حُسنُ السَّمْتِ في بيانِ عِلَّةِ حديثِ صومِ السَّبْتِ
الحمدُ للهِ وحدَهُ، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ
لا نبيَّ بعدَهُ، أمَّا بعدُ:
فإنَّ سلفَنا الصالحَ وعلماءَنا المتقدِّمينَ
كانوا يتعاطَوْنَ أحاديثَ السنةِ النبويةِ كجوهرٍ واحدٍ، نَبَعَ من مشكاةٍ معصومةٍ،
يستحيلُ فيها التناقضُ أو يعتريها الخللُ.
فبرزَ منهم مَنْ تفانَى في خدمةِ علوم الحديث، ووجد
بينهم من تخصص في علم علله، فأنارَ للأمةِ دروبَ الكشفِ عن خفايا الأحاديثِ ودقائقِ
عيوبِها.
ثمَّ خَفَتَ هذا العلمُ شيئًا ما بعدَ أنْ استقرَّتْ معالمُ العلمِ، وظهرتْ
كتبُ المصطلحِ، فصارَ النظرُ إلى أحاديثِ السنةِ يخضعُ لقواعدَ جامدة، وشروطٍ معروفة
نصَّ عليها العلماءُ في مصنَّفاتِهم.
فالحديثُ، إنْ استوفَى الشروطَ الخمسةَ، فهو الصحيح، وإنْ نقَصَهُ شرطُ ثقةِ
الرواةِ، فرواهُ راوٍ خفيفُ الضبطِ صدوقٌ، صارَ حسنًا، وهكذا.
فوجد بسبب ذلك تبايُنٌ بينَ منهجِ الأوائلِ
ومنهج مَنْ تأخَّرَ عنهم، ولو نسبيًّا، في بابِ علمِ علل الحديث، واستجلاءِ العيوب
الخفية التي تعتريه.
فعلمُ عللِ الحديثِ والكشف عن أخطاءِ الرواةِ
إنَّما هو ملكةٌ يتحصَّلُ عليها بعضُ العلماءِ، نَتيجةَ حفظِ الطُّرقِ، ومعرفةِ الرواةِ،
والإلمامِ بأحكامِ الشريعةِ.
ولأنَّها ملكةٌ وعلمٌ يُقذَفُ في صدرِ العالمِ، يَصعُبُ أحيانًا بيانُهُ بالكلماتِ،
فالأمرُ قريبٌ ممَّا قالَهُ الإمامُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ -رحمه
الله-: " مَعْرِفَةُ الْحَدِيثِ إِلْهَامٌ، فَلَوْ قُلْتَ لِلْعَالِمِ يُعَلِّلُ
الْحَدِيثَ: مِنْ أَيْنَ قُلْتَ هَذَا، لَمْ يَكُنْ لَهُ حُجَّةٌ ". [1]
فالأوائلُ امتازوا بتذوُّقٍ دقيقٍ لحديثِ
الرواةِ، حتَّى إذا سُئِلَ الإمامُ أحمدُ أو أبو حاتمٍ الرازيُّ عن حديثٍ، قالَ:
"هذا يُشبِهُ حديثَ فلانٍ"، فتكونُ هذه الكلمةُ كافيةً في إعلالِ الحديثِ،
ويرَى طلابُ العلمِ فيها دليلاً وافيًا لردِّهِ وعدمِ العملِ
بهِ.
ووجد منهم مَنْ أعَلَّ الحديثَ بوصفِهِ
بالحسنِ، كعليِّ بنِ المدينيِّ وتلميذِهِ يعقوبَ بنِ شيبةَ، وسلكَ سبيلَهما البخاريُّ،
ثمَّ الترمذيُّ -رحمةُ اللهِ عليهم أجمعينَ-.
فإذا تتبَّعَ طالبُ العلمِ الحديثَ، وقفَ على
علَّتِهِ، وإنْ لم يَزِدْ هؤلاءِ الأئمةُ عن قولِهم: "هذا حديثٌ حسنٌ".
وأمَّا مَنْ جاءَ بعدهم وكانت لهُ عنايةٌ واهتمام
بهذا العلمِ الجليلِ، علمِ العللِ، كالإمامِ الدارقطنيِّ مثلًا، ففي عصرِهِ لم تَعُدْ
طريقةُ الأوائلِ صالحةً، إذْ يُعِلُّ الحديثَ بكلمةٍ قد يَفْهَمُها المتأخِّرُ على
غيرِ مرادِ قائلِها، كزعم أنَّ الترمذيَّ يصحح الحديثَ بقولِهِ "حديثٌ حسنٌ".
فسلكَ الدارقطنيُّ، وقد تقدَّمَهُ الإمامُ النسائيُّ
بهذا السبيلِ، نهجًا يَسْعَى إلى إبرازِ العلَّةِ من خلالِ بيانِ الاختلافِ على الراوي
الذي يَدورُ الحديثُ حولَهُ.
غيرَ أنَّ هذا المنهجَ يَصْلُحُ لأحاديثَ
معيَّنةٍ، وأمَّا الأحاديثُ التي لا تَتَعدَّدُ طُرُقُها فلا يُجْدي فيها هذا الأسلوبُ،
بل تَحْتاجُ إلى تذوُّقِ الأوائلِ الدقيقِ لحديثِ الرواةِ.
هذا؛ وعلمُ العللِ من أعمقِ علومِ الحديثِ
وأدقِّها، فلا تُسعِفُ الكلماتُ أحيانًا في إيضاحِ خفاياهُ واستجلاءِ مناهجِ العلماءِ
فيهِ.
ولكنْ يكفي في هذا المقامِ تأمُّلُ قولِ التابعيِّ
الجليلِ الربيعِ بنِ خُثَيْمٍ -رحمةُ اللهِ عليهِ-: "إنَّ منَ الحديثِ حديثًا
لهُ ضوءٌ كضوءِ النهارِ تَعْرِفُهُ، وإنَّ منَ الحديثِ حديثًا لهُ ظلمةٌ كظلمةِ الليلِ
تُنْكِرُهُ".
قلتُ: فالحديثُ الخطأُ يُنادي على نفسه، تختلف
حولَهُ كلمة العلماء، ويَظْهَرُ فيهِ ذلكَ
التباينُ الذي ألمَحْنا إليهِ آنفًا بينَ منهجِ المتقدِّمينَ ومَنْ تأخَّرَ عنهم.
وأمَّا الحديثُ الصحيحُ، فعليهِ نورٌ ساطعٌ،
واتِّفاقُ العلماءِ عليه، وإخراجُهُ في الصحيحينِ أو أحدِهما، أو على الأقلِّ تكونُ
أسانيدُهُ محفوظةً لا خلافَ عليها.
أردتُ بهذه المقدِّمةِ فكَّ الاشتباكِ،
ورفع الحيرةِ التي يَجِدُها بعضُ طلبةِ العلمِ في أنفسِهم، ممَّنْ يَرغبونَ في الوقوفِ
على الصوابِ في حديثٍ اختلفَتْ فيهِ كلمةُ العلماءِ.
فأردتُ بيانَ التباينِ الذي نَشَأَ عنهُ الخلافُ، ومَنْ أولَى بالاتِّباعِ في
هذا، كما أردتُ أيضًا الاعتذارَ لأولئكَ العلماءِ الذين تأخَّروا عن الصدرِ الأوَّلِ،
وأنَّ مخالفتَهم للصوابِ لم تكنْ عن قصدٍ، بل إنَّهم اتَّبعوا قواعدَ العلمِ التي
استقرت في عصرهم.
والآنَ، لو أردنا النَّظرَ في ضوءِ ما مرَّ
إلى حديثِ النَّهيِ عن صيامِ يومِ السبتِ في غيرِ الفريضةِ، نجدُ أنَّ كلمةَ العلماءِ
الأوائلِ تكادُ تكونُ متَّفقةً على خطأِ الحديثِ وردِّهِ، وهم مَنْ حفظوا الأسانيدَ
والطُّرُقَ، وأحاديثَ البلدانِ والشيوخِ، وتعاملوا مع أحاديثِ السنةِ كأنَّها لحمةٌ
واحدةٌ نَبَعَتْ من مشكاةٍ معصومةٍ. وأمَّا مَنْ جاءوا بعدهم، ممَّنْ تعاملوا مع هذا
العلمِ الشريفِ من خلالِ القواعدِ والأصولِ الحديثيةِ والفقهيةِ، وأنَّ كلَّ حديثٍ
يُبحَثُ برأسِهِ وفقَ القواعدِ والأصولِ، فإنْ توافرتْ فيهِ شروطُ الصحةِ فهو صحيحٌ،
وإلَّا فهو حديثٌ حسنٌ أو ضعيفٌ أو منكرٌ بحسبِ توافرِ الشروطِ.
ولو اكتفينا في هذا المقامِ بما مرَّ ذكرُهُ،
لكانَ كافيًا في الحكمِ على الحديثِ، بيدَ أنَّ هذا لم يَكُنْ ليَصْلُحَ في زمنِ الدارقطنيِّ،
فما بالُنا بهذا العصرِ؟.
ولهذا نَزيدُ بيانًا حتَّى تتَّضِحَ المسألةُ
التي نَعالجُها:
فالحكمُ على الحديثِ يَشمَلُ الحكمَ على الإسنادِ
والمتنِ معًا، فكم من حديثٍ منكرٍ أو شاذٍّ جاءَ من طُرُقٍ نظيفةٍ وجيِّدةٍ، والخطأُ
فيهِ يكونُ من أوهامِ الثقاتِ.
فهذا أبو عبدِ الرحمنِ النسائيُّ -رحمةُ اللهِ عليهِ- يقولُ: "حديثُ يحيَى
بنِ سعيدٍ هذا إسنادُهُ حسنٌ، وهو منكرٌ، وأخافُ أنْ يكونَ الغلطُ من محمدِ بنِ فضيلٍ".
اهـ.
قلتُ: ومحمدُ بنُ فضيلٍ هذا هو ابنُ غزوانَ الضبيُّ
مولاهم، ثقةٌ، حديثُهُ في الصحيحينِ، ومعَ هذا أعَلَّ النسائيُّ الحديث به.
