عظائم لا يلقي الناس لها بالًا
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد:
فإنَّ من أجلِّ
نعم الله على الإنسان أنْ كرَّمه بالبيان، فأنعم عليه بلسانٍ يُعبِّر به عن خواطره،
ويُبيِّن به مكنون قلبه. قال الله تعالى: {الرَّحْمَٰنُ ﴿١﴾ عَلَّمَ الْقُرْآنَ ﴿٢﴾ خَلَقَ الْإِنْسَانَ
﴿٣﴾ عَلَّمَهُ الْبَيَانَ ﴿٤﴾} [الرحمن: ١-٤].
فالكلام موهبةٌ
سَامية، لا يُدرك عُمقَها إلا من افتقدها، كالأخرس الذي يُكابد آلام الصمت، يُحاول
جاهدًا أن يُوصل مراده بجوارحه، فتُخطئ العيون فهمه، أو تُسيء الأيدي تفسيره، بخلاف
الناطق الذي تنساب كلماته كنهرٍ رقراق، فتصل إلى مقصدها بلا عَناء.
ويستطيع المسلم
أن يغترف من ينابيع الخير بلسانه، فيتلو آيات القرآن، ويُردِّد الأذكار، ويُحيي الأمر
بالمعروف، ويُزهِق المنكر، ويُنصف المظلوم، ويُمجِّد النعم، فتتفتَّح أمامه أبواب البرِّ
والصلاح.
لكنه
إن لم يُروَّض لسانه، قد يَزلُّ في مهاوي الشر، فيتورط في الكذب، وقول الزور، والغيبة،
والنميمة، وتدنيس أعراض المسلمين، وسائر دروب الضلال.
واللسان جارحةٌ
عجيبة، لا تَعرف الكلل، ولا يُصيبها الوهن أو الإعياء، فلم نسمع عن لسان أصابه
الصداع أو الخشونة أو غيرها من الأمراض التي تصيب وتضعف سائر الجوارح والأعضاء.
ولذا، ينبغي للإنسان أن يُراقبه بحذرٍ شديد، فهي سيفٌ ذو حدَّين: قد يُعلي
صاحبه إلى مراتب الصدِّيقين، وقد يَهوي به إلى هاوية الهالكين.
لأن كل ما
يتلفظ به اللسان يكون في صحيفة صاحبه، فإن كان خيرًا فخيرٌ، وإن كان شرًا فشرٌ. قال
الله تعالى: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق: 18]، فالكلمةُ إما طريقٌ إلى الجنة، وإما حفرةٌ إلى النار.
ومن أشد البلاء أن يكون المرء مجانبا
لكبائر الذنوب في حياته، فيحصن فرجه من الزنا، وبطنه من أكل الحرام والربا، مع
تمسكه بشعائر دينه، من صلاة وصيام وزكاة، غير أنه أهمل مراقبة لسانه، فأطلق له العنان،
فوقع بسبب هذا التفريض في الشرك، أو الكذب والنميمة أو قذف المحصنات، وأو غيرها من
عظائم الكلام.
روى الإمام أحمد
والترمذي وصححه عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- سُئل عن
أكثر ما يُدخل الناس النار، فقال: "الأجوفان: الفم والفرج".
فالفم إن لم يُكبَل
بحبل الحياء والتقوى، جرَّ إلى الردى بقول الزور والغيبة والنميمة، والفرج إن لم يُحصَن
بالعفة، أوقع في المهالك.
ويقول الرسول -صلى الله عليه وسلم- :"إن
العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله، لا يلقي لها بالًا، يرفعه الله بها درجات، وإن
العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله، لا يلقي لها بالا، يهوي بها في جهنم". [راه
البخاري من حديث أبي هريرة].
وفي رواية روى بلال بن الحارث المزني -رضي
الله عنه- أنه سمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إن أحدكم لينطق بكلمة
من رضوان الله، لا يحسب أن تبلغ ما بلغت، فيكتب الله بها له رضاه إلى يوم يلقاه، وإن
أحدكم لينطق بكلمة من سخط الله، لا يحسب أن تبلغ ما بلغت، فيكتب الله عليه بها سخطه
إلى يوم يلقاه".
