الإلحاد .. وحبة بن حتاتة!.
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا
نبي بعده، أما بعد:
فقد كنت منذ صغري أحب القراءة، بيد أنه لم
يكن يَستهويني قراءة ما يُقبل عليه من هو في سني!، ففي الوقت الذي كان يُقبل طلاب المرحلة
الابتدائية على قراءة قصة "السلحفاة والأرنب" وما في معناها، كان أميل إلى قراءة "عقلة الأصبع" و"رحلة إلى باطن الأرض"، وهذه القصص الطويلة.
وفي المرحلة الإعدادية كان الإقبال من محبي
القراءة على قراءة "رجل المستحيل" و"فلاش"!، أما أنا فكنت أذهب
إلى مكتبة الطفل المتنقلة! - هي لا وجود لها الآن - وكانت تَضم مجموعات قصصية شيقة،
أذكر منها كتابًا لمؤلف لبناني، وضع فكرة في هذا الكتاب بحيث أنك لا تنتهي منه أبدا!،
ولو كنت تقرأ فيه يوميًا على مدار سنوات عمرك!!.
المهم، أني لما أوشكت بلوغ المرحلة الثانوية، لم
يكن يشبع رغبتي قراءة القصص الموضوعة، وبدأت اهتم بأمور أخرى مثل حل الكلمات المتقطعة!،
حتى وقفت عند أختي الكبيرة على كتاب " قصص الأنبياء" للحافظ ابن كثير - رحمه
الله - ، ولم يكن في الثمانينات ما يوجد اليوم من تحقيق الكتب، وذكر ما فيها من الصحيح
والضعيف في الحاشية، غاية ما هنالك تخريج الآيات والأحاديث، بذكر هذه الآية في سورة
كذا، وهذا الحديث أخرجه فلان وبس، من غير بيان لحال الحديث أو رواته.
ومع ذلك استطعت من منهج "ابن كثير"
في كتابه، أن أتبين حال بعض القصص المذكورة في الكتاب، خاصة ما جاء ذكر طرفا منها في
القرآن، فتعلمت في هذه الفترة نتفا من علم الجرح والتعديل، وعدم قبول الخبر المنكر
الذي يخالف ظاهر القرآن، وأن الأصل في الأخبار والأحاديث أن تسند لقائلها ولا تكون
مرسلة.
تعلمت هذا .. وما دخلت كتاب "قصص الأنبياء"
إلا لإشباع شهوة الإطلاع والقراءة!.
فكان مما علق في نفسي من كلام الحافظ ابن كثير
- رحمه الله - أنه ذكر قصة طويلة.. ممتلئة بالأحداث الشيقة والغريبة في نفس الوقت،
واستمر يَسرد تفاصيل هذه القصة في عدة صفحات!، ثم عقب بعدها بقوله : وهذه من رواية
"حبة بن حتاتة"، وحبة لا يساوي حبة! (1)، ثم دخل في قصة أخرى، فقرأت القصة مرة
أخرى، لعل "ابن كثير" ذكر كلمة يبين فيها صحة أو ضعف القصة، فلم أجد غير
قوله: وهذه من رواية "حبة بن حتاتة"، وحبة لا يساوي حبة!.
فلم أكن أدري، ماذا يقصد بهذه الكلمة الموجزة؟
..وأكملت قراءة الكتاب حتى أنهيته.
ولكن هذه الكلمة كانت أسمعها في أذني بعدها
كثيرًا: "حبة لا يساوي حبة"!، ولا أدري هل "ابن كثير" يُقرّ هذا
الكلام أم يُنكره؟
حتى وقع في قلبي أنه يَنبغي عدم التحدث بتفاصيل
هذه القصة إلا بعد معرفة صحتها من ضعفها، وكذلك الحال في باقي ما تعلمت من أسلوب
"ابن كثير" من نسبة الكلام إلى قائله، وإنكار ما يخالف ظاهر القرآن، و...
ثم دخلت سنة 1994، وظهرت فيها أشد فكرة إلحادية
على الإطلاق في مصر، وهي ما سميت إعلاميًا "بعبادة الشيطان"!!.