ونقلَ الزيلعيُّ في نصبِ الرايةِ[2]،
قولَ ابنِ عبدِ الهادي في تنقيحِ التحقيقِ عن حديثٍ: "ورواةُ هذا الحديثِ كلُّهم
ثقاتٌ، ولكنَّهُ حديثٌ منكرٌ". اهـ.
وقالَ ابنُ حجرٍ في الفتحِ[3]
وهو يردُّ حديثًا أوردَهُ ابنُ مردويةَ في تفسيرِهِ: "هو منكرٌ معَ نظافةِ سندِهِ،
وما أظنُّهُ إلَّا غلطًا".
والإمامُ الذهبيُّ -رحمه اللهِ- في تلخيصِهِ
لتعليقاتِ المستدركِ، قالَ في حديثٍ: "اللَّهمَّ اغفرْ لعائشةَ بنتِ أبي بكرٍ
الصدِّيقِ مغفرةً واجبةً ظاهرةً باطنةً"، قالَ: "منكرٌ على جودةِ إسنادِهِ".
[4]
وقالَ في حديثٍ طويلٍ أخرجَهُ الحاكمُ في
كتابِ الأهوالِ من المستدركِ: "ما أنكرَهُ حديثًا على جودةِ إسنادِهِ".[5]
قُلْتَ: فَالِاكْتِفَاءُ بِصِحَّةِ الإِسْنَادِ
أَوْ جَوْدَتِهِ لَا يَكْفِي لِقَبُولِ الْحَدِيثِ، إِذِ الإِسْنَادُ هُوَ الْمَوْصِلُ
إِلَى الْمَتْنِ، فالأَصْلُ عِنْدَنَا هُوَ الْمَتْنُ لَا الإِسْنَادُ، لِأَنَّهُ الَّذِي
يُعْمَلُ بِهِ.
وَحَتَّى نَشْرَعَ فِي بَيَانِ الْمَقْصُودِ، أَلَا وَهُوَ إِيضَاحُ عِلَّةِ حَدِيثِ النَّهْيِ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ السَّبْتِ فِي غَيْرِ الْفَرِيضَةِ، وَكَيْفَ أَلْتَبَسَ هَذَا الْحَدِيثُ عَلَى بَعْضِ النَّاسِ، فَوَقَعَتِ الْحَيْرَةُ بِسَبَبِهِ لِوُجُودِ مَنْ صَحَّحَهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، نَذْكُرُ مِثَالًا عَمَلِيًّا لِحَدِيثٍ ظَاهِرِ النُّكْارَةِ وَالشُّذُوذِ. وَهَذَا الْحَدِيثُ مَعَ شُذُوذِهِ كَمَا سَيَأْتِي، قَدْ صَحَّحَهُ نَفْسُ الْعُلَمَاءِ الَّذِينَ صَحَّحُوا حَدِيثَ صَوْمِ يَوْمِ السَّبْتِ، وَلِذَاتِ الْحُجَّةِ الْمَذْكُورَةِ آنِفًا، أَلَا وَهِيَ نَظَافَةُ إِسْنَادِهِ وَثِقَةُ رُوَاتِهِ.
وَهَذَا الْحَدِيثُ هُوَ حَدِيثُ الْمُعَوِّذَتَيْنِ
الَّذِي رَوَاهُ زِرُّ بْنُ حُبَيْشٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللَّه عَنْهُ-، وَفِيهِ: أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ كَانَ لَا يَرَى الْمُعَوِّذَتَيْنِ مِنَ
الْقُرْآنِ، وَأَنَّهُ كَانَ يَرَى رَسُولَ اللَّهِ –صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُعَوِّذُ بِهِمَا
الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ، وَلَمْ يَسْمَعْهُ يَقْرَؤُهُمَا فِي شَيْءٍ مِنْ صَلَاتِهِ.
وَفِي بَعْضِ الطُّرُقِ: "إِنَّ ابْنَ
مَسْعُودٍ كَانَ يَحُكُّ الْمُعَوِّذَتَيْنِ مِنَ الْمَصَاحِفِ".
وَهَذَا الْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ،
بِإِسْنَادٍ أَرْفَعَ وَأَعْلَى مِنْ حَدِيثِ الصَّمَّاءِ فِي النَّهْيِ عَنْ صِيَامِ
يَوْمِ السَّبْتِ، فَرَوَاهُ أَحْمَدُ عَنْ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَبْدَةَ،
وَعَاصِمٍ، عَنْ زِرِّ بْنِ حُبَيْشٍ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-[6].
وَلِأَنَّ سَنَدَ الْحَدِيثِ ظَاهِرُهُ الصِّحَّةُ،
وَلَيْسَ فِيهِ مَطْعَنٌ، فَقَدْ صَحَّحَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ مِنَ الطَّبَقَةِ
الثَّانِيَةِ، الَّذِينَ انْشَغَلُوا بِعِلْمِ الْحَدِيثِ بَعْدَ اسْتِقْرَارِ قَوَاعِدِهِ،
فَأَنْزَلُوا الْقَوَاعِدَ عَلَى السَّنَدِ فَصَحَّ الْحَدِيثُ عِنْدَهُمْ، وَلَمْ
يَلْتَفِتُوا إِلَى النُّكْرَةِ وَالشُّذُوذِ فِي مَتْنِهِ، بَلْ تَأَوَّلُوهَا بِلَا
دَلِيلٍ، كَزَعْمِهِمْ أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ رُبَّمَا غَابَ عَنْ بَعْضِ الْمَجَالِسِ
الَّتِي قَرَأَ فِيهَا الرَّسُولُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الْمُعَوِّذَتَيْنِ،
وَأَشْيَاءَ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ.
وَهَذِهِ التَّأْوِيلَاتُ لَمْ يَلْقَ لَهَا بَالًا
مَنْ أَرَادَ التَّذَرُّعَ بِهَذَا التَّصْحِيحِ لِلطَّعْنِ فِي السُّنَّةِ، فَأَخَذَ
أَصْحَابُ الْأَهْوَاءِ كَالْقُرْآنِيِّينَ يَطْعَنُونَ فِي كُتُبِ السُّنَنِ بِسَبَبِ
مِثْلِ هَذَا الْحَدِيثِ.
وَلَوِ الْتَزَمَ هَؤُلَاءِ الْعُلَمَاءُ الْمَذْكُورُونَ
طَرِيقَةَ الْأَوَائِلِ مِنْ جَمْعِ أَحَادِيثِ الْبَابِ، وَضَرْبِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ
لِيَظْهَرَ خَطَؤُهَا، ثُمَّ الْحُكْمُ عَلَيْهَا كَكُلٍّ خَرَجَ مِنْ مِشْكَاةٍ مَعْصُومَةٍ،
لَوِ الْتَزَمُوا هَذَا لَظَهَرَ لَهُمْ عِلَّةُ هَذَا الْحَدِيثِ وَشُذُوذُهُ.
فَإِنَّ "زِرَّ بْنَ حُبَيْشٍ الْأَسَدِيَّ"،
رَاوِيَ الْحَدِيثِ، هُوَ صَاحِبُ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَهُوَ ثِقَةٌ جَلِيلُ الْقَدْرِ
كَثِيرُ الْحَدِيثِ.
وَهُوَ صَاحِبُ الْقِرَاءَةِ الْمَشْهُورَةِ لِلْقُرْآنِ
الْكَرِيمِ، الَّتِي أَخَذَهَا عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- وَتُعْرَفُ
بِرِوَايَةِ شُعْبَةَ.
وَهِيَ رِوَايَةٌ مُتَوَاتِرَةٌ، وَتُوجَدُ فِيهَا
الْمُعَوِّذَتَانِ كَمَا فِي غَيْرِهَا مِنَ الْقِرَاءَاتِ الثَّابِتَةِ عَنِ الصَّحَابَةِ
-عَلَيْهِمُ الرِّضْوَانُ-.
فَالثَّابِتُ فِي قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
مَسْعُودٍ قِرَاءَةُ الْمُعَوِّذَتَيْنِ، وَهَذَا النَّقْلُ مُتَوَاتِرٌ عَنْهُ.
فَالْأَمْرُ لَا يَحْتَاجُ إِلَى تَأْوِيلٍ أَوِ
اعْتِذَارٍ عَنْ هَذَا الصَّحَابِيِّ، فَالْحَدِيثُ غَلَطٌ شَاذٌّ.
وَقَدْ قَالَ الرَّسُولُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-: "مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَقْرَأَ الْقُرْآنَ غَضًّا كَمَا أُنْزِلَ، فَلْيَقْرَأْهُ
عَلَى قِرَاءَةِ ابْنِ أُمِّ عَبْدٍ"[7].
يَعْنِي قِرَاءَةَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ،
فَإِنَّهُ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ نَدِيًّا مَجُودًا.
وَعِنْدَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو سَمِعْتُ
رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: "اقْرَءُوا الْقُرْآنَ
مِنْ أَرْبَعَةِ نَفَرٍ: مِنَ ابْنِ أُمِّ عَبْدٍ -فَبَدَأَ بِهِ- وَمِنْ أُبَيِّ بْنِ
كَعْبٍ، وَمِنْ سَالِمٍ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ، وَمِنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ"[8].
فَحَدِيثُ حَكِّ الْمُعَوِّذَتَيْنِ مِنَ الْمُصْحَفِ
حَدِيثٌ شَاذٌّ غَيْرُ صَحِيحٍ، لَا يُلْتَفَتُ إِلَى صِحَّةِ سَنَدِهِ، لِأَنَّهُ
خَالَفَ الْمُتَوَاتِرَ الصَّحِيحَ.