ولا تُحصر خطايا
اللسان في صنف واحد من المعاصي، فكثير من الناس يسترسلون في الحلف بغير الله، فيقسمون
بالرسول، أو بالكعبة، أو بشرف الأم، وكل ذلك شرك يُخالف توحيد الله.
ذلك أن القسم لا يكون إلا بمعظم، ولا معظم إلا الله -جل وعلا-. ومن هنا، كانت الأمم
الكافرة تحلف بما تعظمه؛ فالنصارى يحلفون بالمسيح وبالعذراء، ومشركو العرب قديمًا كانوا
يقسمون باللات والعزى.
لذا، من حلف بغير الله من أمة الإسلام فقد شارك المشركين في شركهم، حتى وإن كان المحلوف
به رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، الذي قال في هديه البيّن: "من كان حالفًا
فليحلف بالله أو ليصمت" [متفق عليه].
وفي سياق هذا الحديث، روى عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما-
أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أدرك عمر بن الخطاب في ركب وهو يحلف بأبيه، فناداهم
النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ألا إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، فمن كان
حالفًا فليحلف بالله، وإلا فليصمت".
وأكد ذلك التابعي الجليل سعد بن عبيدة السلمي، فقال: كنت
عند ابن عمر، فقلت: أحلف بالكعبة؟ فقال: لا، بل احلف برب الكعبة. وكان عمر يحلف بأبيه،
فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا تحلفوا بآبائكم، فمن حلف بغير الله
فقد أشرك" [رواه أحمد، وأبو عوانة في مستخرجه، وابن حبان في صحيحه].
فالحلف بغير الله شرك يوجب على صاحبه تجديد الشهادة. فقد
روى البخاري عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال:
"من حلف منكم فقال في حلفه: باللات والعزى، فليقل: لا إله إلا الله، ومن قال لصاحبه:
تعال أقامرك، فليتصدق".
فكم من مسلم يقسم بغير الله دون أن ينتبه لخطورة قوله، فيقع
في سخط الله وفي الشرك!
وبعضهم يتجاوز إلى شرك عجيب، فيحلف بغير ملة الإسلام كاذبًا، قائلًا: "لو فعلت
كذا وكذا أكون يهوديًا أو نصرانيًا"، فيحلف كذبًا، فيصبح كما نطق!
قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من حلف بملة غير
الإسلام كاذبًا متعمدًا، فهو كما قال" [متفق على صحته].
قال الترمذي في جامعه: "وقد اختلف أهل العلم في هذا
إذا حلف الرجل بملة سوى الإسلام، فقال: هو يهودي أو نصراني إن فعل كذا وكذا ففعل ذلك
الشيء، فقال بعضهم: قد أتى عظيمًا ولا كفارة عليه، وهو قول أهل المدينة، وبه يقول مالك
بن أنس، وإلى هذا القول ذهب أبو عبيد وقال بعض أهل العلم من أصحاب النبي -صلى الله
عليه وسلم- والتابعين وغيرهم: عليه في ذلك الكفارة، وهو قول سفيان، وأحمد وإسحاق".
اهـ
وفي زماننا هذا، نجد من يريد أن يغلظ في حلفه مع كذبه، فيقول: "على الحرام من
ديني فعلت كذا وكذا".
وكل هذا خطر عظيم يجري على ألسنة بعض الناس
دون اكتراث، وهو من الشرك والردة عن دين الإسلام الحنيف.
ومن العظائم التي يتهاون بها كثير من الناس، دون أن يُلقوا لها بالًا، سبّ الدين، وهو
كفر صريح وردة عن شريعة الإسلام. فإن المرء لا يلعن شيئًا إلا لبغضه وكرهه، فإذا أبغض
الدين وكرهه، انطلق لسانه بلعنه وشتمه، ومن يكره دين الله فقد خرج من ملة الإسلام كافرًا.
