السنة في النزول إلى السجود
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من
لا نبي بعده، أما بعد:
فإن لعلماء الحديث الأوائل قواعد اتفقوا
عليها ينبغي لمن أراد الوصول للحق في المسائل الخلافية التماس هذه القواعد
والأصول، من هذه القواعد: التساهل في أحاديث الترغيب والترهيب والسير والتاريخ ما
لم تحمل نكارة أو تتضمن حكمًا؛ والتشدد في أحاديث الأحكام والحلال والحرام.
قال الإمام أحمد بن حنبل -رحمه الله-: "إذا
روينا عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الحلال والحرام والسنن والأحكام تشددنا
في الأسانيد؛ وإذا روينا عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في فضائل الأعمال وما لا يضع
حكمًا ولا يرفعه تساهلنا في الأسانيد".
وعن الميموني قال:
سمعت أبا عبد الله -يعني: أحمد بن حنبل- يقول: أحاديث الرقاق يحتمل أن يُتساهل فيها
حتى يجيء شيء فيه حكم".
وقال سفيان الثوري:"
لا تأخذوا هذا العلم في الحلال والحرام إلا من الرؤساء المشهورين بالعلم الذين يعرفون
الزيادة والنقصان، ولا بأس بما سوى ذلك من المشايخ".
وقال أبو زكريا العنبري: "الخبر إذا ورد لم
يحرم حلالًا، ولم يحل حرامًا، ولم يوجب حكمًا، وكان في ترغيب أو ترهيب، أو تشديد أو
ترخيص، وجب الإغماض عنه، والتساهل في رواته".
قلت: والغفلة عن هذا الأصل وعدم الالتزام
به يخلق فوضى علمية، كالطعن في الإمام الحاكم ووصفه بالتساهل لعمله بهذا الأصل،
فقد قال في أول كتاب الدعاء والذكر من المستدرك: "وأنا بمشيئة الله أجري الأخبار
التي سقطت على الشيخين في كتاب الدعوات على مذهب أبي سعيد عبد الرحمن بن مهدي في قبولها،
... يقول: إذا روينا عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحلال والحرام، والأحكام، شددنا
في الأسانيد، وانتقدنا الرجال، وإذا روينا في فضائل الأعمال والثواب، والعقاب، والمباحات،
والدعوات تساهلنا في الأسانيد ". اهـ
وقال في بداية كتاب معرفة الصحابة -وهو أكبر
كتب المستدرك-: "لم أستغن عن ذكر محمد بن عمر الواقدي وأقرانه في المعرفة".
قلت: فهو -رحمه الله- يُبين منهجه وأنه
سيتساهل في هذه الأبواب، أو أنه سيمشي أحاديث مختلف على علتها كرواية أبي الزبير
عن ابن عباس كما صرح في بداية كتاب المغازي والسرايا.
وكذا أحاديث كثيرة ضعفها هو أو نبه على علتها ثم
أغمض عنها!.
فمن الظلم البين تضعيف أحاديث يعلم الحاكم نفسه
ضعفها ثم رميه بالتساهل والغفلة.
والشاهد من ذكر منهج الإمام الحاكم في
هذا المقام= هو عمل العلماء بهذا الأصل، ولهذا أول كتاب المستدرك أنظف في الأسانيد
من اخره، لأن أوله أحاديث الأحكام والحلال والحرام.
كما أن إغفال هذا الأصل يخلق خلافًا لا
أصل له، مثل النزاع في حكم النزول للسجود، هل السنة النزول على الركبة أم على
اليدين؟
فوجدنا من ألف في المسألة، ومن ناظر
عليها، ومن دافع عن مذهبه فيها بالقواعد الفقهية وما أشبه
ثم في المنتهى لم نجد حكما تطمئن النفس إليه، وذلك:
لعدم العمل بهذا الأصل "التشدد في
أحاديث الأحكام"
فمثلًا في كلام أحد العلماء وهو يدافع عن
مذهبه في المسألة، قال: أن الحديث انقلب على الراوي!.
وهذا عجيب جدًا، كيف يستدل بحديث يزعم
أنه انقلب على راويه؟
لو كانت هذه حجته في هدم إدله مخالفه، لكان له وجه، أما أن يكون هذا دليله، فهو من
أعجب العجب!.
فالحديث المقلوب من الأحاديث شديدة
الضعف، إذ أنه يدل على شدة غفلة راوي الحديث، فكيف يسوغ أن يكون مثل هذا الراوي
عليه المدار في حديث عمدة من أحاديث الأحكام؟ فالله المستعان.
والحق أنه لم يصح في ضوء هذا الأصل
حديثًا مرفوعًا في هذا الباب .
فحديث كان النبي-صلى الله عليه وسلم- يضع
ركبتيه قبل يديه، حديث ضعيف، مداره على شريك القاضي، قال الترمذي في جامعه: " لا
نعرف أحدًا رواه غير شريك ".