وَلِهَذَا الإِمَامُ الْبُخَارِيُّ -رَحِمَهُ
اللَّهُ- لَمَّا أَخْرَجَ حَدِيثَ زِرِّ بْنِ حُبَيْشٍ فِي الْمُعَوِّذَتَيْنِ فِي
كِتَابِ التَّفْسِيرِ مِنْ صَحِيحِهِ[9]،
ضَرَبَ عَلَى هَذِهِ الزِّيَادَةِ الشَّاذَّةِ، لِأَنَّهُ اشْتَرَطَ الصِّحَّةَ فِي
كِتَابِهِ، وَالْحَدِيثُ الصَّحِيحُ لَا يَكْتَفِي فِيهِ بِصِحَّةِ الإِسْنَادِ، بَلْ
لَا بُدَّ مِنْ خُلُوِّهِ مِنَ الشُّذُوذِ وَالْعِلَّةِ.
وَهَذَا مِثَالٌ عَمَلِيٌّ يُبَيِّنُ أَنَّ عَدَمَ
الْعِنَايَةِ بِعِلْمِ عِلَلِ الْحَدِيثِ وَالْتِزَامِ طَرِيقَةِ عُلَمَائِنَا الْأَوَائِلِ،
مَعَ الْعَضِّ عَلَى أَقْوَالِهِمْ وَمَا قَرَّرُوهُ فِي كُتُبِهِمْ، فَتَحَ أَبْوَابَ
الشُّبَهِ، وَأَظْهَرَ أَنَّ الشَّرِيعَةَ تَتَنَاقَضُ، وَهَذَا مُمْتَنِعٌ، لِأَنَّ
اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ
اخْتِلَافًا كَثِيرًا}.
فَلَوْ أَرَدْنَا الآنَ الحُكْمَ عَلَى حَدِيثِ
الصَّمَّاءِ فِي النَّهْيِ عَنْ صِيَامِ يَوْمِ السَّبْتِ فِي غَيْرِ الفَرِيضَةِ،
وَأَنْ يَكُونَ هَذَا الحُكْمُ صَحِيحًا تَطْمَئِنُّ إِلَيْهِ النَّفْسُ وَلَا يُخَالِفُ
أَوْ يَتَنَاقَضُ مَعَ أَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ.
فيَلْزَمُنَا اتِّبَاعُ طَرِيقَةِ عُلَمَائِنَا
الأَوَائِلِ، وَمَنْهَجِ عُلَمَاءِ العِلَلِ، وَالَّذِي نَذْكُرُ بَعْضَهُ مَرَّةً
أُخْرَى:
قَالَ الإِمَامُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ المُبَارَكِ
-رَحِمَهُ اللَّهُ-: "إِذَا أَرَدْتَ أَنْ يَصِحَّ لَكَ الحَدِيثُ فَاضْرِبْ بَعْضَهُ
بِبَعْضٍ".
وَقَالَ إِمَامُ العِلَلِ عَلِيُّ بْنُ المَدِينِيِّ:
"البَابُ إِذَا لَمْ تُجْمَعْ طُرُقُهُ لَمْ يَتَبَيَّنْ خَطَؤُهُ".
وَقَالَ الخَطِيبُ البَغْدَادِيُّ: "وَالسَّبِيلُ
إِلَى مَعْرِفَةِ عِلَّةِ الحَدِيثِ أَنْ يُجْمَعَ بَيْنَ طُرُقِهِ، وَيُنْظَرَ فِي
اخْتِلَافِ رُوَاتِهِ، وَيُعْتَبَرَ بِمَكَانَتِهِمْ مِنَ الحِفْظِ وَمَنْزِلَتِهِمْ
فِي الإِتْقَانِ وَالضَّبْطِ".
قُلْتُ: فَلْيَلْزَمْنَا الآنَ فِي ضَوْءِ هَذَا
جَمْعُ أَحَادِيثِ بَابِ الصِّيَامِ الَّتِي فِيهَا حَظْرٌ أَوْ إِبَاحَةُ صِيَامِ
النَّوَافِلِ، لِأَنَّ هَذَا هُوَ بَابُ حَدِيثِ الصَّمَّاءِ مَحَلُّ البَحْثِ.
وَنَبْدَأُ بِمَا أَخْرَجَهُ البُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي أَيُّوبَ الأَزْدِيِّ المَرَاغِيِّ، عَنْ جُوَيْرِيَةَ بِنْتِ الحَارِثِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا-، أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- دَخَلَ عَلَيْهَا يَوْمَ الجُمُعَةِ وَهِيَ صَائِمَةٌ، فَقَالَ: "أَصُمْتِ أَمْسِ؟"، قَالَتْ: لَا، قَالَ: "تُرِيدِينَ أَنْ تَصُومِي غَدًا؟" قَالَتْ: لَا، قَالَ: "فَأَفْطِرِي".
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "لَا تَصُومُوا يَوْمَ الجُمُعَةِ، إِلَّا وَقَبْلَهُ يوْمٌ أَوْ بَعْدَهُ يَوْمٌ".[10]
وَأَخْرَجَهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ مِنْ
حَدِيثِ زِيَادٍ الحَارِثِيِّ المَشْهُورِ بِأَبِي الأَوْبَرِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،
بِلَفْظِ: "لَا تَصُومُوا يَوْمَ الجُمُعَةِ، فَإِنَّهُ يَوْمُ عِيدٍ إِلَّا أَنْ
تَصِلُوهُ بِأَيَّامٍ".
وَعَنْ جُنَادَةَ الأَزْدِيِّ، أَنَّهُمْ دَخَلُوا
عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ثَمَانِيَةَ نَفَرٍ هُوَ
ثَامِنُهُمْ، فَقَرَّبَ إِلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
طَعَامًا يَوْمَ جُمُعَةٍ، فَقَالَ: "كُلُوا"، قَالُوا: صِيَامٌ، قَالَ:
"صُمْتُمْ أَمْسِ؟" قَالُوا: لَا، قَالَ: "فَصَائِمُونَ غَدًا؟"
قَالُوا: لَا، قَالَ: "فَأَفْطِرُوا"[11].
قُلْتُ: وَهَذِهِ الأَحَادِيثُ تَدُلُّ عَلَى جَوَازِ
صِيَامِ يَوْمِ السَّبْتِ فِي غَيْرِ الفَرِيضَةِ، لِأَنَّهَا تَتَكَلَّمُ عَنْ مَنْعِ
صِيَامِ الجُمُعَةِ مُفْرَدًا إِلَّا أَنْ يُصَامَ يَوْمٌ قَبْلَهُ، أَوْ يَوْمٌ بَعْدَهُ،
وَاليَوْمُ الَّذِي بَعْدَ الجُمُعَةِ هُوَ السَّبْتُ، وَهَذِهِ الأَحَادِيثُ تَتَكَلَّمُ
عَنْ صِيَامِ النَّفْلِ بِإِطْلَاقٍ، كَمَا فِي حَدِيثِ صِيَامِ جُوَيْرِيَةَ -رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهَا- وَغَيْرِهِ.
كَمَا جَاءَتْ أَحَادِيثُ أُخْرَى فِي التَّرْغِيبِ
فِي صِيَامِ النَّوَافِلِ بِإِطْلَاقٍ، مِنْ غَيْرِ اسْتِثْنَاءِ يَوْمِ السَّبْتِ
مِنْ غَيْرِهِ، مِنْهَا:
عَنْ أَبِي قَتَادَةَ الأَنْصَارِيِّ -رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ-، قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سُئِلَ
عَنْ صَوْمِ يَوْمِ عَرَفَةَ؟ فَقَالَ: "يُكَفِّرُ السَّنَةَ المَاضِيَةَ وَالبَاقِيَةَ"،
قَالَ: وَسُئِلَ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ عَاشُورَاءَ؟ فَقَالَ: "يُكَفِّرُ السَّنَةَ
المَاضِيَةَ"[12].
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا-، قَالَ: "مَا رَأَيْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
يَتَحَرَّى صِيَامَ يَوْمٍ فَضَّلَهُ عَلَى غَيْرِهِ إِلَّا هَذَا اليَوْمَ، يَوْمَ
عَاشُورَاءَ، وَهَذَا الشَّهْرَ يَعْنِي شَهْرَ رَمَضَانَ"[13].
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-،
قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "أَفْضَلُ
الصِّيَامِ بَعْدَ رَمَضَانَ، شَهْرُ اللَّهِ المُحَرَّمُ، وَأَفْضَلُ الصَّلَاةِ بَعْدَ
الفَرِيضَةِ، صَلَاةُ اللَّيْلِ"[14].
وَأَخْرَجَ البُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ أُمِّ المُؤْمِنِينَ
عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- قَالَتْ: "لَمْ يَكُنِ النَّبِيُّ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَصُومُ شَهْرًا أَكْثَرَ مِنْ شَعْبَانَ، فَإِنَّهُ كَانَ
يَصُومُ شَعْبَانَ كُلَّهُ".
وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ
عَبْدِ الرَّحْمَنِ، قَالَ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا-، عَنْ صِيَامِ
رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَقَالَتْ: "كَانَ يَصُومُ
حَتَّى نَقُولَ: قَدْ صَامَ وَيُفْطِرُ حَتَّى نَقُولَ: قَدْ أَفْطَرَ، وَلَمْ أَرَهُ
صَائِمًا مِنْ شَهْرٍ قَطُّ، أَكْثَرَ مِنْ صِيَامِهِ مِنْ شَعْبَانَ كَانَ يَصُومُ
شَعْبَانَ كُلَّهُ، كَانَ يَصُومُ شَعْبَانَ إِلَّا قَلِيلًا".
وَعَنْهَا -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا-، قَالَتْ:
كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- "يَصُومُ حَتَّى نَقُولَ:
لَا يُفْطِرُ، وَيُفْطِرُ حَتَّى نَقُولَ: لَا يَصُومُ، فَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- اسْتَكْمَلَ صِيَامَ شَهْرٍ إِلَّا رَمَضَانَ،
وَمَا رَأَيْتُهُ أَكْثَرَ صِيَامًا مِنْهُ فِي شَعْبَانَ"[15].
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ: قَالَ
لِي رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "أَحَبُّ الصِّيَامِ
إِلَى اللَّهِ صِيَامُ دَاوُدَ، كَانَ يَصُومُ يَوْمًا وَيُفْطِرُ يَوْمًا، وَأَحَبُّ
الصَّلَاةِ إِلَى اللَّهِ صَلَاةُ دَاوُدَ، كَانَ يَنَامُ نِصْفَ اللَّيْلِ وَيَقُومُ
ثُلُثَهُ، وَيَنَامُ سُدُسَهُ"[16].
وَعَنْهُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، عَنِ النَّبِيِّ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، قَالَ: "صُمْ مِنَ الشَّهْرِ ثَلَاثَةَ
أَيَّامٍ"، قَالَ: أَطِيقُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، فَمَا زَالَ حَتَّى قَالَ:
"صُمْ يَوْمًا وَأَفْطِرْ يَوْمًا"[17].
وَفِي
رِوَايَةِ مُسْلِمٍ، قَالَ لَهُ الرَّسُولُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:
"صُمْ مِنَ الشَّهْرِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، فَإِنَّ الحَسَنَةَ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، وَذَلِكَ
مِثْلُ صِيَامِ الدَّهْرِ"، قال: فَإِنِّي أَطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ، قَالَ:
"صُمْ يَوْمًا وَأَفْطِرْ يَوْمَيْنِ"، قال: فَإِنِّي أَطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ
ذَلِكَ، يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: "صُمْ يَوْمًا وَأَفْطِرْ يَوْمًا، وَذَلِكَ
صِيَامُ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَهُوَ أَعْدَلُ الصِّيَامِ".
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، قَالَ: أَوْصَانِي خَلِيلِي بِثَلَاثٍ لَا أَدَعُهُنَّ حَتَّى أَمُوتَ: "صَوْمُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ، وَصَلَاةُ الضُّحَى، وَنَوْمٌ عَلَى وِتْرٍ"[18].
وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ، قَالَ: أَوْصَانِي
حَبِيبِي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِثَلَاثٍ، لَنْ أَدَعَهُنَّ مَا عِشْتُ:
"بِصِيَامِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ، وَصَلَاةِ الضُّحَى، وَبِأَنْ
لَا أَنَامَ حَتَّى أُوتِرَ"[19].
وَعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ -رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا-، أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ لِرَجُلٍ:
"هَلْ صُمْتَ مِنْ سِرَرِ هَذَا الشَّهْرِ شَيْئًا؟"-أَظُنُّهُ قَالَ: يَعْنِي
رَمَضَانَ- قَالَ: لَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:
"فَإِذَا أَفْطَرْتَ مِنْ رَمَضَانَ، فَصُمْ يَوْمَيْنِ مَكَانَهُ"[20].
وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ: عَنْ عِمْرَانَ،
عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "مَنْ سِرَرِ شَعْبَانَ".
قَالَ ابْنُ حِبَّانَ بَعْدَ أَنْ أَخْرَجَ الحَدِيثَ
فِي صَحِيحِهِ: "قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ‘أَصُمْتَ مِنْ
سِرَرِ هَذَا الشَّهْرِ’، لَفْظَةُ اسْتِخْبَارٍ عَنْ فِعْلٍ مُرَادُهَا الإِعْلَامُ
بِنَفْيِ جَوَازِ اسْتِعْمَالِ ذَلِكَ الفِعْلِ المُسْتَخْبَرِ عَنْهُ كَالْمُنْكَرِ
عَلَيْهِ لَوْ فَعَلَهُ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِعَائِشَةَ:
‘أَتَسْتُرِينَ الجِدَارَ’، أَرَادَ بِهِ الإِنْكَارَ عَلَيْهَا بِلَفْظِ الاسْتِخْبَارِ،
وَأَمْرُهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِصَوْمِ يَوْمَيْنِ مِنْ شَوَّالٍ،
أَرَادَ بِهِ أَنَّهَا السِّرَارُ، وَذَلِكَ أَنَّ الشَّهْرَ إِذَا كَانَ تِسْعًا وَعِشْرِينَ
يَسْتَتِرُ القَمَرُ يَوْمًا وَاحِدًا، وَإِذَا كَانَ الشَّهْرُ ثَلَاثِينَ يَسْتَتِرُ
القَمَرُ يَوْمَيْنِ، وَالوَقْتُ الَّذِي خَاطَبَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
بِهَذَا الخِطَابِ يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ عَدَدُ شَعْبَانَ كَانَ ثَلَاثِينَ مِنْ أَجْلِهِ
أَمَرَ بِصَوْمِ يَوْمَيْنِ مِنْ شَوَّالٍ". اهـ
قُلْتُ: فِي هَذَا القَدْرِ كِفَايَةٌ لِبَيَانِ
أَنَّ صِيَامَ النَّوَافِلِ مَشْرُوعٌ بِإِطْلَاقٍ طَوَالَ أَيَّامِ الأُسْبُوعِ، بِمَا
فِيهَا يَوْمُ السَّبْتِ، وَلَمْ يَرِدِ النَّهْيُ إِلَّا عَنْ صِيَامِ يَوْمِ الجُمُعَةِ
مُنْفَرِدًا، فَيُصَامُ مَعَهُ يَوْمٌ قَبْلَهُ أَوْ بَعْدَهُ.
وَهَذِهِ الأَحَادِيثُ فِي قِمَّةِ الصِّحَّةِ، لَا مَطْعَنَ فِي شَيْءٍ مِنْهَا، فَكُلُّهَا إِمَّا فِي الصَّحِيحَيْنِ أَوْ فِي أحَدِهِمَا، وَجَمِيعُهَا تُبِيحُ صِيَامَ يَوْمِ السَّبْتِ. وَهَذَا مَا فَهِمَهُ العُلَمَاءُ، فَأَعْلَوْا بِهَا حَدِيثَ النَّهْيِ عَنْ صِيَامِ يَوْمِ السَّبْتِ فِي غَيْرِ الفَرِيضَةِ، وَالَّذِي نَصُّهُ: "لَا تَصُومُوا يَوْمَ السَّبْتِ، إِلَّا فِيمَا افْتُرِضَ عَلَيْكُمْ، وَإِنْ لَمْ يَجِدْ أَحَدُكُمْ إِلَّا عُودَ عِنَبٍ، أَوْ لِحَاءَ شَجَرَةٍ فَلْيَمْضَغْهُ".
قَالَ الطَّحَاوِيُّ فِي شَرْحِ مَعَانِي الآثَارِ،
بَعْدَ أَنْ أَخْرَجَ الحَدِيثَ: "فَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى هَذَا الحَدِيثِ، فَكَرِهُوا
صَوْمَ يَوْمِ السَّبْتِ تَطَوُّعًا. وَخَالَفَهُمْ فِي ذَلِكَ آخَرُونَ، فَلَمْ يَرَوْا
بِصَوْمِهِ بَأْسًا.
وَكَانَ مِنَ الحُجَّةِ عَلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ
أَنَّهُ قَدْ جَاءَ الحَدِيثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
أَنَّهُ ‘نَهَى عَنْ صَوْمِ يَوْمِ الجُمُعَةِ إِلَّا أَنْ يُصَامَ قَبْلَهُ يَوْمٌ،
أَوْ بَعْدَهُ يَوْمٌ’... فَاليَوْمُ الَّذِي بَعْدَهُ هُوَ يَوْمُ السَّبْتِ.
فَفِي هَذِهِ الآثَارِ المَرْوِيَّةِ إِبَاحَةُ
صَوْمِ يَوْمِ السَّبْتِ تَطَوُّعًا، وَهِيَ أَشْهَرُ وَأَظْهَرُ فِي أَيْدِي العُلَمَاءِ،
مِنْ هَذَا الحَدِيثِ الشَّاذِّ الَّذِي خَالَفَهَا.
وَقَدْ ‘أَذِنَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي صَوْمِ عَاشُورَاءَ وَحَضَّ عَلَيْهِ’ وَلَمْ يَقُلْ إِنْ
كَانَ يَوْمَ السَّبْتِ فَلَا تَصُومُوهُ، فَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى دُخُولِ كُلِّ
الأَيَّامِ فِيهِ.
وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ‘أَحَبُّ الصِّيَامِ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ صِيَامُ دَاوُدَ
عَلَيْهِ السَّلَامُ، كَانَ يَصُومُ يَوْمًا، وَيُفْطِرُ يَوْمًا’... فَفِي ذَلِكَ
أَيْضًا التَّسْوِيَةُ بَيْنَ يَوْمِ السَّبْتِ وَبَيْنَ سَائِرِ الأَيَّامِ.
وَقَدْ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَيْضًا بِصِيَامِ أَيَّامِ البِيضِ وَرُوِيَ عَنْهُ فِي ذَلِكَ"[21].
قُلْتُ: فَالإِمَامُ الطَّحَاوِيُّ -رَحِمَهُ
اللَّهُ- ذَهَبَ إِلَى شُذُوذِ هَذَا الحَدِيثِ لِأَنَّهُ رُوِيَ بِأَسَانِيدَ أَقْوَى منْهُ مَا يُخَالِفُهُ، كَحَدِيثِ صِيَامِ يَوْمِ
عَاشُورَاءَ، وَصِيَامِ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَصِيَامِ الأَيَّامِ القَمَرِيَّةِ.
ثُمَّ إِنَّ شُذُوذَ هَذَا الحَدِيثِ يَتَّضِحُ
أَكْثَرَ إِنْ عَلِمْنَا أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ
يَصُومُ يَوْمَ السَّبْتِ، فَعَنْ كَرِيبٍ، أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ بَعَثَ إِلَى أُمِّ
سَلَمَةَ وَإِلَى عَائِشَةَ يَسْأَلُهُمَا: مَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُحِبُّ أَنْ يَصُومَ مِنَ الأَيَّامِ، فَقَالَتَا: مَا مَاتَ
رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حَتَّى كَانَ أَكْثَرَ صَوْمِهِ
يَوْمَ السَّبْتِ وَالأَحَدِ، وَيَقُولُ: "هُمَا عِيدَانِ لِأَهْلِ الكِتَابِ
فَنَحْنُ نُحِبُّ أَنْ نُخَالِفَهُمْ"[22].