وكان من قدر الله أني كنت على مقربة ممن نقل
هذه الفكرة من أمريكا إلى مصر، وكان أكثر جلوسي وتسكعي مع هؤلاء، وكان منهم أُناس أبائهم من علية القوم، من أصحاب الثروات، والمناصب، وعضوية مجلس الشعب.
وكان يعجبني ساعتئذ أسلوب هؤلاء في تضيع الوقت
والمرح!، وإنهم يحبون الخصوصية وعدم الاختلاط مع الناس، هذا مع حبي للبحث عن جديد يشبع
رغبتي في المعرفة والثقافة = إذ أن هؤلاء أبناء قادة ومشاهير، فلابد أن عندهم جديد
مما لا تستطيع أن تقف عليه في كتاب!، ولكن من خلال التجربة والاختلاط!.
وبدأت تظهر بعض النقاشات والشعائر التي كانت
بالنسبة لي في هذا الوقت "روشنة وتميز"!، ثم جاءت الليلة التي حدثني أحدهم بفكرة لماذا
لا نعبد الشيطان؟!
فنزلت هذه الفكرة علي كالصاعقة، وتركت من كان
يتكلم معي بلا نقاش أو جدال، وذلك لقوة الوارد الذي سبب صدمة، ثم انصرفت إلى بيتي،
والذي كان يَبعد عن هذه المنطقة عدة محطات، ولم أركب تاكسي ليلتها كعادتي، خوفًا من
أن أُحدث السائق بهذا الكلام!، فيقتلني!، ومشيت بمفردي في الشارع ، فكانت الساعة حوالي
الثانية ليلًا، وفي الشتاء، وبعد أمتار أخذتني رعدة وهستريا من البكاء، لم يَنقطع حتى
بعد وصولي للبيت، فلما رأتني أمي - رحمها الله - أبكي، أخذت تسألني، هل هناك من ضربك؟
هل ...؟ هل ...؟
وهي - رحمها الله - تتعجب من شأني! فقد كنت
في هذا الوقت في سن المراهقة، سن = تألم كيفما تشاء، ولكن لا تظهر ضعفك!.
فبدأت تقرأ علي بعض القرآن، فسكنت نفسي قليلا؛
وذلك = لأن سبب بكائي كان خشيتي من الله أن يُسلط علي شيئًا يعذبني به؛ لا أدري ما هو؟
ولكنه سيعذبني عذابًا شديدًا، لأن فكرة عبادة الشيطان هذه كانت قوية في فلسفتها علي !- ولم
أدري عن الفلسفة شيئًا يومها - ، وكانت تَرتكز فكرة عبادة الشيطان على حسن الظن بالله!، فمن باب حسن الظن
بالله يجعلونك تَكفر به!!، وكانت أخاف أن استسلم للفكرة، وفي نفس الوقت كنت أخاف أن
أتكلم بما قيل لي يومها، لأن من سأكلمه ليرد الأمر إلى نصابه، ويدفع هذه الفكرة الشيطانية،
كنت أعلم أنه ربما يقع فريسة لما أعانيه، وبدلًا من البحث عن علاج لشخص واحد، يصبح
الأمر كارثيًا، وذلك بسب انتشار هذا الفكر!.
فعلت ذلك بفطرتي التي أثر فيها منهج
"ابن كثير" - رحمه الله - من نكارة كل قصة أو كل كلام مهما كانت قوته، يخالف
ظاهر القرآن الكريم، وأن أي كلام لابد أن يرد إلى صاحبه، حتى يتبين الحق فيه من الباطل.
وهذه الفكرة كانت تخالف ظاهر القرآن، وأن صاحب
هذا الكلام شابا يعيش في أمريكا، يعني: ممكن يكون اختلط عليه الأمر من معاشرة النصارى،
فلعل هذا في دينهم، ولكنه ليس في ديننا!.
وبهذا هدأت نفسي قليلا يومها، بيد أن الفكرة
مازالت تراودني بين الحين والآخر، حتى بعد فضح هذه الجماعة، ومعاقبة الحكومة المصرية
لأولياء أمورهم.
وبدأت أتتبع ما يُكتب في الصحف عن هذه القضية،
لعلي أقف على جواب يُذهب حيرتي؛ إلا أن ما كان يُكتب حينها كلامًا لا يعالج الفكرة،
ولكن يعالج الانحراف المتولد منها!.