وهذا أمر اتفق عليه العلماء، وكذلك من يستهزئ بشيء من الشرع،
أو يعترض على أحكامه، كميراث المرأة، أو تعدد الزوجات، أو غيرها من الأحكام التي لا
تُعجب أهل الفسوق والإلحاد.
فكل هذه الأفعال عند العلماء ردة عن الدين، بل ذهب بعضهم
إلى أن من سبّ الدين لا توبة له، وإنما يُقام عليه حد الردة، وإن كان في المسألة خلاف.
وما أكثر من يتساهل في هذه القضايا الخطيرة، فلا يُعيرها
انتباهًا، حتى إذا ما نشبت خصومة بين اثنين، سارع أحدهما إلى سب دين الآخر، وربما امتد
لسانه فلعن دين أبيه أو أمه.
فسبّ الدين، مع الأسف الشديد، ظاهرة منتشرة في ديار المسلمين،
حتى ألفها بعض الناس فلم يعودوا يستنكرونها، وهي من المروق من الدين والردة. فعلى كل
مسلم أن يحذر من الوقوع في هذا الذنب العظيم، وأن يُحسن النصيحة لمن ابتلي به.
ومن المهلكات التي يتساهل بها بعض الناس، دون أن يُدركوا
خطورتها، دعاء غير الله -سبحانه وتعالى- وطلب المدد من سواه.
فكم من مسلم يهرع إلى أضرحة الصالحين، ظنًا منه أن المدد
والعون يُطلب منهم لقضاء الحوائج؟
فيأتي الأبعد إلى بيت من بيوت الله، دفن فيه من يُنسب إلى
الولاية، كالبدوي أو الدسوقي، لا ليرفع يديه داعيًا الله طالبًا منه العون، بل ليستمد
المدد من صاحب الضريح.
مع أن الله -جل جلاله- قد قال: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ
فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} [الجن: 18].
وقال نوح -عليه السلام- لقومه: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ
إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ
بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا}
[نوح: 10-12].
فمن طلب المدد من غير الله، أو دعا سواه -سبحانه-، فقد وقع
في الشرك، وسلك سبيل الأمم الكافرة التي سبقتنا. قال الله تعالى: {وَإِنَّ إِلْيَاسَ
لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلَا تَتَّقُونَ * أَتَدْعُونَ بَعْلًا
وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ} [الصافات: 123-125].
فقوم إلياس أشركوا وكفروا لأنهم دعوا إلهًا من دون الله،
وهذا أمر يتهاون به كثيرون، مع أنه يُخلّد صاحبه في النار.
قال الله تعالى: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ
يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر: 60].
وفي هذه الآية لفتة بليغة تبين لماذا دعاء غير الله شرك يُهلك
صاحبه، وهي أن الدعاء هو جوهر العبادة.
فالله -عز وجل- بدأ الآية بالدعاء، ثم قال: {إِنَّ الَّذِينَ
يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي}، ولم يقل: يستكبرون عن دعائي، ليؤكد أن الدعاء عبادة
لا تُصرف إلا له.
ومثل ذلك ما جاء في قول إبراهيم الخليل: {وَأَعْتَزِلُكُمْ
وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ
رَبِّي شَقِيًّا * فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا
لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا} [مريم: 48-49].
ففي الشق الأول ذكر إبراهيم -عليه السلام- الدعاء، وفي الشق
الثاني عُبّر عنه بالعبادة، لتتضح المساواة بينهما.
وهذا ما أكده الرسول -صلى الله عليه وسلم-، فعن النعمان بن
بشير -رضي الله عنه-، قال: سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "الدعاء هو
العبادة"، ثم قرأ: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ
يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر: 60].
[رواه الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح].
فعلى المسلم أن يحترز من الوقوع في الحلف بغير الله، أو الدعاء
إلى سواه، أو طلب المدد والعون من غيره. فإن أعظم سور القرآن، سورة الفاتحة، وسبب تعظيمها
اشتمالها على قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:
5]. فلا يُعبد إلا الله، ولا يُستعان إلا به سبحانه وتعالى، عزّ شأنه وجلّت قدرته.
