إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الأربعاء، 8 مايو 2024

من مزالق تحقيق الحديث (الحلقة الأولى)

 

من مزالق تحقيق الحديث

 (الحلقة الأولى)

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد:

   فإن من عظيم لطف الله بهذه الأمة، أن جعل باب خدمة سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم مفتوحًا لمن أراد أن يصيب من هذا الفضل، فلم تتوقف خدمة السنة على زمن الرواية ويكون بذلك استئثار هؤلاء الرواة وأصحاب الكتب والمسانيد بهذا الفضل وحدهم، بل ظل الباب مفتوحًا لمن أراد خدمة السنة، فوجد من بحث وفتش عن حال الرواة، ودون أخبارهم وأحوالهم، ووضع الكتب في أنسابهم ووفياتهم.
   كما وضعت المؤلفات في بيان علل الحديث والكشف عن غوامضه، وكذا ألفت المؤلفات في المصطلح ومعرفة أصول وقواعد التحديث، وغير ذلك مما هو معلوم مشهور..
   ولعل أفضل ما يقوم به من أرد هذا الثواب في هذا العصر الذي نحياه، وأراد حقًا خدمة السنة، هو أن يساهم في بيان درجة الأحاديث من حيث القبول والرد.
   إذ أصبحت الحاجة ملحة لبيان صحة الأحاديث من ضعفها خاصة عند من يتصدر للدعوة أو التصنيف، مع قلة المشتغلين بهذا العلم الشريف.
   غير أن التصحيح والتضعيف باب عَسر لا يَسهل دخوله، إذ لا يكفي فيه تحصيل أصول وقواعد الحديث، بل هو صنعة تحتاج إلى دربه وممارسة طويلة، مع ذوق وملكة خاصة يرزقها المرء، وهذا ما يفسر اختلاف انظار المحدثين، مع أن قواعدهم وأصولهم تكاد تكون واحدة.
  غير أن كلًا منهم يحكم بما عنده من العلم، وما فتح له من الفهم، ثم هو يبرهن في المنتهى على صحة مذهبه[1].
وطالب الحق المتجرد من الهوى يدور مع الحق حيث دار .. فغايته الحق وصحة الدليل.
لأنه يعلم أنه ربما يصيب الصغير ويخطئ الكبير، وربما يُوفق المتأخر عن من تقدمه.
    وما دام الخلاف في دائرة أصول وقواعد هذا العلم، وأن الترجيح في الخلاف يكون وفق فهم الأوائل من أهل هذه الصنعة.. ممن حملوا هذا العلم في صدروهم، وخالطوا رواة الحديث وعرفوا أحوالهم.
   فهم أولى بالاتباع، وأقرب للصواب من غيرهم، فلا يُحاكموا بقواعد جامدة ذكرت في كتب المصطلح، أو جرت على لسان من هو أدني منهم مرتبة، والله المستعان.
   فالشاهد: أن من أراد خدمة السنة وكان أهلًا للنظر في الأحاديث والحكم عليها صحة وضعفًا، ومَن الله -تعالى- عليه بفهم وذوق يستطيع به أن يلج هذا الباب، فعمله هذا من أفضل القربات الآن، والله أعلم.
   هذا؛ ولأن لهذا العلم رحم بين أهله، فهذه بعض المزالق التي وقفت عليها، ورأيت جماعة ممن ولج باب تحقيق الأحاديث وقع فيها، فأردت أن أنبه عليها نصحًا لله ولرسوله ولدينه، فالدين النصيحة. وحتى لا يأثم مسلم وهو يرجو الثواب.
   وقد تحيرت هل الأفضل أن أذكر هذه المزالق في نقاط محددة أم أجعلها مما يستخلصه القارئ من ثنايا الكلام؟
فانتهيت إلى أن أبدأ بسرد الكلام أولًا، ثم جعله في نقاط محددة بعدُ، ولعل هذه الطريقة أولى -بإذن الله- لأنها تعطي القارئ تصورًا عن المسائل محل النقاش، كما أنها ربما تفتح للقارئ من خلال هذا الأسلوب ما لم يخطر على بال المتكلم، والله المستعان.
وكتب
أبو صهيب وليد بن سعد.
القاهرة 25 / شوال / 1445
4 / 5 / 2024

