيح المعروف، أخذ يتكلف له التأويلات الباردة، أو يجعله دليلًا له في مسائل العلم، مع أن أهل العلم بالحديث يعرفون أن مثل هذا غلط".[31]
والله أسأل أن يكون هذا العمل خالصًا صوابًا، وأن ينفع به.
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

وكتب.
أبو صهيب وليد بن سعد
القاهرة 25 / شعبان / 1445
6 / 3 / 2024


[1] : ذهب ابن القطان الفاسي في كتابه بيان الوهم والإيهام ( 2 / 187 ) إلى أن هذا الاختلاف غيّر المعنى، وصحح رواية النسائي.

[2] : طبقات ابن سعد، ترجمة: 235 بتصرف يسير

[3]: الجرح والتعديل (1974) بتصرف يسير.

[4] : معرفة الثقات (1282).

5: تهذيب الكمال ( 4577) بتصرف؛ وقد وهم المزي -رحمه الله- فأدخل في اخر ترجمة العلاء بعد وفاته، ترجمة أبيه رحمهما الله.

[6]: الإرشاد في معرفة علماء الحديث ( 1 / 218 : 219).

[7] : الضعفاء والمتروكين، رقم : (2344).

[8] : المغني في الضعفاء (4184).

[9] : السير ( 6 / 186) ط / الرسالة.

[10] : انظر مغاني الأخيار للعيني (362)، وتقريب التهذيب لابن حجر (5247).

[11] - الكامل في الضعفاء لابن عدي ( 4 / 178 )، تاريخ دمشق لابن عساكر ( 19 / 123 ).

[12] طبقات الحنابلة ( 1 / 328 ).

[13] : مسائل الإمام أحمد رواية أبي داود السجستاني ( 2002 ).

[14] : نصب الراية (2 / 441 ).

[15] : أجوبة أبي زرعة على سؤالات البرذعي ( 2 / 388 ).

:[16] فتح الباري ( 4 / 129 ). وفي النفس من نقل حكم ابن معين على هذا الحديث شيء، إذ لم أقف عليه في كتب المتقدمين، فلعله وهم دخل على الحافظ رحمه الله.

 والصحيح أن أبا عوانة ذكر ابن معين نقل عن عفان بن مسلم الصفار انكاره للحديث بلفظ: " إذا كان النصف من شعبان فلا تصوموا، ومن كان عليه صوم من رمضان فليسرد الصوم فلا يقطع"، وهذا الزيادة التي فيها سرد الصيام تفرد بها " عبد الرحمن بن إبراهيم "، وهو ضعيف. والله أعلم.

[17]: تهذيب التهذيب ( 8/ 187).

[18] : معرفة علوم الحديث ص / 92.

[19]: المدخل إلى الإكليل ص / 39

:[20] لطائف المعارف ( ص 135 : 136 ) ط / ابن حزم.

[21] : لطائف المعارف ص / 136.

[22] : ذخيرة الحفاظ، رقم: 227 .

[23] : أسنى المطالب في أحاديث مختلفة المراتب ص / 39.

[24]: شرح البيقونية (ص 28 : 29 )، ينظر أيضًا كلام الشيخ بعد هذا النقل، فإنه مهم، وقد ضرب مثالا أخر بحديث صيام يوم السبت.

[25]: مجموع الفتاوى ( 18 / 42 ) ط. دار الوفاء. الثالثة.

[26] : الصارم المنكي في الرد على السبكي ص ( 194 : 197)، وله كلامًا قريبًا من هذا في تنقيح التحقيق.

[27] النكت على ابن الصلاح ( 1 / 136 ).

[28]: المدخل إلى الإكليل ص / 39

[29]: الإرشاد في معرفة علماء الحديث ( 1 / 218 : 219).

[30]: تدريب الراوي (1 / 154 : 155 )، والبحر الذي زخر في شرح ألفية الأثر ( 2 / 665 ).

[31] : مجموع الفتاوى ( 13 / 353 ).