وَعَنْ مُعَاذَةَ العَدَوِيَّةِ قَالَتْ:
قُلْتُ لِعَائِشَةَ: أَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
يَصُومُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ؟ قَالَتْ: "نَعَمْ"،
قُلْتُ: مِنْ أَيِّهِ كَانَ يَصُومُ؟ قَالَتْ: "كَانَ لَا يُبَالِي مِنْ أَيِّهِ
صَامَ"[23].
قُلْتُ: وَيَحْسُنُ بَعْدَ هَذَا البَيَانِ ذِكْرُ
كَلَامِ أَئِمَّةِ الصَّنْعَةِ فِي الحُكْمِ عَلَى هَذَا الحَدِيثِ، لِيَتَبَيَّنَ
لِلْقَارِئِ أَنَّ لَنَا سَلَفًا فِيمَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ، وَأَنَّ هَذَا الحُكْمَ
هُوَ مَا يَنْبَغِي أَنْ يُتَدَيَّنَ بِهِ.
بَيْدَ أَنِّي أُرِيدُ قَبْلَ ذِكْرِ قَوْلِ هَؤُلَاءِ
الأَئِمَّةِ، أَنْ أَذْكُرَ كَلِمَةً قَالَهَا العَلَّامَةُ المُحَقِّقُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ
المُعَلَّمِيُّ -رَحِمَهُ اللَّهُ- تُوَضِّحُ لِلْقَارِئِ اخْتِلَافَ كَلِمَةِ هَؤُلَاءِ
النُّقَّادِ فِي إِعْلَالِ الحَدِيثِ، فَمِنْهُمْ مَنْ أَعَلَّهُ بِاضْطِرَابٍ، وَمِنْهُمْ
مَنْ قَالَ إِنَّهُ مَنْسُوخٌ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ مَكْذُوبٌ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ.
فَاخْتِلَافُ كَلِمَتِهِمْ هُنَا لَا يُؤَثِّرُ
فِي شَيْءٍ، إِذْ أَجْمَعُوا عَلَى رَدِّ الحَدِيثِ وَعَدَمِ العَمَلِ بِهِ.
قَالَ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: "إِذَا اسْتَنْكَرَ
الأَئِمَّةُ المُحَقِّقُونَ المَتْنَ، وَكَانَ ظَاهِرُ السَّنَدِ الصِّحَّةَ، فَإِنَّهُمْ
يَتَطَلَّبُونَ لَهُ عِلَّةً، فَإِذَا لَمْ يَجِدُوا عِلَّةً قَادِحَةً مُطْلَقًا،
حَيْثُ وَقَعَتْ، أَعَلُّوهُ بِعِلَّةٍ لَيْسَتْ بِقَادِحَةٍ مُطْلَقًا، وَلَكِنَّهُمْ
يَرَوْنَهَا كَافِيَةً لِلْقَدْحِ فِي ذَاكَ المُنْكَرِ.
فَمِنْ ذَلِكَ: إِعْلَالُهُ بِأَنَّ رَاوِيَهُ
لَمْ يُصَرِّحْ بِالسَّمَاعِ، هَذَا مَعَ أَنَّ الرَّاوِيَ غَيْرُ مُدَلِّسٍ...
وَمِنْ ذَلِكَ: الإِعْلَالُ بِالحَمْلِ عَلَى الخَطَإِ،
وَإِنْ لَمْ يَتَبَيَّنْ وَجْهُهُ...
وَمِنْ ذَلِكَ: إِعْلَالُهُمْ بِظَنِّ أَنَّ الحَدِيثَ
أُدْخِلَ عَلَى الشَّيْخِ..."[24].
قُلْتُ: قَدَّمْتُ بِذَلِكَ، لِأَنِّي وَجَدْتُ
فِي كَلَامِ بَعْضِ المُتَأَخِّرِينَ رَدًّا لِحُكْمِ هَؤُلَاءِ الأَوَائِلِ الأَعْلَامِ،
بِأَنَّهُ لَمْ يَظْهَرْ حُجَّةُ النَّسْخِ، أَوْ أَنَّهُمْ تَأَوَّلُوا قَوْلَ الإِمَامِ
مَالِكٍ عِنْدَمَا قَالَ: إِنَّهُ حَدِيثُ كَذِبٍ، وَهَكَذَا...
وَالإِمَامُ المُعَلَّمِيُّ يَقُولُ فِي هَذَا
المَقَامِ: "إِذَا اسْتَنْكَرَ الأَئِمَّةُ المُحَقِّقُونَ المَتْنَ، وَكَانَ
ظَاهِرُ السَّنَدِ الصِّحَّةَ، فَإِنَّهُمْ يَتَطَلَّبُونَ لَهُ عِلَّةً، فَإِذَا لَمْ
يَجِدُوا عِلَّةً قَادِحَةً مُطْلَقًا، حَيْثُ وَقَعَتْ، أَعَلُّوهُ بِعِلَّةٍ لَيْسَتْ
بِقَادِحَةٍ مُطْلَقًا، وَلَكِنَّهُمْ يَرَوْنَهَا كَافِيَةً لِلْقَدْحِ فِي ذَاكَ
المُنْكَرِ".
فَمَنْ أَشْكَلَ عَلَيْهِ الأَمْرُ وَظَنَّ أَنَّ
كَلِمَةَ العُلَمَاءِ اخْتَلَفَتْ فِي تَضْعِيفِ الحَدِيثِ، فَلْيُؤَمِّلْ قَوْلَ هَذَا
الإِمَامِ المُعَلَّمِيِّ المُحَقِّقِ -رَحِمَهُ اللهُ-.
قَالَ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ: كَانَ ابْنُ شِهَابٍ
الزُّهْرِيُّ إِذَا ذُكِرَ لَهُ حَدِيثُ النَّهْيِ عَنْ صِيَامِ يَوْمِ السَّبْتِ،
يَقُولُ: "هَذَا حَدِيثٌ حِمْصِيٌّ"[25].
وَقَالَ الطَّحَاوِيُّ: "وَلَقَدْ أَنْكَرَ
الزُّهْرِيُّ حَدِيثَ الصَّمَّاءِ فِي كَرَاهَةِ صَوْمِ يَوْمِ السَّبْتِ، وَلَمْ يَعُدَّهُ
مِنْ حَدِيثِ أَهْلِ العِلْمِ، بَعْدَ مَعْرِفَتِهِ بِهِ"[26].
وَسَاقَ بِسَنَدِهِ إِلَى اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ،
قَالَ: "سُئِلَ الزُّهْرِيُّ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ السَّبْتِ، فَقَالَ: لَا بَأْسَ
بِهِ، فَقِيلَ لَهُ: فَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
فِي كَرَاهَتِهِ، فَقَالَ: ذَاكَ حَدِيثٌ حِمْصِيٌّ. فَلَمْ يَعُدَّهُ الزُّهْرِيُّ
حَدِيثًا يُقَالُ بِهِ، وَضَعَّفَهُ"[27].
وَقَالَ الأَوْزَاعِيُّ -رَحِمَهُ اللَّهُ-:
"مَا زِلْتُ لَهُ كَاتِمًا حَتَّى رَأَيْتُهُ انْتَشَرَ، يَعْنِي حَدِيثَ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ بُسْرٍ هَذَا فِي صَوْمِ يَوْمِ السَّبْتِ"[28].
وَنَقَلَ أَبُو دَاوُدَ صَاحِبُ السُّنَنِ عَنِ
الإِمَامِ مَالِكٍ، أَنَّهُ قَالَ: "هَذَا كَذِبٌ"[29].
وَأَمَّا هُوَ فَقَالَ: "وَهَذَا حَدِيثٌ
مَنْسُوخٌ"[30].
وَنَقَلَ أَبُو بَكْرٍ الأَثْرَمُ قَوْلَ الإِمَامِ أَحْمَدَ فِي الحَدِيثِ،
فقَالَ: "سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يُسْأَلُ عَنْ صِيَامِ يَوْمِ السَّبْتِ
يَتَفَرَّدُ بِهِ؟ فَقَالَ: أَمَّا صِيَامُ يَوْمِ السَّبْتِ يَتَفَرَّدُ بِهِ، فَقَدْ
جَاءَ فِي ذَلِكَ الحَدِيثُ حَدِيثُ الصَّمَّاءِ، يَعْنِي حَدِيثَ ثَوْرٍ عَنْ يَزِيدَ
عَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُسْرٍ، عَنْ أُخْتِهِ الصَّمَّاءِ،
عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: لَا تَصُومُوا يَوْمَ السَّبْتِ
إِلَّا فِيمَا افْتُرِضَ عَلَيْكُمْ".
قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: "وَكَانَ
يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ [القَطَّانُ] يَتَّقِيهِ، وَأَبَى أَنْ يُحَدِّثَنِي بِهِ، وَقَدْ
كَانَ سَمِعَهُ مِنْ ثَوْرٍ، قَالَ: فَسَمِعْتُهُ مِنْ أَبِي عَاصِمٍ [النَّبِيلِ]".
قَالَ الأَثْرَمُ: وَحُجَّةُ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ
فِي الرُّخْصَةِ فِي صَوْمِ يَوْمِ السَّبْتِ: أَنَّ الأَحَادِيثَ كُلَّهَا مُخَالِفَةٌ
لِحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُسْرٍ، مِنْهَا حَدِيثُ أُمِّ سَلَمَةَ حِينَ سُئِلَتْ:
"أَيُّ الأَيَّامِ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
أَكْثَرَ صِيَامًا لَهَا؟ فَقَالَتْ: السَّبْتُ وَالأَحَدُ".
وَمِنْهَا: حَدِيثُ جُوَيْرِيَةَ أَنَّ النَّبِيَّ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ لَهَا يَوْمَ الجُمُعَةِ: "أَصُمْتِ
أَمْسَ؟" قَالَتْ: لَا، قَالَ: "أَتُرِيدِينَ أَنْ تَصُومِي غَدًا؟".
فَالغَدُ هُوَ يَوْمُ السَّبْتِ.
وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ: "نَهَى النَّبِيُّ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنْ صَوْمِ يَوْمِ الجُمُعَةِ إِلَّا بِيَوْمٍ
قَبْلَهُ أَوْ يَوْمٍ بَعْدَهُ". فَاليَوْمُ الَّذِي بَعْدَهُ هُوَ يَوْمُ السَّبْتِ.
وَمِنْهَا: أَنَّهُ كَانَ يَصُومُ شَعْبَانَ كُلَّهُ،
وَفِيهِ يَوْمُ السَّبْتِ.
وَمِنْهَا: أَنَّهُ أَمَرَ بِصَوْمِ المُحَرَّمِ
وَفِيهِ يَوْمُ السَّبْتِ، وَقَالَ: "مَنْ صَامَ رَمَضَانَ، وَأَتْبَعَهُ بِسِتٍّ
مِنْ شَوَّالٍ"، وَقَدْ يَكُونُ فِيهَا السَّبْتُ.
وَأَمَرَ بِصِيَامِ أَيَّامِ البِيضِ، وَقَدْ
يَكُونُ فِيهَا السَّبْتُ. وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ"[31].
قَالَ شَيْخُ الإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ
-رَحِمَهُ اللَّهُ- مُعَقِّبًا عَلَى هَذَا الكَلَامِ: "فَهَذَا الأَثْرَمُ، فَهِمَ
مِنْ كَلَامِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ تَوَقَّفَ عَنِ الأَخْذِ بِالحَدِيثِ، وَأَنَّهُ
رَخَّصَ فِي صَوْمِهِ، حَيْثُ ذَكَرَ الحَدِيثَ الَّذِي يُحْتَجُّ بِهِ فِي الكَرَاهَةِ،
وَذَكَرَ أَنَّ الإِمَامَ فِي عِلَلِ الحَدِيثِ يَحْيَى بْنَ سَعِيدٍ كَانَ يَتَّقِيهِ،
وَأَبَى أَنْ يُحَدِّثَ بِهِ، فَهَذَا تَضْعِيفٌ لِلْحَدِيثِ.
وَاحْتَجَّ الأَثْرَمُ بِمَا دَلَّ مِنَ النُّصُوصِ
المُتَوَاتِرَةِ، عَلَى صَوْمِ يَوْمِ السَّبْتِ، وَلَا يُقَالُ: يُحْمَلُ النَّهْيُ
عَلَى إِفْرَادِهِ؛ لِأَنَّ لَفْظَهُ: "لَا تَصُومُوا يَوْمَ السَّبْتِ إِلَّا
فِيمَا افْتُرِضَ عَلَيْكُمْ"، وَالِاسْتِثْنَاءُ دَلِيلُ التَّنَاوُلِ، وَهَذَا
يَقْتَضِي أَنَّ الحَدِيثَ عَمَّ صَوْمَهُ عَلَى كُلِّ وَجْهٍ، وَإِلَّا لَوْ أُرِيدَ
إِفْرَادُهُ لَمَا دَخَلَ الصَّوْمُ المَفْرُوضُ لِيُسْتَثْنَى؛ فَإِنَّهُ لَا إِفْرَادَ
فِيهِ، فَاسْتِثْنَاؤُهُ دَلِيلٌ عَلَى دُخُولِ غَيْرِهِ، بِخِلَافِ يَوْمِ الجُمُعَةِ،
فَإِنَّهُ بَيَّنَ أَنَّهُ إِنَّمَا نَهَى عَنْ إِفْرَادِهِ.
وَعَلَى هَذَا؛ فَيَكُونُ الحَدِيثُ: إِمَّا شَاذًّا
غَيْرَ مَحْفُوظٍ، وَإِمَّا مَنْسُوخًا، وَهَذِهِ طَرِيقَةُ قُدَمَاءِ أَصْحَابِ أَحْمَدَ
الَّذِينَ صَحِبُوهُ كَالأَثْرَمِ، وَأَبِي دَاوُدَ"[32].
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الأَثْرَمُ أَيْضًا:
"فَجَاءَ هَذَا الحَدِيثُ بِمَا خَالَفَ الأَحَادِيثَ كُلَّهَا فَمِنْ ذَلِكَ
حَدِيثُ عَلِيٍّ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَجُنْدَبٍ أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَمَرَ بِصَوْمِ المُحَرَّمِ".
فَفِي المُحَرَّمِ السَّبْتُ، وَلَيْسَ مِمَّا
افْتُرِضَ.
وَمِنْ ذَلِكَ حَدِيثُ أُمِّ سَلَمَةَ وَعَائِشَةَ،
وَأُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ وَأَبِي ثَعْلَبَةَ، وَابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ يَصُومُ شَعْبَانَ. وَفِيهِ السَّبْتُ.
وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، قَالَ: "مَنْ صَامَ رَمَضَانَ وَأَتْبَعَهُ
سِتًّا مِنْ شَوَّالٍ فَكَأَنَّمَا صَامَ الدَّهْرَ". وَقَدْ يَكُونُ فِيهِ السَّبْتُ.
وَمِنْ ذَلِكَ الأَحَادِيثُ الكَثِيرَةُ عَنِ النَّبِيِّ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي صَوْمِ عَاشُورَاءَ. وَقَدْ يَكُونُ يَوْمُ
السَّبْتِ.
وَمِنْ ذَلِكَ: التَّرْغِيبُ فِي صَوْمِ يَوْمِ
عَرَفَةَ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَيْضًا، وَقَدْ يَكُونُ
يَوْمُ السَّبْتِ، وَمِنْ ذَلِكَ الأَحَادِيثُ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- فِي صِيَامِ البِيضِ، وَقَدْ يَكُونُ فِيهِ السَّبْتُ.
وَأَشْيَاءُ كَثِيرَةٌ تُوَافِقُ هَذِهِ الأَحَادِيثَ"[33].
وَأما الإِمَامُ التِّرْمِذِيُّ فقد أَعَلَّهُ
بِقَوْلِهِ: "هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ"، وَالحَدِيثُ الحَسَنُ المُجَرَّدُ عِنْدَهُ،
هُوَ حَدِيثٌ مَعْلُولٌ، فَإِنَّهُ كَمَا تَعْرِيفُهُ لَهُ فِي كِتَابِهِ العِلَلِ
الصَّغِيرِ، نَفَى عَنْهُ الشُّذُوذَ، وَلَمْ يَنْفِ عَنْهُ العِلَّةَ.
وَهَذَا التَّعْرِيفُ خَاصٌّ بِهِ، بِخِلَافِ
مَا اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ أَهْلُ المُصْطَلَحِ، بِأَنَّ الحَدِيثَ الحَسَنَ قِسْمٌ مِنَ
الصَّحِيحِ.
وَقَدْ بَسَطْتُ هَذِهِ المَسْأَلَةَ فِي غَيْرِ
هَذَا المَوْضِعِ، فَلَا دَاعِيَ لِلْإِعَادَةِ.
وَأَمَّا الإِمَامُ النَّسَائِيُّ -رَحِمَهُ اللَّهُ-
فَقَدْ تَتَبَّعَ طُرُقَ الحَدِيثِ فِي سُنَنِهِ الكُبْرَى، وَذَكَرَ أَوْجُهَ الاخْتِلَافِ
عَلَى "عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُسْرٍ" صَحَابِيِّ الحَدِيثِ، وَ"ثَوْرِ
بْنِ يَزِيدَ" رَاوِي الحَدِيثِ الَّذِي عَلَيْهِ المَدَارُ، وَبَلَغَتْ أَوْجُهُ
الاخْتِلَافِ ثَلَاثَةَ عَشَرَ وَجْهًا، ثُمَّ حَكَمَ عَلَيْهِ بِالاضْطِرَابِ[34].
وَقَالَ ابْنُ العَرَبِيِّ المَالِكِيُّ: "وَأَمَّا يَوْمُ السَّبْتِ فَلَمْ يَصِحَّ فِيهِ الحَدِيثُ"[35].
وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: "وَالحَدِيثُ مَعْلُولٌ
بِالاضْطِرَابِ"[36].
وَقَالَ فِي بُلُوغِ المَرَامِ: "رَوَاهُ
الخَمْسَةُ، وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ، إِلَّا أَنَّهُ مُضْطَرِبٌ، وَقَدْ أَنْكَرَهُ مَالِكٌ،
وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ: هُوَ مَنْسُوخٌ"[37].
وَقَالَ أَيْضًا بَعْدَ نَقْلِهِ عَنِ النَّسَائِيِّ
أَنَّ الحَدِيثَ مُضْطَرِبٌ: "هَذَا التَّلَوُّنُ فِي الحَدِيثِ الوَاحِدِ بِالإِسْنَادِ
الوَاحِدِ مَعَ اتِّحَادِ المَخْرَجِ، يُوهِنُ رَاوِيَهُ وَيَنْبِئُ بِقِلَّةِ ضَبْطِهِ،
إِلَّا أَنْ يَكُونَ مِنَ الحُفَّاظِ المُكْثِرِينَ المَعْرُوفِينَ بِجَمْعِ طُرُقِ
الحَدِيثِ، فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ دَالًّا عَلَى قِلَّةِ ضَبْطِهِ، وَلَيْسَ الأَمْرُ
هُنَا كَذَا"[38].
قُلْتُ: فَهَؤُلَاءِ أَئِمَّةٌ حُفَّاظٌ أَعَلُّوا
هَذَا الحَدِيثَ، وَبَيَّنُوا أَنَّهُ غَيْرُ مَحْفُوظٍ، وَلَوْ تَأَمَّلْنَا أَيْضًا
عُزُوفَ صَاحِبَيِ الصَّحِيحِ عَنْ هَذَا الحَدِيثِ، لَظَهَرَ لَنَا عَدَمُ رِضَاهُمَا
عَنْهُ مَعَ أَهَمِّيَّتِهِ، وَذَلِكَ لِشُذُوذِهِ، وَهَذِهِ هِيَ طَرِيقَةُ هَذَيْنِ
الإِمَامَيْنِ فِي إِعْلَالِ الأَحَادِيثِ، وَقَدْ نَبَّهَ عَلَيْهَا أَبُو بَكْرٍ
ابْنُ العَرَبِيِّ -رَحِمَهُ اللَّهُ-[39].