بداية البحث:
   فإن غاية محققي السنة التأكد من صحة المتن وثبوته عن النبي صلى الله عليه وسلم، بيد أنهم يبدأون بالنظر في سند الحديث أولًا، إذ أنه هو الموصل للمتن، فإن صح السند جاء دور الحكم على المتن، ثم الحكم النهائي على الحديث بالقبول أو الرد.
  وسند الحديث هو سلسلة الرجال من رواة السنة الذين حملوا هذا المتن إلينا، فإن كانوا ثقاتًا عدولًا ولم يكن في السند علة، صح هذا السند وقُبل.
والبحث في حال الرواة يتطلب الكشف عن أحوالهم في كتب الرجال..
والعلماء قد وضعوا كتبًا في جرح وتعديل رواة السنة، هذه الكتب منها ما اشتمل على بيان حال الرواة تعديلًا وجرحًا في نفس الكتاب، كالتاريخ الكبير للبخاري، وكتاب الجرح والتعديل لابن أبي حاتم.
   ومنها ما خصت بمن جرح وضُعف فقط، كالضعفاء والمتروكين للنسائي، والمجروحين لابن حبان، والضعفاء لأبي نعيم الاصفهاني.
  ومنها ما وضعت في ثقات الرواة فقط، ككتاب معرفة الثقات للعجلي، وتاريخ أسماء الثقات لابن شاهين
غير أنه قد وجد في الكتب التي اشتملت على الجرح والتعديل معًا رواة لم يُذكر فيهم جرحًا ولا تعديلًا، فيذكرهم ابن أبي حاتم ولا يتكلم عليهم، وكذا البخاري من قبله يذكرهم ويسكت عليهم.
   لأن غرضهم من هذا الصنيع كان ذكر كل أسماء من حَمل هذا العلماء، سواء ذكر العلماء حاله، أو لم يذكروا، فإن سكتوا عنه، وظهر حاله فيما بعد استدركوه.[2]
   فهذه الكتب التي اشتملت على ذكر أحوال الرواة بعموم ككتاب الجرح والتعديل لابن أبي حاتم، ينقسم الرواة فيها إلى رواة وثقوا، ورواة ضعفوا، ورواة اختلفت كلمة العلماء عليهم بين التوثيق والتضعيف[3]، وأخيرًا رواة سكتوا عليهم، فلم يذكر فيهم جرحًا ولا تعديلًا، وذلك لقلة شغل العلماء بحديثهم لندرته، أو أن عامة ما يرونه آثار عن السلف والمرفوع منه قليل جدًا.
   وهذا الصنف منهم من أدخله الإمام ابن حبان في ثقاته، فقد قسم ابن حبان -رحمه الله- الرواة على كتابين، الأول: كتابًا للثقات، والثاني: كتابًا للمجروحين.
  فأدخل بعضًا من القسم الثالث الذين لم يذكر فيهم جرحًا ولا تعديلًا في كتابه الثقات، حمله على ذلك حسن الظن بحملة هذا العلم، خاصة أنه قد مر على هؤلاء الرواة كبار النقاد ممن هم في قامة البخاري وأبي حاتم وأبي زرعة أو من هم أرفع منهم، ومع ذلك لم يذكروا فيهم شيئًا من الجرح؛ فهم مستورين، خاصة إن كان من الطبقات المتقدمة، فهؤلاء يقل فيهم الكذب ويكثر فيهم الصلاح والتقى.
   كما يؤكد أن الأمر ليس بهذا الاطلاق، فلا يُفهم أن كل ما لم يذكر فيه جرح أو تعديل أدخله ابن حبان في كتابه الثقات؛ وإنما نظر في مروياتهم وتأملها، هل هي تشبه أحاديث الثقات؟ وهل انفرد هذا الراوي بسنة أو حكم لا يوجد عند غيره أم لا؟ وهكذا..
  مع الإقرار أن الأمر ليس سهلًا، ولابد أن يشوبه بعض الخلل، فهناك رواة أمرهم مُشكل، فليس لهم إلا الحديث والحديثين، ولا يُستطاع من خلالهما تكوين حكم فاصل، وقد حرم الله أعراض المسلمين، فكيف يتجرأ على رجل منهم فيذكره بجرح ولم يَتبين له حاله.[4]  
   فإذا احتاج المحقق إلى حديث هذا الراوي، خصه بمزيد من الدراسة والبحث، كما ينظر في حديثه في أي باب هو؟ في أحاديث الأحكام فيشدد، أم من الرغائب وفضائل الأعمال فيتساهل فيه؟ وهكذا..
  وهؤلاء الرواة هم في الغالب من أحدث لهم ابن حجر العسقلاني -رحمه الله- مرتبة "المقبول" في كتابه تقريب التهذيب[5]،
   ثم أحب ابن حجر أن يذكر فائدة في التعامل مع أحاديث هذا الصنف من الرواة، وهي قبول حديثهم إن وجد من يتابعهم عليه، فإن وجد من يتابعهم على حديثهم قبلناه، ويكون بذلك حسب أصول الصنعة صحيح لغيره، أو حسن لغيره حسب قوة المتابع، وقد وجد من العلماء من لم يتحرج فأطلق عليه بالصحة أو الجودة أو الحسن. فالأمر محتمل.
  والحق أن ابن حجر قد سبق بهذا، فقد ذُكر قريبًا مما قرره في تقريبه، في الرواة الذين ذكرهم البخاري في تاريخه وسكت عنهم. وهي أن أحاديثهم محتملة.[6]
   غير أن الشق الأخير من كلام ابن حجر -رحمه الله- مُشكل، وهو إنْ لم يتابع المقبول على حديثه، فليّن الحديث.
فإنه لم يقل: إن لم يتابع فيُليّن حديثه، فيكون الكلام هنا على الرواية، وإنما جعل عدم المتابعة تليّن للراوي نفسه!، فقال في المرتبة السادسة من رواة التقريب: " السادسة: مَن ليس له من الحديث إلا القليل، ولم يثبُت فيه ما يُترك حديثه من أجله، وإليه الإشارة بلفظ: مقبول، حيث يتابع، وإلا فَليِّنُ الحديث". اهـ
