إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الجمعة، 3 يونيو 2022

التبيان في معنى قول النبي أن الإبل خلقت من الشيطان!


 التبيان في معنى قول

 النبي أن الإبل خلقت من الشيطان!

 

    الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد:



   فإنه قد كَثر سؤالي أخيرًا عن معنى قول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " أن الإبل خلقت من الشياطين".

   قلت: والذي ينبغي على الباحث قبل النظر في قول العلماء في شرح هذا الحرف المُشْكل، التأكد من صحة الحديث أولًا.

 وأصل هذه اللفظة وردت في نهي النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن الصلاة في مبارك الأبل.

    والمبارك: جمع مبرك، وهو الموضع الذي تبرك فيه الإبل قريبًا من الماء بعد أن تشرب.
   وأصل الحديث في صحيح مسلم، وفيه: أن " جابر بن سمرة ـ رضي الله عنه ـ قال: سأل رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم أأتوضأ من لحوم الغنم ؟ قال : " إن شئت فتوضأ ، وإن شئت فلا توضأ " قال أتوضأ من لحوم الإبل؟ قال : " نعم فتوضأ من لحوم الإبل " قال : أصلي في مرابض الغنم ؟ قال : " نعم " قال : أصلي في مبارك الإبل ؟ قال : " لا ". الحديث.

  وقد روى هذا الحديث جمع من الأصحاب رضي الله عنهم ، بلفظ مختصر، وهو : " صلوا في مرابض الغنم ، ولا تصلوا في أعطان الإبل".

  وشارك جابر بن سمرة في روايته: "عبد الله بن عمر، وأبو هريرة، وأنس بن مالك، والبراء بن عازب، وسبرة بن معبد الجهني ، وعبد الله بن مغفل ، رضي الله عنهم جميعًا، كما قال الترمذي الإمام في جامعه.

  إلا أن هذه اللفظة موضوع البحث لم تأت إلا في حديث عبد الله بن مغفل وحده.

   وحديثه عند أحمد في مسنده وابن حبان في صحيحه، وابن ماجة في سننه، وغيرهم .. بسند ظاهره الضعف، إذ أنه من رواية الحسن البصري عن عبد الله بن مغفل رضى الله عنه، والحسن مدلس وقد عنعنه، إلا أن سماعه من عبد الله بن مغفل صحيح كما قال الإمام أحمد ـ رحمه الله ـ .

   وعند ابن حبان في صحيحه والطبراني في الأوسط أن أبا سفيان بن العلاء، سأل الحسن عن من حدثك أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : ( لولا أن الكلاب أمة من الأمم لأمرت بقتلها ؟ ) فقال : عبد الله بن المغفل والله الذي لا إله إلا الله حدثني في هذا المسجد وأومأ إلى مسجد الجامع.

   قلت: وحديث "لولا أن الكلاب أمة من الأمم ..." جاء في صحيح ابن حبان ومسند الروياني بسند صحيح أن الحسن ضم إليه حديث النهي عن الصلاة في مبارك الإبل.

  فشبهة الانقطاع والتدليس ممتنعة هنا؛ وقد رواه عن الحسن خمسة عشر رجلا  كما قال ابن عبد البر ، وذكره ابن رجب في فتح الباري ( 2 / 420).

 ومع أن ما بين أيدينا من المصادر ليس فيها هذا العدد من الرواة، إلا أن هذه اللفظة اضطربت في حديثهم ..

   فرواه أحمد وعبْدِ بن حُميد في مسنده والبيهقي في الكبرى عن قتادة بدون هذه الزيادة، وروى الحديث النسائي في الكبرى عن أشعث بن عبد الملك الحمراني بدونها أيضا.

  وسند عبْدِ بن حُميد والنسائي والبيهقي صحيح، وحديث أحمد حسن إن شاء الله.

  ورواه بهذه الزيادة ابن أبي شيبة في مصنفه، وعنه ابن ماجة وابن حبان من حديث يونس بن عبيد، وسنده صحيح.

   وفي رواية لأحمد بسند حسن من طريق عبيد الله بن طلحة الخزاعي، فيها : "فإنها من الجن خلقت، ألا ترون عيونها وهبابها إذا نفرت ؟".

هذا، وجاء بألفاظ أخرى ضربت عليها لضعف سندها.

  وقد تراجع الشيخ الألباني ـ رحمه الله ـ عن تصحيح هذه اللفظة كما في ضعيف موارد الظمآن " 25 / 335 " - وتخريج " حقيقة الصيام ص 47".