ويجدر التنبيه هنا إلى نكتة يغفل عنها كثير من الناس، وهي:
جوهر الدعاء كعبادة. فالكثيرون يدعون الله لتلبية طلبهم أو قضاء حاجاتهم، ويغفلون عن
كون الدعاء عبادة وقربة تُنير القلب وتُعلي الروح إلى مقامات القرب من الله جل وعلا.
فكم من داعٍ يرفع كفيه إلى السماء طالبًا مراده، لكنه يغفل عن استشعار عظمة المناجاة،
ولا ينوي بدعائه التقرب إلى الله، بل يجعل طلبه محض أمنية دنيوية، كأن الدعاء جسرٌ
لتحقيق المطالب، لا مفتاحٌ لأبواب الرحمة الإلهية. والدعاء، في حقيقته، ليس مجرد سؤال
يُلقى، بل هو عبادة تُزكي النفس، وذكرٌ يُحيي القلب، وتوحيدٌ يُثبت أركان الإيمان.
فمن دعا ربه بنية صافية، متجردًا من أهواء الدنيا، فقد فتح
لقلبه بابًا إلى جنات القرب، وأسبغ على روحه نور الطاعة. أما من اقتصر في دعائه على
طلب الحاجات دون استحضار عظمة الافتقار إلى الله، فقد أضاع جوهر العبادة وحُرم فيض
البركة التي تُغدقها المناجاة. والدعاء أكرم العبادات عند الله، لأنه يجمع بين الذل
للخالق، والافتقار إليه، والثقة برحمته. فعلى المسلم أن يُحلي دعاءه بنية التعبد، فيجعل
مناجاته لله محض قربة، يسأل بها رضوانه قبل حاجاته، ويُحيي قلبه بذكر ربه، ليكون من
العابدين الذاكرين الذين ينالون مغفرة الله ورضاه.
وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليس شيء أكرم
على الله من الدعاء" [رواه أحمد وابن حبان وغيرهما، وهو حديث حسن].
ومما يجري على ألسنة كثير من الناس دون اكتراث، وهو من العظائم
المهلكة: التساهل في الكلام عن صفات الرب سبحانه، وعدم التأدب عند الحديث عن الذات
الإلهية. فبعضهم إذا سُئل عن شخص، قال: "ربنا افتكره"، يقصدون أنه مات. وهذه
كلمة قبيحة تنسب النسيان إلى الله سبحانه، وهو مما نفاه عن نفسه، فقال عز وجل: {وَمَا
كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} [مريم: 64]، وقال سبحانه: {أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ}
[المجادلة: 6].
وسمعت أحدهم يقول: "سأخبر الله بكل شيء"، وقد أُعجب
كثيرون بمقالته، وفيها نسبة الجهل إلى الرب عز وجل، كأنه يخفى في ملكه ما يحتاج إلى
إخباره به، وهذا باطل محض، فالله عز وجل قال: {وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ
يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} [طه: 7]، وقال سبحانه: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ
وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ} [البقرة:
255]، وقال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا
فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ
إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ
أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ
اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [المجادلة: 7].
فعلى المسلم أن يحذر من الكلام عن الرب جل ثناؤه، فلا يصفه
إلا بما وصف به نفسه، ولا يسميه باسم لم يسمِّ به نفسه. فمن الناس من لا يتحرز في أسماء
الله تعالى فيقع في الإلحاد في أسمائه، كما في الحديث المشهور عن الأسماء الحسنى، وهو
حديث ضعيف، إذ ورد فيه اسم "الضار".
وهذا الاسم لم يسمِّ الله به نفسه، ولا سماه به رسوله صلى
الله عليه وسلم، بل قال عليه الصلاة والسلام: "والشر ليس إليك" [رواه مسلم].
ومن التأدب مع الله عز وجل عدم نسبة الشر إليه، وإن كان كل شيء بقدره ومشيئته، كما
قال إبراهيم عليه السلام: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [الشعراء: 80]، فنسب
المرض إلى نفسه والشفاء إلى ربه سبحانه.