   وهذا التداخل بين قبول الرواية وتضعيف الراوي إن لم يُتابع على حديثه أوجد لبسًا عند بعض المحققين؛ إذ جعلوا ما قرره ابن حجر في هذا الحرف المختصر أصلًا يتعاملون به مع هذا الصنف من الرواة، والذين هم كُثر .. يتجاوز عددهم في التقريب خمسمائة راوي.
   فالقول بتليّن رواة لم يُعرف عن الأوائل تضعيفهم قولًا يحتاج إلى وقفة وتأمل ممن نحا هذا المنحى.
   نعم؛ يُقبل القول برد رواية هذا الصنف من الرواة إن لم يتابعوا على حديثهم، فهذا معروف عند أهل هذا الشأن، فإنهم لا يَقبلون رواية الصدوق في الأحكام أحيانًا عند التفرد، بل ربما ردوا رواية الثقة واعتبروها وهمًا[7].
   أما أن يُلين الراوي لتفرده، فهذا غريب -إن كان كلامه الحافظ ابن حجر على ظاهره-، والله أعلم.
   وهذا أوجد عند بعض المحققين خطأ منهجيًا، إذ أنهم تعاملوا مع أحاديث كل من قيل فيه "مقبول" في تقريب ابن حجر، أنه إن لم يُتابع على حديثٍ ضُعف -هكذا بإطلاق-، وإن كان هذا الحديث يوافق الأصول، ولا يوجد فيه نكارة، أو أنه طريق جديد محتمل.[8]
وحجتهم في رد الرواية وتضعيف الحديث= تليّن الراوي إذ لم يتابع على حديثه!!.
   واضرب مثالًا تقريبًا للمسألة..
   أخرج ابن حبان في صحيحه، وابن الجارود في المنتقى، وعبد الرزاق في مصنفه، والبخاري في الأدب المفرد مختصرًا واللفظ له، وأبو داود في سننه، والنسائي في الكبرى، وغيرهم من حديث عبد الرحمن بن الصامت، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاء ماعز بن مالك الأسلمي، فرجمه النبي صلى الله عليه وسلم عند الرابعة، فمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه نفر من أصحابه، فقال رجلان منهم: إن هذا الخائن أتى النبي صلى الله عليه وسلم مرارًا، كل ذلك يرده، حتى قُتل كما يُقتل الكلب، فسكت عنهم النبي صلى الله عليه وسلم حتى مر بجيفة حمار شائلة رجله، فقال : " كُلا مِنْ هَذا "، قالا: من جيفة حمار يا رسول الله؟ قال: " فالذي نلتما من عرض أخيكما آنفا أكثر، والذي نفس محمد بيده فإنه في نهر من أنهار الجنة يتغمس". الحديث.
  قلت: هذا الحديث يكاد يكون اتفق أكثر المعاصرين على تضعيفه، بل أنكر أحدهم على الحافظ ابن كثير تصحيحه.
والعلة التي انطلقوا منها هي: أن الذي يرويه عن أبي هريرة ابن عمه عبد الرحمن بن الصامت، ولم يوثقه غير ابن حبان، والذي وهو متساهل في توثيقه (هكذا)!.
كما زعموا أن هذا الراوي مجهولًا لأنه لم يرو عنه غير أبي الزبير المكي.
  قلت: أما القول بجهالته لأنه لم يرو عنه إلا راوي واحد، هو مذهب ينسب لبعض العلماء، قال به الإمام محمد بن يحيى الذهلي -رحمه الله-، فمذهبه اطلاق الجهالة على الراوي إن لم يرو عنه إلا رجل واحد.
  كما يخالفه على مذهبه هذا علماء، فكم من راوي تفرد بالرواية عنه واحد، وحديثه مخرج في الصحيح؟.
وبنظره سريعة في كتب الوحدان والمفاريد يُعلم كمّ الرواة الذين هم على هذا الحال[9].
  وأما ما ذُكروه من تساهل ابن حبان في التوثيق، فقد مر آنفًا الإشارة إلى منهجه، وسيأتي قريبًا بعض التوضيح.
  ونبدأ أولًا بالنظر في حال عبد الرحمن بن الصامت راوي الحديث لنقف على حاله، ونخرج بحكم فاصل يؤهلنا للحكم على حديثه.
  فنجد أنه اختلف في اسمه فقيل: "ابن هضاض" وقيل: "ابن الهضهاض"، وقيل: "ابن الهضاب الدوسي" . كما ذكر ذلك البخاري في تاريخه[10].
   وسبب الاختلاف في اسمه، أن الرواة عن أبي الزبير المكي اختلفوا عليه.
  ـ قال الدارقطني -رحمه الله-: يرويه أبو الزبير، واختلف عنه
فرواه عبد الرزاق، عن ابن جريج، عن أبي الزبير، عن عبد الرحمن بن الصامت ابن عم أبي هريرة.
وخالفه حجاج بن حجاج، وزيد بن أبي أنيسة، فروياه عن أبي الزبير، عن عبد الرحمن بن الهضهاض، عن أبي هريرة.
وقال حماد بن سلمة: عن أبي الزبير، عن عبد الرحمن بن هضهاض، عن أبي هريرة.
وقال حسين بن واقد: عن أبي الزبير، عن عبد الرحمن بن هضاب ابن أخي أبي هريرة، عن أبي هريرة.
وقال بكير بن معروف، وهو خراساني، ليس بالقوي: عن أبي الزبير، عن عبد الرحمن ابن عم أبي هريرة، عن أبي هريرة، ولم ينسبه"[11].
  ـ وقال ابن أبي حاتم : "ابن هضهاض أصح" [12].
  ـ وقال النسائي: "عبد الرحمن بن هضاض ليس بمشهور، وقد اختلف على أبي الزبير، في اسم أبيه"[13] .
  