ثم مع كثرة التفكير، وعلمي أن هذا الكلام باطل
بمنهج الجرح والتعديل الذي تعلمته من "ابن كثير" من حيث لا أدري!، ظهرت في
عقلي فكرة أخرى هدمت هذه الفكرة ودفعتها.
علمت بعدها بزمن طويل، عند بداية استقامتي
أن هذا يُسمى فلسفة!، سواء الفكرة الشيطانية!، أو الفكرة المضادة!.
ثم لما منّ الله علي بدراسة العقيدة، وخاصة
القضاء والقدر، ظهر لي سخافة هذه الفكرة وسطحيتها، وهذه القوة التي كانت تظهر بها لي
وقتها، إنما سببها جهلي وتطفلي!.
ثم فهمت بعدها معنى كلمة "ابن كثير"
: "حبة بن حتاتة" لا يساوي حبة، يعني ضعيف لا وزن له، ولا لما يرويه.
وحتى يومنا هذا، في المنطقة التي ظهرت فيها
هذه الحادثة، هناك من ينظر إلى بترقب!، ومنهم من يحاول ملاطفتي حتى يظفر بالسر الذي
وقفت عليه في هذه المحنة.
وأصبح الأمر في بعض الأحيان أشبه بالشهرة والبطولة!،
كالتي تحدث للمشاهير، وذلك أني كنت معهم ولم يُقبض علي!، وأني كنت أعلم جميع أسرارهم!.
والحق أنه كان سرًا واحدًا، لم أحدث به أحدًا
قط، حتى بعد تمكني من رد هذه الشبهة، فالباطل يقضى عليه بعدم الخوض فيه، والذي تفهمه
أنت لا يستطيعه غيرك، والقلوب ضعيفة والفتن خطافة، والمعصوم من عصم الله.
فمن وقف على شيء من هذا البلاء فليدفنه ولا
يُظهره، وخاصة في مواقع التواصل، فإنه ربما دخل الرجل ليستأنس بكلمة في السنة من أحد
الإخوة، فوقف على كلمة لك في رد شبهة، هذه الشبهة هو لم يقف عليها يومًا أبدًا، إذ
أنها لكاتب مغمور، أو كتاب لم يُعرض إلا بضعة أيام في معرض الكتاب، ثم بعدها لو فتشت
عليه بالمناقيش فلن تجده!.
فالحذر من حيث نفسد، ونحن نريد الإصلاح، والسلامة
لا يعدلها شيء.
هذا؛ ويعلم الله أني ترددت كثيرًا قبل كتابة
هذه الكلمة، وكم كنت كارهًا لها = لما فيها من شغل القارئ بنتف من حياتي!؛ بيد أني
وجدت بعض إخواني تسرعوا في نشر شبه الملاحدة!، وأسماء كتبهم!، وصفحاتهم!!، حتى أصبح
الأمر أشبه بالمسابقة!.
ومع ذلك لا تجد ردًا وافيًا، إنما هو التعالم
والعجب بفصاحة اللسان وما أشبه!، فكانوا كالذين يعرضون الشبهة نقدا، ويردونها نسيئة،
وكل ما يزيغ عن الجادة بسب كلامهم وتصدرهم، أثمه عليهم.
نسأل الله - عز وجل - بلطفه وجوده، أن يلطف
بنا، ويتغمدنا برحمته، ويرزقنا والمسلمين فهم حقيقة الدين، ويرزقنا برد اليقين.
وكتب
أبو صهيب وليد بن سعد
القاهرة 14 / جماد آخر / 1439
2 / مارس / 2018
الهامش
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1): الراوي اسمه حبة بن جوين، وجرح الحافظ ابن كثير له كان في البداية والنهاية وليس في قصص الأنبياء، ف "حبة بن حتاتة" تصحيف بلا شك، ولعل هذه العبارة أدرجت في طبعة الكتاب من محققه، أو أني وهمت لطول الفترة، فالعلم عند الله.
الهامش
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1): الراوي اسمه حبة بن جوين، وجرح الحافظ ابن كثير له كان في البداية والنهاية وليس في قصص الأنبياء، ف "حبة بن حتاتة" تصحيف بلا شك، ولعل هذه العبارة أدرجت في طبعة الكتاب من محققه، أو أني وهمت لطول الفترة، فالعلم عند الله.