وكذلك قالت الجن: {وَإِنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ
بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا} [الجن: 10]، فنسبوا الشر
إلى مجهول، وأما الرشد والصلاح فنسبوه إلى الرب سبحانه.
ومن بلايا اللسان، ومن عظائمها التي يتساهل فيها كثيرون:
قذف المحصنات، حتى أصبحت هذه الكبيرة ظاهرة في ديار المسلمين تستدعي العجب. فنجد الرجل
يمازح صاحبه فيرمي أمه بالفاحشة، فيقول في حال المزاح: "يا ابن كذا"، يعني
الزانية، عياذًا بالله.
والعجب أن البعض إذا سُبَّت أمه لا يغضب، بل ربما ضحك لأنه
"مزاح". وهذا كله من الغفلة الشديدة التي عمَّت ديار المسلمين، بسبب بُعدهم
عن الدين، حتى اعتادوا المحرمات وصارت الكبائر بلا وزن في قلوبهم. وقذف المحصنات كبيرة
من الكبائر، صاحبها متوعد بعذاب في الدنيا والآخرة، قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ
يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ
وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النور: 23].
وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه،
عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اجتنبوا السبع الموبقات"، قالوا: يا رسول
الله، وما هن؟ قال: "الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق،
وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات".
ومما يجري على ألسنة الناس اليوم وهو من المهلكات: التكفير.
وأود التنبيه إلى ظاهرة جديدة في التكفير لا يلتفت إليها الناس، وسببها السياسة. فقد
شغل اليهود العوام بالسياسة، كما ورد في مخططاتهم، فأنشؤوا قنوات إخبارية وصحفًا ومجلات
لتناول المعاهدات الدولية والحروب، معروضة بأسلوب يوهم العامة أنها من المشاع الفكري
الذي يسهل فهمه. فينشأ عن هذا عقل جماعي يتحكم فيه اليهود، فيفرقون الشعب الواحد إلى
أحزاب متناحرة، محققين مخططهم القديم: "فرّق تسد". وقد بلغ اليهود مرادهم،
فتحزب الناس بسبب السياسة، فنجد اليوم في بلاد المسلمين رجلين يختلفان في شخص رئيس
أو وزير، فيقول أحدهما للآخر: "ربنا يحشرك معاه". وهذه الكلمة، وإن لم تكن
صريحة في التكفير، إلا أن قائلها يعتقد أن هذا الشخص من أهل النار يقينًا، فيتمنى لمن
يخالفه أن يحشر معه. ولو ضُم إليها غيرها لظهر التكفير جليًا، كقولهم: "فلان أمه
يهودية"، والحق أن هذه الكلمة لا إشكال فيها بحد ذاتها، فقد يكون المرء مسلمًا
وأمه يهودية. لكن التكفير يكمن في نسبة هذه الأم إلى غير دين الإسلام، وقد لا ينتبه
قائلها إلى ذلك.
وقائل هذا يُخشى
أن يناله نصيب من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أيما امرئ قال لأخيه: يا
كافر، فقد باء بها أحدهما، إن كان كما قال، وإلا رجعت عليه" [متفق عليه].
ومن هذا الباب قولهم: "فلان جهنم وبئس المصير"،
أو "لن يُورد على جنة". وهذا تألي على الله، محبط لعمل صاحبه. ففي صحيح مسلم
عن جندب بن عبد الله البجلي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قال رجل:
والله لا يغفر الله لفلان، فقال الله تعالى: من ذا الذي يتألى علي أن لا أغفر لفلان،
فإني قد غفرت لفلان وأحبطت عملك".
فعلى المسلم أن يحذر مما يجري على لسانه، وليعلم أن صلاته
وصيامه وحجه وكثرة خيراته لا تنفعه إن لم يحترز من لسانه، فإنه يهدم كل ذلك بسهولة.
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
وكتب
أبو صهيب وليد بن سعد
١٦/ ذو الحجة/ ١٤٤٦ هـ
12 / 6 / 2025