ـ وقد ذكره ابن حبان في ثقاته [14]، وأخرج حديثه في صحيحه من طريقين.
  ـ وقال ابن القطان الفاسي: لا يُعرف، وجهله الذهبي لأنه لم يرو عنه غير أبي الزبير.
  ـ وقال ابن حجر في تقريبه: "عبد الرحمن بن الصامت، وقيل ابن هضاض وقيل غير ذلك الدوسي ابن عم أبي هريرة، مقبول من الثالثة. بخ د س"[15].
   قلت: وبعد سبر حديثه وجدت أنه روى عنه أيضًا "بشر بن رافع الحارثي"، وحديثه عند أبي داود وابن ماجه في سننهما[16].
   وإن ذكره "بشر بن رافع" عندهما بكنيته فقط، فقال: "عن أبي عبد الله ابن عم أبي هريرة" ، إلا أن الأقرب أن المقصود بهذه الكنية صاحبنا هذا؛ إذ أنه يروي عن أبي هريرة ثلاثة من ابناء عمه، الأول: الحارث بن أبي ذُبَابٍ الدوسي، وحديثه في صحيح مسلم.
والثاني: أبو هاشم الدوسي، وحديثه في سنن أبي داود [17]، وقد علمنا كنيته. 
والثالث: صاحبنا عبد الرحمن بن الصامت.
ويستبعد أن يكون صاحب الكنيه هو الحارث، لأنه يروي عن أبي هريرة بواسطة يزيد بن هرمز المدني، وعبد الرحمن الأعرج.
أما صاحبنا فيروي عن أبي هريرة مباشرة، وهذا ما في سنن أبي داود وابن ماجه.
وهو الذي ذهب إليه أبو أحمد الحاكم -رحمه الله- [18]، والله أعلم.
   وبعد الانتهاء من ذكر ما قيل في الراوي محل الخلاف، يتبقى النظر في حجة من ضعف حديثه، وتأمل مذهبه.
فأول ما يلاحظ في هذا المقام، أن هناك بون كبير بين التنظير والتطبيق، فكم من رجل عرف بخدمة كتب الرجال والمصطلح، وربما نجده يستدرك على الأئمة -بسبب الحواسيب والبرامج الحديثية بالطبع-  إلا أنه ليس له نفسٌ في التحقيق، إذ يتعامل مع هذا الفن بقواعد جامدة كأنها مسائل حسابية!.
   فهذا الشيخ شعيب الأرناؤوط، ومعه الشيخ بشار عواد استدركا أمورًا على "ابن حجر" -رحمه الله- كما في مقدمة كتابهما "تحرير تقريب التهذيب"، واتهماه بعدم بذل الجهد وسبر روايات الرواة، ونقاشاه في مرتبة المقبول، وكيف يذكر في هذه المرتبة من وثق؟ فالأصل أن مثل هذا يذكر في الثقات .. إلخ.
   فلما ذكر ابن حجر "عبد الرحمن بن الصامت" وأنه مقبول، اعترضا وقالا: "بل: مجهول، تفرد بالرواية عنه أبو الزبير"[19] .
فنزلا بالراوي في المرتبة مع ذكرهما أن ابن حبان أدخله في ثقاته.
   والذي ألجأهم لهذا، هو التعامل بالأصول الجامدة التي في كتب المصطلح، وكأنه  كان يَخفى على "ابن حجر" -رحمه الله- مذهب الإمام الذهلي في تجهيل من تفرد بالرواية عنه واحد.
  مع عدم اعتبارهم بصنيع ابن حبان -رحمه الله- من ادخال الراوي في ثقاته كما هو مذهب أكثر المعاصرين.
فتولد عن هذا التقعيد تطبيق باطل، فالشيخ شعيب لما قام بتحقيق الحديث في سنن أبي داود، قال: "إسناده ضعيف. عبد الرحمن بن الصامت -ويقال: عبد الرحمن بن الهضاض، وقيل: ابن هضهاض، وقيل: ابن الهضاب- لم يوثقه غير ابن حبان. وقال البخاري: لا يعرف إلا بهذا الحديث، وقال النسائي في "الكبرى": عبد الرحمن بن هضاض ليس بمشهور. ومع ذلك فقد صححه ابن الجارود (814)، وابن حبان (4399)!". اهـ
   قلت: فتأمل قوله :" ومع ذلك فقد صححه ابن الجارود، وابن حبان"!.
يتعجب منهما كيف يصححان حديث من ليس بمشهور، أو الذي لا يعرف إلا بحديث واحد كما في قول البخاري؟
وكأن ما ذكر في آنفًا من الجرح المفسر المسقط له بلا خلاف!.
   وأحب أن أنبه هنا في هذا المقام قبل أن استرسل في الحديث، على هذه الظاهرة الخطيرة التي أصبحت سمة في كتب الكثير من محققي العصر!، وهي: الجرأة على أئمة السنة من المحدثين، سواء كانوا من أصحاب الكتب المسندة، أو على من هم أصحاب الفضل في خدمة هذه الصنعة، من الذين بذلوا أعمارهم في خدمة كتب السنة شرحًا وتقريبًا وتلخيصًا.
فأظن أن السكوت على هذه الظاهرة مشاركة في هذا الجرم وانحرافًا عن الجادة.
   فوجدنا أنه أصبح عند كثير ممن يتأكل بهذه الصنعة اليوم، أو ممن يَنسب نفسه إليها رفعًا لخسيسته، أو ممن أراد الخير فلم يصبه.
  أصبح عندهم من أصول التحقيق أنه لا بأس من تجديع أنوف أئمة السنة باسم تطبيق المنهج العلمي، والذي منه: وصف الإمام ابن حبان بالتساهل، ولذا لا يلتفتون إلى توثيقه، وتصحيحه قريبًا عندهم من توثيقه، وكذا تصحيح الإمام الترمذي عندهم غير معتبر، كما لا يلتفتون أيضًا إلى تصحيح الحاكم النيسابوري في مستدركه فكأنه الريح، والذهبي لتناقضه يوافق الحاكم في التصحيح ويخالفه في التوثيق، والدارقطني مع إمامته في الجرح والتعديل غير أنه رخو النفس في التضعيف فيُحسن أحاديث أُناس نص على ضعفهم، وسنن ابن ماجة أضعف السنن، حتى حُرم الناس خيرها ويكاد لا يهتم بها أحد، وأما ابن حجر فعنده كذا وكذا  ... إلى غير ذلك مما هو معلوم مشهور عنهم، والذي أصبح عندهم من المسلمات الحديثية.
   وياليت هذا المتهم لهؤلاء الأئمة أو غيرهم يفهم ما فهموه ، أو يسد ما سدوه، أو يكون على الأقل عالمًا بمنهجهم، أو حتى يكون له ذوق في هذه الصنعة يستطيع من خلاله إبداء ملاحظة أو تصويب أو وهم وقعوا فيه.
  إلا أننا نجده يلجأ إلى قواعد وأصول تعلمها في كتب المصطلح ظن أن الحق لا يخرج عنها، ثم هو يريد أن يحاكمهم إليها، وينتقص منهم بسببها، والله المستعان.
نعود..
   قلت: بعد النظر في حجة هؤلاء، وتأمل الحديث يَتبين صحته، وأنه ليس ضعيفًا كما زعموا، وذلك لأمور، منها:
  أن "عبد الرحمن بن الصامت" راوي الحديث، لم يكتف ابن حبان بإدخاله في الثقات، بل خرّج حديثه في صحيحه.
وهناك فرق كبير بين أن يذكر ابن حبان الراوي في ثقاته ويسكت عنه، وبين أن يُخرج حديثه في صحيحه.
   فالإمام ابن حبان -رحمه الله- إن ذكر راويًا في كتابه الثقات وسكت عنه، هذا معناه: أنه لم يَعلم فيه جرحًا، كما لا يوجد في روايته بعد سبرها مناكير، إذ لو وجد لأدخله في المجروحين، فهذه طريقته في الحكم على الرواة الذين لم يقف لهم على جرح أو تعديل.
يقوم بسبر أحاديثهم ثم يتذوقها بنفسه الحديثي لينظر هل هي تشبه أحاديث الثقات أم تخالفها؟، فإن لم يتضح ويكشف له حال الراوي أدخله في المجروحين واستخار الله عليه، وإن وَجد أحاديثه تشبه أحاديث الثقات أدخله في ثقاته وإن لم يعرفه بعينه.
   ونضرب لهذا أمثلة توضح شيئًا من منهجه، وكلها من كتابه المجروحين:
قال في ترجمة "يزيد بن زيد": "شيخ يروي عن خولة بنت الصامت، روى عنه أبو إسحاق السبيعي؛ لست أعرفه بعدالة ولا جرح، إلا أنه روى أشياء مناكير لم يُتابع عليها على قلة روايته، فهو عندي يتنكب عن الاحتجاج بما انفرد من الروايات؛ لأن الله جل وعلا لم يكلف عباده أخذ دينه عمن ليس يعرف بعدالة".[20]