نَعَمْ؛ وُجِدَ مَنْ حَسَّنَ الحَدِيثَ أَوْ صَحَّحَهُ،
وَلَكِنَّهُمْ لَيْسُوا فِي قَامَةِ هَؤُلَاءِ الجَهَابِذَةِ الحُفَّاظِ، الَّذِينَ
حَفِظُوا أُصُولَ الأَحَادِيثِ، وَأَحَادِيثَ المَشَايِخِ، وَمَخَارِجَها، وَأَعْلَامَ
البِلَادِ الَّذِينَ عَلَيْهِمُ المَدَارُ.
وَلِهَذَا كَلِمَةُ هَؤُلَاءِ لَا تُعَارَضُ بِمَنْ
دُونَهُمْ مِمَّنْ صَحَّحُوا الحَدِيثَ لِظَاهِرِ سَنَدِهِ، فَالعِلَلُ الخَفِيَّةُ
تَكُونُ فِي العَادَةِ مِنْ أَخْطَاءِ الثِّقَاتِ، فَلَيْسَتِ العِبْرَةُ فِيهَا بِصِحَّةِ
السَّنَدِ، وَلَكِنْ بِخُلُوِّ الحَدِيثِ مِنَ العِلَّةِ وَالشُّذُوذِ، وَهَذَا الَّذِي
لَمْ يَتَوَفَّرْ فِي هَذَا الحَدِيثِ.
فَعلم عِلَلُ الحَدِيثِ لَيْسَ لَهَا تَعَلُّقٌ
بِضَعْفِ الرُّوَاةِ، فَرُبَّمَا يَصِحُّ الإِسْنَادُ، وَيَكُونُ فِي الحَدِيثِ عَيْبٌ خفِيٌّ يَطَّلِعُ عَلَيْهِ النُّقَّادُ وَالجَهَابِذَةُ.
أَوْ يَكُونُ الحَدِيثُ ظَاهِرُ إِسْنَادِهِ الصِّحَّةَ،
كَهَذَا الحَدِيثِ، وَلَكِنَّهُ شَاذٌّ، يُخَالِفُ مَا صَحَّ فِي الشَّرِيعَةِ.
فَهَذَا الحَدِيثُ خَالَفَ أَحَادِيثَ صِيَامِ
النَّوَافِلِ، وَالَّتِي لَمْ تَأْتِ مُقَيَّدَةً بِقَيْدٍ إِلَّا فِي يَوْمِ الجُمُعَةِ،
فَلَا يُفْرَدُ بِالصِّيَامِ، وَإِنَّمَا يُصَامُ يَوْمًا قَبْلَهُ أَوْ يَوْمًا بَعْدَهُ،
وَهَذَا الحَدِيثُ فِي قِمَّةِ الصِّحَّةِ، فَهُوَ مُتَّفَقٌ عَلَى صِحَّتِهِ.
أَمَّا
غَيْرُ يَوْمِ الجُمُعَةِ، فَلَمْ يَأْتِ تَقْيِيدٌ لِلصَّوْمِ فِي سَائِرِ الأَيَّامِ
إِلَّا فِي هَذَا الحَدِيثِ الشَّاذِّ.
وَلِهَذَا نَجِدُ مَنْ يَأْخُذُ بِفِقْهِهِ يُغْرِبُ،
وَيَضَعُ قُيُودًا لَيْسَتْ مَوْجُودَةً فِي الحَدِيثِ، كَالفِطْرِ فِي الأَيَّامِ
الَّتِي رَغَّبَ الرَّسُولُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي صَوْمِهَا، كَيَوْمِ
عَرَفَةَ وَيَوْمِ عَاشُورَاءَ، فَيَقُولُ: إِنْ وَافَقَتْ هَذِهِ الأَيَّامُ يَوْمَ
سَبْتٍ، فَلَا تُصَامُ، وَاللَّهُ المُسْتَعَانُ.
وَهَذَا
كَلَامٌ لَا نَعْلَمُ لِقَائِلِهِ سَلَفًا مِنْ عُلَمَاءِ الأُمَّةِ، لِشُذُوذِ الحَدِيثِ
وَخَطَئِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَيَبْقَى فِي هَذَا المَقَامِ كَلِمَةٌ خَتَامِيَّةٌ، كُنْتُ
أَوَدُّ لَوْ أَنْقُلُهَا عَنْ غَيْرِي، لَكِنِّي -مَعَ الأَسَفِ- لَمْ أَقف عَلَيْهَا،
فَأَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يُفْهَمَ قَوْلِي عَلَى وَجْهِهِ الصَّحِيحِ، وَأَعُوذُ بِهِ
مِنْ شَرِّ زَلَّتِهِ.
هَذِهِ الكَلِمَةُ تَتَعَلَّقُ بِالشَّيْخِ العَلَّامَةِ
المُحَدِّثِ نَاصِرِ الدِّينِ الأَلْبَانِيِّ -رَحِمَهُ اللَّهُ وَجَعَلَهُ مِنْ أَهْلِ
الفِرْدَوْسِ الأَعْلَى-، فَهُوَ مِحْنَةٌ لِأَهْلِ السُّنَّةِ فِي هَذَا العَصْرِ،
يُمْتَحَنُونَ بِهِ، كَمَا امْتُحِنَ النَّاسُ بِالإِمَامِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ
فِي زَمَنِهِ، وَبِالإِمَامِ البَرْبَهَارِيِّ وَابْنِ تَيْمِيَّةَ وَغَيْرِهِمْ مِنْ
أَعْلَامِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالأَثَرِ.
وَتَعْظِيمُ
أَهْلِ السُّنَّةِ لِلشَّيْخِ الأَلْبَانِيِّ لَيْسَ مُجَرَّدَ كَوْنِهِ مُحَدِّثًا،
أَوْ لِتَحْقِيقِهِ كُتُبًا لَمْ يَسْبِقْهُ إِلَيْهَا.
بَلْ لِأَنَّهُ أَحْيَا السُّنَّةَ فِي العَالَمِ
الإِسْلَامِيِّ في هذا العصر، وَجَدَّدَ اللَّهُ بِهِ مَنْهَجَ السَّلَفِ وَمُعْتَقَدَهُمْ،
فَنَاظَرَ وَأَلَّفَ وَبَيَّنَ بِجَلَاءٍ، فَكَانَ كَالنُّورِ السَّاطِعِ فِي ظُلْمَةِ
الجَهْلِ وَالبِدَعِ.
فَمَنْ يُعَادِيهِ غَالِبًا هُمْ أَهْلُ البِدَعِ،
الَّذِينَ كَشَفَ الشَّيْخُ زَيْفَهُمْ فِي مُنَاظَرَاتِهِ، وَسَفَّهَ أَوْهَامَهُمْ
فِي مُؤَلَّفَاتِهِ، وَفَضَحَ جَهْلَهُمْ وَأَهْوَاءَهُمْ وَمَا أَحْدَثُوهُ مِنْ بدع
وزَيْغٍ.
فَقَامَ وَحْدَهُ فِي زَمَنٍ تَغَلَّبَ فِيهِ
الجُهَّالُ وَأَصْحَابُ العَمَائِمِ عَلَى مَنَابِرِ الدَّعْوَةِ، فَسَحَبَ بِسَاطَ
الرِّيَادَةِ مِنْ تَحْتِ أَقْدَامِهِمْ، حَتَّى أَرْغَمَهُمْ عَلَى الرُّجُوعِ إِلَى
تَعْظِيمِ الدَّلِيلِ وَالاشْتِغَالِ بِعُلُومِ الحَدِيثِ، لِيَحْتَفِظُوا بِبَقِيَّةٍ
مِنْ مَكَانَتِهِمْ فِي أَعْيُنِ العَامَّةِ.
فَدَعْوَتُهُ أَعَادَتْ تَأْصِيلَ مَبْدَأٍ عَظِيمٍ:
أَنَّ العَالِمَ يُسْتَدَلُّ لَهُ وَلَا يُسْتَدَلُّ بِهِ، وَأَنَّ العِصْمَةَ انْتَهَتْ
يَوْمَ رَحَلَ الرَّسُولُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
فَاضْطُرَّ أَهْلُ البِدَعِ كَ"نُورِ الدِّينِ
عِتْرٍ" إِلَى نَفْثِ سُمُومِهِمْ عَبْرَ كِتَابَاتِهِمْ، لِيُحَاوِلُوا هَدْمَ
مُعْتَقَدِ السَّلَفِ الَّذِي أَحْيَاهُ الشَّيْخُ، وَكَذَلِكَ "مُحَمَّدُ عَوَّامَةُ"
يَتَجَرَّأُ بِالكَذِبِ عَلَى الشَّيْخِ وَعُلَمَاءِ السُّنَّةِ دُونَ حَيَاءٍ، وَأَمَّا
الحِزْبِيُّونَ كَمُصْطَفَى العَدَوِيِّ وَأَتْبَاعِهِ، فَحَدِّثْ عَنْهُمْ وَلَا حَرَجَ.
فَالشَّيْخُ -رَحِمَهُ اللَّهُ- مِحْنَةٌ لِأَهْلِ
السُّنَّةِ، ينبغي عَلَيْهِمْ وَفَاءً لِحَقِّهِ، نَصْرَتُهُ، وَنَشْرُ عِلْمِهِ، وَالرَّدُّ
عَلَى مُخَالِفِيهِ بِالحُجَّةِ وَالبَيَانِ، عَلَى طَرِيقَتِهِ -رَحِمَهُ اللَّهُ-.
لَكِنْ قَدْ ظَهَرَ عِنْدَ بَعْضِ إِخْوة الصَّفِّ،
بِسَبَبِ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، غُلُوٌّ فِي الشَّيْخِ غَيْرُ مَحْمُودٍ.
فَالشَّيْخُ
-رَحِمَهُ اللَّهُ- كَغَيْرِهِ مِنْ أَهْلِ العِلْمِ، يُؤْخَذُ مِنْهُ وَيُرَدُّ، وَلَا
يُنَاضَلُ عَنْ قَوْلِهِ فِي مَسْأَلَةٍ كَأَنَّهُ مَعْصُومٌ لَا يُخْطِئُ.