وقال: " قال
يزيد بن هارون: ولم يرو شريك، عن عاصم بن كُليب، إلا هذا الحديث". اهـ
قال عبد الرحمن بن أبى حاتم: "سألت أبا
زرعة عن شريك يحتج بحديثه؟ قال : كان كثير الخطأ، صاحب وهم، وهو يغلط أحيانًا".
وقال يعقوب بن شيبة: " شريك صدوق ثقة سيئ الحفظ جدًا".
وقال ابن حجر في التقريب: " صدوق يخطئ كثيرًا، تغير حفظه منذ ولى القضاء بالكوفة".
قلت: وأما قول الترمذي : "هذا حديث حسن
غريب".
فالحديث الحسن عنده هو الحديث المُعل، أو الذي لا يخلو من ضعف ما من جهة الرواة
كما في حديثنا هذا، ففيه ضعف بسبب شريك، ولهذا قال عنه أنه حسن، وقوله: غريب، لتفرده
به.
ويؤكد أن الترمذي يعني بقوله أن الحديث
الحسن هو الحديث المعل أو الذي لا يخلو من ضعف، أنه أخرجه بنفس الإسناد في علله
الكبير، وقال: "وروى همام بن يحيى عن شقيق، عن عاصم بن كليب شيئًا من هذا مرسلًا
لم يذكر فيه عن وائل بن حجر، وشريك بن عبد الله كثير الغلط والوهم". اهـ
وبيان مراد الترمذي بقوله: "حديث
حسن" يحتاج إلى بسط طويل ليس هذا موضعه، ذكرت أدلته في ثلاثة دروس اثناء شرح
الموقظة.
وخلاصته
ما ذكرته في هذه الإشارة؛ وهذه نكتة عزيزة يُعض عليها بالنواجذ، والحمد لله على
توفيقه.
وأما
حديث كان النبي-صلى الله عليه وسلم- يضع يديه قبل ركبتيه،
فهو أيضًا حديث ضعيف، تفرد به " عبد
العزيز بن محمد الدراوردي".
قال أبو زرعة الرازي: " سيئ
الحفظ، فربما حدث من حفظه الشيء فيخطئ".
وقال النسائي: " عبد
العزيز الدراوردي ليس بالقوي ...، وحديثه عن عبيد الله بن عمر منكر".
قلت: وهذا الحديث من مناكيره،
إذ أنه يحدث به عن عبيد الله بن عمر القرشي".
وصواب حديث الداروردي أنه موقوفًا على ابن عمر ولا يصح مرفوعًا.
قال الدارقطني في العلل (2912) : " يرويه
الدراوردي، واختلف عنه؛ ... وقال أَبو نعيم الحلبي: عن الدراوردي، عن عبيد الله، عن
نافع، عن ابن عمر، فعله، موقوفًا، وهو الصواب". اهـ
وعليه:
إن أحاديث الباب سواء كان فيها تقديم
اليدين قبل الركبتين في السجود، أو العكس من تقديم الركبتين قبل اليدين، أن هذا
الأحاديث لا يصح منها شيء عن النبي -صلى الله عليه وسلم-.
والصحيح في هذا الباب إنما هو عن عبد الله بن
عمر -رضي الله عنهما- موقوفًا عليه، من أنه كان يضع يديه قبل ركبتيه.
روى عبد الرزاق في المصنف بسند صحيح عن
نافع، أن ابن عمر، كان يقول:
"إذا
سجد أحدكم فليضع يديه مع وجهه، فإن اليدين تسجدان كما يسجد الوجه، وإذا رفع رأسه فليرفعهما
معه".
ورواه البيهقي في سننه الكبرى بلفظ: "
إذا سجد أحدكم فليضع يديه، فإذا رفع فليرفعهما، فإن اليدين تسجدان كما يسجد الوجه
".
قلت: ولفظ البيهقي أصح وأشهر وهو ما في
مسند أحمد والنسائي.
وقد ذهب ابن المنذر في الأوسط إلى أنه صح
موقوفًا عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما-.
وقال الحاكم في المستدرك بعد تتبع
أحاديث الباب: " فأما القلب في هذا فإنه إلى حديث ابن عمر أميل لروايات في ذلك
كثيرة عن الصحابة والتابعين".
وكذا قواه البخاري في الصحيح، قال
البخاري في أبواب صفة الصلاة من صحيحه، باب: يهوي بالتكبير حين يسجد.
وقال نافع: "كان ابن عمر يضع يديه قبل
ركبتيه". اهـ
فلم يسند البخاري الحديث لأنه موقوف على
ابن عمر، فليس على شرط الكتاب، ولكنه أرشد أن حديث ابن عمر أصح ما روي في هذا
الباب.
وهناك فائدة ذكرها ابن عبد البر -رحمه
الله- في غير هذا الموضع، أن زهد الشيخين عن حديث في الأحكام يَدل على أنه لم يصح
في هذا الباب ما يصلح للرواية.
والخلاصة:
إن الأقرب للسنة النزول للسجود على اليدين قبل الركبتين،وهو ما ذهب إليه الإمام مالك وأحمد؛ والله أعلم.
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
وكتب
أبو صهيب وليد بن سعد
القاهرة 9 / رمضان / 1446 ه
9 / 3 / 2025