   وقال في: "جعفر بن الحارث أبو الأشهب، أصله من الكوفة سكن واسطا، وكان مكفوفًا يروي عن منصور وعاصم، روى عنه محمد بن يزيد الوساطي ووكيع ويزيد، كان يخطئ في الشيء بعد الشيء، ولم يكثر خطؤه حتى يصير من المجروحين في الحقيقة، ولكنه ممن لا يحتج به إذا انفرد، وهو من الثقات يَقرُب، وهو ممن أستخير الله فيه..."[21].
   وقال: "عمران بن مسلم القصير المنقري كنيته أبو بكر، من أهل البصرة يروي عن عبد الله بن دينار والحسن، روى عنه البصريون والقربى، فأما رواية أهل بلده عنه فمستقيمة تشبه حديث الأثبات، وأما ما رواه عنه القربى مثل: سويد بن عبد العزيز ويحيى بن سليم وذويهما، ففيه مناكير كثيرة، فلست أدري أكان يُدْخل عليه فيجيب أم تغير حتى حمل عنه هذه المناكير؟ على أن يحيى بن سليم وسويد بن عبد العزيز جميعًا يكثران الوهم والخطأ عليه؛ ولا يجوز أن يحكم على مسلم بالجرح وأنه ليس بعدل إلا بعد السبر، بل الإنصاف عندي في أمره مجانبة ما روي عنه ممن ليس بمتقن في الرواية، والاحتجاج بما رواه عنه الثقات، على أنه له مدخلًا في العدالة في جملة المتقنين، وهو ممن أستخير الله فيه"[22].
  وقال: "يحيى بن أبي سليم أبو بلج الفزاري، من أهل الكوفة، وقد قيل: إنه واسطي، يروي عن محمد بن حاطب وعمرو بن ميمون، روى عنه شعبة وهشيم، كان ممن يُخطئ، لم يَفحش خطؤه حتى استحق الترك ولا أتى منه ما لا ينفك البشر عنه فيسلك به مسلك العدول، فأرى أن لا يحتج بما انفرد من الرواية، وهو ممن أستخير الله فيه، وهو الذي روى عن محمد بن حاطب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: فصل بين الحلال والحرام الدف والصوت في النكاح"[23]  
   وقال: "خالد بن يزيد بن أبي مالك الدمشقي، من فقهاء أهل الشام، يروي عن أبيه، روى عنه هشام بن خالد الأزرق، كان صدوقًا في الرواية، ولكنه كان يخطئ كثيرًا وفي حديثه مناكير، لا يعجبني الاحتجاج بخبره إذا انفرد عن أبيه، وما أقر به في نفسه إلى التعديل، وهو ممن أستخير الله عز وجل فيه، مات سنة خمس وثمانين ومائة وهو الذي روى عن أبيه عن أنس بن مالك قال: قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم "رأيت ليلة أسري بي مكتوبًا على باب الجنة الصدقة بعشرة أمثالها والقرض بثمانية عشر، فقلت لجبريل: ما بال القرض أفضل من الصدقة، قال: لأن السائل يسأل وعنده، والمستقرض لا يستقرض إلا من حاجة"... وليس بصحيح"[24] .
   وقال: "يزيد بن عبد الرحمن أبو خالد الدالاني، من أهل واسط كان نازلًا في بني دالان، فنسب إليهم ولم يكن منهم، يروي عن إبراهيم السَّكْسَكِي وعمرو بن مرة وقتادة، روى عنه عبد السلام بن حرب وأهل العراق، كان كثير الخطأ فاحش الوهم يخالف الثقات في الروايات حتى إذا سمعها المبتدئ في هذه الصناعة علم أنها معمولة أو مقلوبة، لا يجوز الاحتجاج به إذا وافق الثقات فكيف إذا انفرد عنهم بالمعضلات؟"[25].
   وقال: "يزيد بن ربيعة الرحبي الصنعاني، من صنعاء دمشق، كنيته أبو كامل من أهل الشام، يروي عن أبي أسماء الرحبي، روى عنه أهل بلده كان شيخًا صدوقًا إلا أنه اختلط في آخر عمره فكان يروي أشياء مقلوبة، لا يجوز الاحتجاج به إذا انفرد؛ وفيما وافق الثقات فهو معتبر به لقدم صدقه قبل اختلاطه من غير أن يحتج به؛ لأن الجرح والعدالة ضدان فمتى كان الرجل مجروحًا لا يخرجه عن حد الجرح إلى العدالة إلا ظهور أمارات العدالة عليه، فإذا كان أكثر أحواله أمارات العدالة صار من العدول، كذلك كذا إذا كان الرجل معروفًا بالعدالة يكون جائز الشهادة فهو كذلك حتى يظهر منه أمارات الجرح؛ فإذا صار أكثر أحواله أسباب الجرح خرج عن حد العدالة إلى الجرح، وصار في عداد من لا تجوز شهادته وإن كان صدوقًا فيما يقول، وتبطل أخباره الصحاح التي لم يختلط فيها.
 وكذلك الشاهد إذا لم يكن يعدل فشهد عند الحاكم بشهادة وهو صادق فيها ومعه شاهد آخر عدل يعلم الحاكم صدقه في تلك الشهادة بعينها وإن كان مجروحًا في غيرها، لا يجوز بإجماع المسلمين قبول شهادته وان كان صادقًا فيها حتى يكون عدلًا. وهذه مسألة طويلة قد ذكرناها بالشواهد في كتاب شرائط الأخبار فأغنى ذلك عن تكرارها في هذا الكتاب"[26].
  قلت: عن عمد أطلت في ذكر الأمثلة التي تُبين لنا كلام هذا الحبر الذي قل نظيره، ليظهر لمن يتجرأ عليه شيئًا من منهجه وجودة فهمه وحسن ديانته وورعه، وعدم جراءته على محارم الله وأعراض المسلمين، مع صيانة للسنة بالذب عنها وعدم البخل بالكشف عن خبايا هذه الصنعة، فرحمه الله وجعلنا وإياه من أهل الفردوس الأعلى.
   فالشاهد: أن الإمام ابن حبان لا يتساهل في ادخال الرواة في ثقاته من غير تأمل في حديثهم، فمن كان حديثه محتمل ويشبه أحاديث الثقات وليس فيه نكاره ذكره في ثقاته، ولا يصرح بتوثيقه.
وإن كان الراوي يقرب حاله من الثقات، غير أنه وجد في حديثه مناكير، أدخله في المجروحين واستخار الله عليه.
  وقريبًا من منهجه في كتابه المجروحين ابن عدي في الكامل، فإنه يَنقل الجرح في الراوي إن وجد، مع تأمل حديثه والتنبيه على مناكيره[27].
  فعدم وجود الراوي في كامل ابن عدي أو المجروحين لابن حبان[28]، ووجوده في كتابه الثقات -وإن لم ينص على توثيقه- فهذا تحسين لحاله، وأنه لا يوجد في حديثه مناكير تجر الجرح عليه.
   أما إن ذكر ابن حبان الراوي في ثقاته ووثقه، أو ذكره وسكت عليه ثم روى عنه في صحيحه فهذا توثيق له، لأنه اشترط الصحة في كتابه، والعالم لا يحتج بخبر الراوي الضعيف كما هو معلوم. وهذا ما يعرف بالتوثيق الضمني.
   وقد مر آنفا أنه لم يَنفرد بالرواية عن عبد الرحمن بن الصامت أبو الزبير المكي وحده كما ذهب إلى ذلك الذهبي، وتابعه الشيخ شعيب مع زعمه بذل الجهد في التتبع وتخطئة الحافظ ابن حجر.
  فقد روى عنه أيضًا كما مر "بشر بن رافع الحارثي"، فارتفعت عنه بهذا تلك الجهالة المزعومة.
   فإن عدنا لكلام ابن حجر من وصفه عبد الرحمن بن الصامت بالمقبول وتصحيح حديثه عند المتابعة، وجدنا أنه قد تابعه على حديثه إمامان من أئمة السنة، ومن أكبر أصحاب أبي هريرة -رضي الله عنه- ، فقد أخرجه البخاري ومسلم من حديث سعيد بن المسيب وأبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة مرفوعًا[29].
فهو صحيح من هذا الوجه أيضًا.