فإِنَّ المُسْلِمَ السُّنِّيَّ يَتَبَعُ الحَقَّ
حَيْثُ كَانَ، فَإِذَا تَبَيَّنَ لَهُ صِحَّةُ الدَّلِيلِ، وَجَبَ اتِّبَاعُهُ.
وأَمَّا منهج بَعْضِهِمْ إِذ ذَهَبَ الشَّيْخُ
فِي مَسْأَلَةٍ يُخَالِفُ فيها عَامَّةَ العُلَمَاءِ، بأن الشَّيْخَ يعلم بِذَلِكَ
وَلَهُ أَدِلَّتُهُ، فَهَذِهِ لَيْسَتْ طَرِيقَةً سَلَفِيَّةً، وَلَمْ يَسْلُكْهَا
الشَّيْخُ نَفْسُهُ فِي مُؤَلَّفَاتِهِ.
فَمَنْ أَتَى بِمِثْلِ هَذَا، فَلْيَتَّقِ اللَّهَ
وَلْيَلْزَمْ مَنْهَجَ السَّلَفِ الصَّالِحِ. فَالاتِّبَاعُ لِلدَّلِيلِ، لَا لِلشَّيْخِ.
وإِنْ أُغْلِقَ عَلَى طَالِبِ العِلْمِ فَهْمُ
الدَّلِيلِ، أَوِ التَّرْجِيحُ فِي مَسْأَلَةٍ خِلَافِيَّةٍ، فَعَلَيْهِ بِالطَّرِيقَةِ
السَّلَفِيَّةِ: وَهِيَ اتِّبَاعُ مَا كَانَ عَلَيْهِ الأَوَائِلُ مِنْ أَئِمَّةِ الدِّينِ
وَالفِقْهِ.
فَمَا كَانَ عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ يُقَدَّمُ
عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ التَّابِعُونَ، وَمَا اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ العِلْمُ فِي زَمَنِ
التَّابِعِينَ أَوْلَى بِالاتِّبَاعِ مِمَّا جَاءَ بَعْدَهُمْ، وَهَكَذَا.
لِأَنَّ العِلْمَ مِنْ سُنَّتِهِ النَّقْصَانُ،
كَمَا أَخْبَرَ الرَّسُولُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إِنَّ اللَّهَ
لَا يَقْبِضُ العِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنَ العِبَادِ، وَلَكِنْ يَقْبِضُ
العِلْمَ بِقَبْضِ العُلَمَاءِ، حَتَّى إِذَا لَمْ يَبْقَ عَالِمًا اتَّخَذَ النَّاسُ
رُؤُوسًا جُهَّالًا، فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا"[40].
فَمَنْ أَرَادَ الهِدَايَةَ وَالنَّجَاةَ، فَعَلَيْهِ
بِعِلْمِ الأَوَائِلِ وَمَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنَ العَمَلِ، ثُمَّ الاتِّبَاعُ يَكُونُ
لِمَنْ خَلَفَهُمْ فِي العِلْمِ وَالمُعْتَقَدِ وَعَظَّمَ مَا كَانُوا عَلَيْهِ، كَمَا
أَنَّ مِنَ الهِدَايَةِ وَالنَّجَاةِ تَرْكَ شَوَاذِّ المَسَائِلِ وَمَا يُسْتَنْكَرُ،
فَلَيْسَ مِنْ غُرْبَةِ الدِّينِ أَنْ نَتَدَيَّنَ بِالقَضَايَا الشَّاذَّةِ، وَلَكِنَّ
الغُرْبَةَ الحَقِيقِيَّةَ التَّمَسُّكُ بِصَحِيحِ السُّنَّةِ.
وَلَعَلَّهُ مِنَ المُنَاسِبِ فِي هَذَا المَقَامِ
التَّنْبِيهُ عَلَى بَعْضِ التَّجَاوُزَاتِ المَوْجُودَةِ فِي مُؤَلَّفَاتِ بَعْضِ
عُلَمَاءِ العُصُورِ المُتَأَخِّرَةِ، والسكوت على هذا له تأثير بالغ في مفارقة
طريق السلف الصالح، فَقَدْ وُجِدَ فِي بَعْضِهَا انْتِقَاصٌ مِنْ بَعْضِ الأَئِمَّةِ
الأَوَائِلِ، فَنَجِدُ طَعْنًا فِي التِّرْمِذِيِّ الإِمَامِ بِأَنَّهُ رَخُو النَّفْسِ
فِي التَّضْعِيفِ، وَأَنَّ ابْنَ حِبَّانَ مُتَسَاهِلٌ فِي التَّوْثِيقِ، وَأَنَّ الحَاكِمَ
النَّيْسَابُورِيَّ لَا يُعَوَّلُ عَلَى تَصْحِيحِهِ، وَمِثْلُ هَذَا الكَلَامِ الَّذِي
لَا يُحْمَدُ.
فَهَؤُلَاءِ الأَئِمَّةُ المُتَقَدِّمُونَ، خَاصَّةً
أَصْحَابُ الكُتُبِ المُسْنَدَةِ، هُمْ فِي مَرْتَبَةٍ مِنَ العِلْمِ يَسْتَحِيلُ أَنْ
يَصِلَ إِلَيْهَا مَنْ تَأَخَّرَ عَنْهُمْ، فَكَيْفَ يُعْقَلُ أَنْ يَكُونَ المُتَأَخِّرُ
حَكَمًا عَلَى المُتَقَدِّمِ؟
وَأَنْ
يَكُونَ الأَقَلُّ عِلْمًا وَحِفْظًا، هُوَ مَنْ يُقَيِّمُ عِلْمَ مَنْ هُوَ أَعْلَمُ
مِنْهُ؟
فَمِثْلُ هَذَا يَنْبَغِي أَنْ يُضْرَبَ عَلَيْهِ،
وَلَا يُلْتَفَتَ إِلَيْهِ، لِأَنَّهُ أَصْبَحَ مِنَ الأَخْطَاءِ المَنْهَجِيَّةِ الشَّنِيعَةِ
الَّتِي شَوَّهَتْ هَذَا المَنْهَجَ المُبَارَكَ، وَأَضَلَّتْ مَنْ يَبْحَثُ عَنِ الحَقِّ
فِي الوُصُولِ إِلَى مَبْتَغَاهُ، لِأَنَّ مَا بُنِيَ عَلَى بَاطِلٍ فَهُوَ بَاطِلٌ،
وَاللَّهُ أَعْلَى وَأَعْلَمُ.
هَذَا؛ وَاللَّهَ أَسْأَلُ أَنْ يَعْصِمَنَا وَأَهْلَ
الإِسْلَامِ جَمِيعًا مِنَ الشِّرْكِ وَالبِدَعِ، وَأَنْ يَشْرَحَ صُدُورَنَا لِمَا
شَرَحَ لَهُ صُدُورَ أَهْلِ الجَنَّةِ.
وَصَلَّى
اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.
وكتب:
أَبُو
صُهَيْبٍ وَلِيدُ بْنُ سَعْدٍ
القَاهِرَةُ،
السَّبْتُ 10 / مُحَرَّمٍ / 1447
5 /
7 / 2025
[1] ـ معرفة علوم الحديث ص
/ 112.
[2] ـ (4 / 127)
[3] ـ (10 / 37)
[4] ـ حديثُ رقم: (6738).
[5] ـ حديثُ رقم: (8751)
[6] ـ المسند، حديث رقم: (21189).
[7] ـ رواه ابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما.
[8] ـ رواه مسلم.
[9] ـ حديث رقم : (4976).
[10] ـ رواه أحمد بإسناد
عال صحيح، والترمذي، قال: حديث حسن صحيح، وأبو عوانة في مستخرجه، وابن خزيمة في
الصحيح،.
[11] ـ رواه النسائي في الكبرى بإسنادين، وهو حديث حسن،
وله شاهد من حديث جويرية في صحيح البخاري.
[12] ـ رواه مسلم.
[13] ـ رواه البخاري.
[14] ـ رواه مسلم.
[15] ـ متفق عليه.
[16] ـ متفق عليه.
[17] ـ رواه البخاري.
[18] ـ متفق عليه.
[19] ـ رواه مسلم.
[20] ـ متفق عليه.
[21] ـ شرح معاني الآثار (2
/ 80)
[22] ـ رواه ابن خزيمة وابن
حبان والحاكم، وثلاثتهم اشترط الصحة في كتابه، ورواه النسائي في الكبرى بإسنادين أحدهما
حسن.
[23] ـ أخرجه الترمذي وقال:
حديث حسن صحيح.
[24] ـ مقدمة الفوائد
المجموعة في الأحاديث الموضوعة للشوكاني ص: ( 8 : 9 )، بتصرف.
[25] ـ سنن أبي داود، حديث
رقم: (2423).
[26] ـ شرح معاني الآثار،
حديث رقم: (3317).
[27] ـ شرح معاني الآثار،
حديث رقم: (3318).
[28] ـ سنن أبي داود، حديث
رقم: (2424)
[29] ـ المصدر السابق.
[30] ـ سنن أبي داود، حديث
رقم: (2421).
[31] ـ اقتضاء الصراط
المستقيم، لشيخ الإسلام ابن تيمية (2 / 72 : 75).
[32] ـ المصدر السابق.
[33] ـ ناسخ الحديث
ومنسوخه، للأثرم، ص/ (201: 203 )
[34] ـ زاد المعاد في هدي
خير العباد، لابن القيم (2/ 75)، وقال ابن الملقن في كتابه البدر المنير (5 /
762): قال النسائي: وهذه أحاديث مضطربة.
[35] ـ البدر المنير
لابن الملقن (5 / 762)
[36] ـ تهذيب التهذيب،
ترجمة رقم: (355).
[37] ـ بلوغ المرام من أدلة
الأحكام، ص / 200.
[38] ـ التلخيص الحبير (2 /
414 )، ط/ قرطبة.
[39] ـ انظر التمهيد (10 /
278).
[40] ـ متفق عليه.