كما يشهد له ما في الصحيحين وخارجهما من حديث جمع من الصحابة، منهم:
1- عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- وحديثه في صحيح البخاري.
2- جابر بن سمره -رضي الله عنه- وحديثه في صحيح مسلم.
3- أبو سعيد  الخدري -رضي الله عنه- وحديثه في مسلم.
4- بريدة بن الحصيب الأسلمي -رضي الله عنه- وحديثه في مسلم.
5ـ نعيم بن هزال الأسلمي-رضي الله عنه- وحديثه في سنن أبي داود.
6- نصر بن دهر الأسلمي-رضي الله عنه- وحديثه في عند أحمد في المسند والنسائي في الكبرى.
  قلت: بل تكاد حروف حديث عبد الرحمن بن الصامت تتفق مع بعض روايات هؤلاء الصحابة عليهم الرضوان.
فدلائل الصحة ظاهرة عليه، ولهذا صرح بتصحيحه الحافظ ابن كثير[30]، وسبقه ابن حبان في صحيحه، وابن الجارود في المنتقى.
  فلا يلتفت إلى تعجب من استنكر تصحيح هؤلاء الائمة للحديث مع أن راويه لا يُعرف إلا بهذا الحديث، أو أنه غير مشهور.
  فهذا ليس بجرح، فهناك رواة مقلة الرواية، بل هناك صحابة ليس لهم إلا حديثًا واحدًا، ومنهم من لم يرو شيئًا، لأن هناك فرق بين التحمل والأداء.
  فليس كل من تحمل الحديث، جلس للتحديث، أو كان من أهل الرواية.
 ولكن العبرة بموافقة حديث الراوي المقل لأحاديث الثقات، وعدم وجود نكارة في حديثه أو مخالفة للأصول، مع الاعتبار في أي باب يُخرّج حديثه، فتخريج أحاديث الأحكام والحلال والحرام تختلف عن أحاديث الترغيب والترهيب من حيث القبول والرد ..
  هذا، ولعله ظهر الآن شيئًا مما نعانيه، وكيف أوصل بعد المحققين تعنتهم ودخولهم حقل تحقيق الأحاديث بمسلمات وتصورات مسبقة، وقواعد وأصول ظنوها صحيحة، جعلتهم يضعفون حديثًا بمثل هذه الشهرة؟
ويمكن تلخيص ما ذكر في ثنايا البحث في نقاط، منها:
  1- إن دخول معترك تحقيق الأحاديث بمسلمات مسبقة وتصور معين عن منهج بعض العلماء والمؤلفات، مع عدم هضم لصحيح السنة ينتج عنه خلل كبير، ونتائج باطلة، مع ما يتولد من سوء الأدب مع الأئمة وعدم إحسان الظن بهم.

   2ـ  كما أن جعل كلمة جرت على لسان أحد العلماء السابقين ركيزة ينطلق منها المحقق في التصحيح والتضعيف، من غير بذل الجهد في التأكد من صحة نسبة هذه الكلمة أولًا إلى قائلها، ثم النظر في النتيجة المترتبة عليها ثانيًا.
 ثم محاولة فهم إن كانت هذه الكلمة صحيحة، لماذا خالفها من هو أرفع من هذا العالم مرتبة وأعلى طبقة؟
لأن خلاف ذلك يتولد منه توهيم أهل الصنعة من العلماء، والخروج بقول محدث لا يُعرف.

     3- كذا أن إنزال مصطلحات العلماء المتأخرين على من تقدمهم، أو عدم الاعتماد على مصطلح العالم الذي ارتضاه لنفسه، يخلق فسادًا في النتائج، وفوضى علمية، فالدارقطني مثلًا يصف أحيانًا الحديث الضعيف بالحسن، وقد جرى هذا على لسان من تقدمه من العلماء.
  فمحاكمته بما أصطلح عليه غيره من أن الحسن من أقسام الصحيح، ينتج عنه إساءة الظن بهذا العالم، أو الكذب عليه.
  فإما أن يُقال عنه أنه رخو النفس في التضعيف، أو أنه يُحسن أحاديث أُناس ضعفهم.
 أو يُكذب عليه فيُقال على هذا الحديث الذي ضعفه أنه حسنه!!
  ولهذا يلزم من يعمل في هذا المجال التعرف على مصطلحات العلماء وشروطهم في كل كتاب، فشرط البخاري في صحيحه ليس هو شرطه في الأدب المفرد، وهكذا.
      4- مراعاة الباب الذي يحقق فيه الحديث، فالعلماء تتساهل في أحاديث الفضائل، وتشدد في أحاديث الأحكام.
   ولهذا نجد أول كتاب المستدرك للحاكم أمتن من اخره، لأنه بدأ كتابه بكتاب الإيمان والطهارة والصلاة والجمعة والبيوع، ثم بدأ في النزول إلى أن وصل إلى كتاب الطب والرقى والتمائم والفتن والملاحم.
   فليست هذه كتلك من ناحية التحقيق.
   مع التنبيه أن أكبر قسم من المستدرك هو كتاب فضائل الصحابة، وهو باب يَتساهل فيه العلماء؛ إذ أن فضائلهم -رضي الله عنهم- ثابتة من طرق لا تقبل الشك.
      5- عدم بذل الجهد في تتبع تراجم الرواة وسبر أحاديثهم والاكتفاء بكتب التراجم المختصرة، أو الاعتماد على حكم عالم واحد وعدم اعتبار حكم عالم اخر بزعم أنه متشدد في الجرح، أو متساهل في التوثيق.
   والواجب أن يحقق الباحث القول في حال هذا الروي المختلف عليه من خلال النظر في رأي بلديه فيه، أو من خلال كلام من عاصره من العلماء، فكلامهم مقدم على غيرهم ممن لم يعاصره وحكم عليه من خلال سبر مروياته.
      6ـ كما أن الاكتفاء بحكم عالم واحد على الراوي في كتاب مختصر كتقريب التهذيب لابن حجر يؤدي إلى تضعيف أحاديث صحيحه، أو الخروج بنتائج مخالفة للواقع.
   إذ أن هناك رواة لا يصلح في حالهم إلا التفصيل، فهناك راوي نجده ليس ثقة بإطلاق وإنما هو ضعيف في حديث فلان، أما في غيره فحديثه صحيح، أو إذا روى عن أهل بلده فَثبت، وإذا روى عن غيرهم وهم.
   فالترجمة المختصرة لا تحتمل مثل هذا التفصيل، فتكون على هذا النحو: ثقة يخطىء قليلًا، أو ثقة يَهم، وهكذا..
  فيخرج المحقق من هذه الترجمة المختصرة ليجعل حديث هذا الراوي -والذي من الممكن أن يكون من رجال الصحيحين- من قَبيل الحديث الحسن أو في أحسن أحواله يحكم بجودة حديثه، ولا يُصرح أبدًا بصحته لأن هذا الراوي يخطئ!!.
   أو على النقيض: يُحسن حديثه مع أنه رواه عن فلان الذي هو فيه ضعيف، أو يكون حديثه هذا عن غير أهل بلده فوهم فيه، فتأمل!.
   7 - الاسترواح برأي أحد العلماء ممن تقدم في هذه الصنعة وجعل نتيجة بحثه أنها عن استقراء تام.
كاعتماد رأي الذهبي في مستدرك الحاكم، مع أن الذهبي نفسه صرح أنه اختصر تعليقات الحاكم وهو في سن متقدم، فلما كبر لم يعجبه صنيعه.
   مع التنبيه أن عمل الذهبي كان اختصار تعليقات الحاكم الطويلة على الأحاديث، وليس تحقيق أحاديث المستدرك، فمن الخطأ القول بأن الحاكم صححه ووافقه الذهبي، فهذا خطأ ووهم نتج عن التقليد والاسترواح بكلمة جرت على لسان عالم، ثم جعلت كالأصل لا يُعرف خلافه!.
   وبسببها تنسب الغفلة للذهبي الإمام، وأنه يوافق الحاكم على تصحيح أحاديث قد حكم هو على رواتها بالضعف في كتابه الكشاف أو في غيره من كتبه، والله المستعان وإليه المشتكى.
   8ـ عدم الاحتراز من شهوة الحديث والتسرع بالحكم بالصحة أو الضعف على أحاديث قال العلماء من قبلنا فيها كلمتهم، فهذا من الجراءة على دين الله، كما أنه تسفيه لكلام هؤلاء العلماء.
   نعم التصحيح والتضعيف من الاجتهاد الذي من الممكن أن يصيب فيه العالم أو يخطئ، والعبرة في المنتهى للدليل والحجة[31].
  بيد أن الأمر يحتاج إلى تمهل وروية، فليس الذي مارس هذه الصنعة منذ خمسين سنة كمن دخلها منذ سنوات.
   9- كما أن عدم المنهجية وسرعة التحقيق من أجل إخراج الكتب لهو من أشر المفاسد التي ظهرت من بعض من يعالج هذا الشأن، كما يخشى أن يكون صنيعهم من أكل أموال الناس بالباطل.
  وأما من أراد خدمة السنة، فعليه بالتدين بهذا العمل وأنه يَفعله حسبة وخدمة للدين، وإن لم يُخرج طوال حياته إلا كتابًا واحدًا يبذل فيه مهجته وعمره، المهم أن يصبح في المنتهى أرثًا للمسلمين ينتفعون به، وإن جاءته الدنيا مع هذا، فالله هو الرزاق الكريم، والله أعلم.
   10ـ وأخيرًا: هذا العلم من الرزق، فإن تحصيل العلم يقدر عليه الكثيرون، أما فهم العلم فهو رزق يهبه الله لمن يشاء من عباده، فلا يشترط لمن يكون معروفًا بالطلب والتحصيل أن يكون الحق في جانبه، أو أن يحرم من دونه الصواب، ولكن العبرة بالتسليم للدليل من غير هوى أو حظ نفس.
    كما أن من أراد أن يُرزق الفهم في هذا العلم، فليحسن الظن بمن سبقه من العلماء ويلتمس إليهم الأعذار، فإنهم لم يخالفوا لهوى أو بدعة، وليعلم أن الناس تتفاوت في الجهل كما تتفاوت في العلم.
   فليحمد العبد إن وفق للصواب من غير تحقير لمن لم يوفق إليه، وليكن لسان حاله ومقاله الامتثال لأمر ربنا سبحانه وتعالى: { رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ }.
[الحشر:10] .
وصلى اللهم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.



[1]- قال الصنعاني الأمير: "ما أشار إليه السائل ... مِن أنه قد يختلف كلام إمامين من أئمة الحديث فيُضعف هذا حديثًا وهذا يصححه، ويرمي هذا رجلًا من الرواة بالجرح وآخر يُعدله، فهذا مما يشعر بأن التصحيح ونحوه من مسائل الاجتهاد الذي اختلفت فيه الآراء،

 فجوابه: أن الأمر كذلك". [إرشاد النقاد إلى تيسير الاجتهاد. ص / 108].

[2]- قال ابن أبي حاتم: " ذكرنا أسامي كثيرة مهملة من الجرح والتعديل، كتبناها ليشتمل الكتاب على كل من روي عنه العلم، رجاء وجود الجرح والتعديل فيهم، فنحن ملحقوها بهم من بعدُ إن شاء الله " . [الجرح والتعديل (2 / 38 )].

[3]- فينبغي على الباحث المحقق بحث أقوال العلماء في هؤلاء الرواة والتحقق من نسبتها إليهم أولًا، ثم سبر أحاديث هؤلاء الرواة المختلف عليهم، ثم ترجيح حال هذا الراوي في ضوء هذا البحث، والله أعلم.

[4]- قال في ترجمة "يحيى بن عمرو بن مالك النكري"، قال: "من أهل البصرة يروي عن أبيه عن أبي الجوزاء، روى عنه عبد الله بن عبد الوهاب الحجي والبصريون، كان منكر الرواية عن أبيه، ويحتمل أن يكون السبب في ذلك منه أو من أبيه أو منهما معًا، ولا نستحل أن يطلق الجرح على مسلم قبل الاتضاح؛ بل الواجب تنكب كل رواية يرويها عن أبيه لما فيها من مخالفة الثقات والوجود من الأشياء المعضلات، فيكون هو وأبوه جميعًا متروكين من غير أن يطلق وضعها على أحدهما ولا يقربهما من ذلك، لأن هذا شيء قريب من الشبهة، وهذا حكم جماعة ذكرناهم في هذا الكتاب جبنًا عن إطلاق القدح فيهم لهذه العلة؛ على أن حماد بن زيد كان يرمي يحيى بن عمرو بن مالك بالكذب". [المجروحين، ترجمة رقم: (1198)].
قلت: تأمل -رحمك الله- منهجه، مع أنه أدخل الراوي في كتابه المجروحين لأن حماد بن زيد جرحه، بل رماه بالكذب، إلا أنه لم يستحل أن يقلد غيره، أو يستحل الكلام في مسلم قبل اتضاح حاله، لأن هذا الراوي أمره مشتبه.
فلم يجرحه جبنًا من الولوغ في عرض مسلم بشبهة، ومع هذا لم يمنعه ورعه من صيانة السنة، فحكم على مروياته بالترك.
            

[5] - قال ابن حجر في مقدمة التقريب وهو يذكر مراتب الرواة: " السادسة: مَن ليس له من الحديث إلا القليل، ولم يثْبُت فيه ما يُترك حديثه من أجله، وإليه الإشارة بلفظ: مقبول، حيث يتابع، وإلا فَليِّنُ الحديث".

[6]- قال المزي في كامله في ترجمة عبد الكريم بن أبي المخارق( 3506 ): "قال الحافظ أبو محمد عبد الله بن أحمد بن سعيد بن يربوع الإشبيلي: بَين مسلم جرحه في صدر كتابه، وأما البخاري فلم يُنبه من أمره على شيء؛ فدل أنه عنده على الاحتمال، لأنه قد قال في التاريخ: كل من لم أبُين فيه جرحه فهو على الاحتمال، وإذا قلت: فيه نظر فلا يحتمل".

[7]- ولهذا يُكثر الإمام مسلم من المتابعات والشواهد في صحيحه، وكذا النسائي في سننه، ومن بعدهم الحاكم على نفس النهج، حتى ترتفع مظنة التفرد. والله أعلم.

[8] ـ قال ابن حجر في تقريبه في ترجمة معبد بن كعب بن مالك(6781 ): " مقبولٌ، من الثالثة " اهـ
مع أن حديثه مخرج في الصحيحين، وهو عند ابن خزيمة وابن حبان في صحيحهما، وقد ذكره ابن حبان في ثقاته، وقال عنه محمد بن إسحاق كما عند ابن خزيمة: "حدثني معبد بن كعب بن مالك ، وكان من أعلم الأنصار"، ومع ذلك قال عنه ابن حجر "مقبول" ولم يقل ثقة، وذلك لندرة حديثه.
 كما أن معبد هذا تفرد بحديث الصحيحين ولم يتابع عليه، فقد حدث فيه عن أبي قتادة بن ربعي الأنصاري: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر عليه بجنازة، فقال : " مستريح ومستراح منه " قالوا : يا رسول الله ، ما المستريح والمستراح منه ؟ قال : " العبد المؤمن يستريح من نصب الدنيا وأذاها إلى رحمة الله ، والعبد الفاجر يستريح منه العباد والبلاد ، والشجر والدواب "
. فتأمل!

[9]- انظر على سبيل المثال كتاب الإمام مسلم " المنفردات والوحدان"، أو كتاب "المفاريد" لأبي يعلى الموصلي، أو كتاب الإمام النسائي " تسمية من لم يرو عنه غير رجل واحد".

[10]- (1146).

[11] - علل الدارقطني : (2137).

[12] - الجرح والتعديل : (1410 ).

-[13] السنن الكبرى، كتاب الرجم، حديث: (7128).

[14] - رقم: (4028).

[15] ـ رقم : (3899).   

[16] ـ في سنن أبي داود برقم: (934)، وعند ابن ماجة برقم: (814).

[17]- كتاب الأدب، باب في الحكم في المخنثين، رقم : (4928).

[18]- انظر تهذيب التهذيب لابن حجر، ترجمة رقم: (8542).

[19]- ( 2 / 326).

[20]- المجروحين، ترجمة رقم: (1180)

[21] - السابق ترجمة رقم:  (179).

-[22] السابق ترجمة رقم:  (713).                 

[23] - السابق ترجمة رقم:  (1197).

[24] - السابق ترجمة رقم:  (307).

[25] - السابق ترجمة رقم:  (1185).

[26] - السابق ترجمة رقم:  (1182).

[27]- قال في مقدمة كتابه الكامل في الضعفاء (1 / 78 :79): " وذاكر في كتابي هذا كل من ذكر بضرب من الضعف ومن اختلف فيهم. فجرحه البعض وعدله البعض الآخر، ومرجح قول أحدهما مبلغ علمي من غير محاباة، فلعل من قبح أمره أو حسنه تحامل عليه، أو مال إليه، وذاكر لكل رجل منهم مما رواه ما يضعف من أجله، أو يلحقه بروايته وله اسم الضعف لحاجة الناس إليها لأقربه على الناظر فيه.

وصنفته على حروف المعجم ليكون أسهل على من طلب راويًا منهم، ولا يبقى من الرواة الذين لم أذكرهم إلا من هو ثقة أو صدوق، وإن كان ينسب إلى هوى وهو فيه متأول".

[28]ـ أو في غيرها من الكتب التي اعتنت بذكر الضعفاء والمجروحين؛ لأنه في الغالب إن لم يوجد في الراوي كلام للعلماء بجرح أو تعديل، وظهر في حديثه ما يُنكر أدخلوه في هذه الكتب.
   قال أبو نعيم الأصبهاني في كتابه الضعفاء (ص / 167): " فجملة من سميته في هذا الفصل بروايته للمناكير وللموضوعات والأباطيل وذكرته بضعف؛ فإن أمرهم لا يخفى على علماء أهل هذه الصنعة؛ فإن النور في رواياتهم مفقود والظلمة في أكثر حديثهم موجود؛ وإني وإن ذكرت اسم الواقعين فيهم والواضعين منهم؛ فلم أذكرهم لأني كنت لهم مقلدًا، بل ذكرتهم إعلامًا لجرح منهم قد تقدم لهم". اهـ

[29]- انظر البخاري : (5271، 6815، 6825، 7167)، ومسلم: (4515) مكنز.

-[30] تفسير ابن كثير( 7 / 358 ). ط/ العلمية.

[31]- انظر أول تعليق.