   بيد أنه صح الحديث بلفظ قريب من حديث البراء بن عازب ، قال : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصلاة في مبارك الإبل ؟ فقال : " لا تصلوا في مبارك الإبل فإنها من الشياطين". رواه أحمد وأبو داود بسند صحيح.

   وليس فيه أنها "خلقت من الشياطين"، وإنما "من الشياطين".


   وعلى كُلٍ فإن من صحح الحديث بهذه اللفظة المُشكلة له تأويلات عليها تظهر أنها ليست على ظاهرها، ولعل أحسنها ما ذكره ابن حبان في صحيحه، قال:

  "ذكر خبر قد يوهم من لم يحكم صناعة الحديث أن الزجر عن الصلاة في أعطان الإبل إنما زجر لأنها من الشياطين خلقت" ؛ ثم ذكر الحديث، ثم قال: " قوله صلى الله عليه و سلم : ( فإنها خلقت من الشياطين ) أراد به أن معها الشياطين، وهكذا قوله صلى الله عليه و سلم :

( فليدرأه ما استطاع فإن أبى فليقاتله فإنه شيطان ) ثم قال في خبر صدقة بن يسار عن ابن عمر : ( فليقاتله فإن معه القرين )

   قلت: يقصد حديث مقاتلة المصلى لمن يمر بين يديه، لأن هذا المار يكون معه قرينه، وهذا القرين شيطان يقطع صلاة المسلم.

   ثم قال ـ رحمه الله ـ : "ذكر البيان بأن قوله صلى الله عليه و سلم :

( فإنها خلقت من الشياطين ) لفظة أطلقها على المجاورة لا على الحقيقة" ؛ ثم ذكر حديث حمزة بن عمرو الأسلمي قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ( على ظهر كل بعير شيطان فإذا ركبتموها فسموا الله ولا تقصروا عن حاجاتكم ). قلت: وسنده حسن.

   وقال ـ رحمه الله ـ أيضا : "ذكر خبر ثان يصرح بأن الزجر عن الصلاة في أعطان الإبل لم يكن ذلك لأجل كون الشيطان فيها"

    ثم روى عن سعيد بن يسار أنه قال: كنت أسير مع عبد الله بن عمر بطريق مكة فلما خشيت الصبح نزلت فأوترت فقال: أليس لك في رسول الله صلى الله عليه و سلم أسوة ؟ فقلت : بلى والله، قال : فإن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان يوتر على البعير". [حديث صحيح]

   ثم عقب  ـ رحمه الله ـ : "لو كان الزجر عن الصلاة في أعطان الإبل لأجل أنها خلقت من الشياطين لم يصل صلى الله عليه و سلم على البعير إذ محال أن لا تجوز الصلاة في المواضع التي قد يكون فيها الشيطان ثم تجوز الصلاة على الشيطان نفسه بل معنى قوله صلى الله عليه و سلم : ( إنها خلقت من الشياطين ) أراد به أن معها الشياطين على سبيل المجاورة والقرب". اهـ

   قلت: ومن هذا الباب أيضًا أمره ـ صلى الله عليه وسلم ـ بقتل الكلب الأسود البهيم، وقتل حيات البيوت بعد أن تنذر ثلاثة أيام، وعلل ذلك بأنها شيطان، والحديثان في صحيح مسلم.

   هذا؛ وقد أحسن أيضًا ابن قتيبة والمناوي و العظيم آبادي، وغيرهم في تأويل الحديث على وجه سائغ.
  وقد رأيت أن الشيخ "عبد المحسن العباد" جمع أقولهم وزاد عليها في شرحه على سنن أبي داود، فنكتفي بذكر قوله هنا، قال  ـ حفظه الله ـ :

    " المقصود بقوله: (فإنها من الشياطين) يعني: أن الإبل فيها شدة، وفيها غلظة، وفيها نفار، وإذا حصل منها نفور فإنها تؤذي أو تتلف من يكون حولها، ومن يكون معها في معاطنها ومباركها.

   والمعاطن هي: المبارك التي تختص بها، والتي إذا شربت الماء بركت فيها، يعني: ما حول المكان الذي تشرب منه يقال له: معاطن الإبل، فلو حصل لها شيء ينفرها فإنها تتلف من حولها، وتؤذي من حولها إذا لم تتلفه.

 ولهذا جاء التفريق بين أصحاب الإبل وأصحاب الغنم؛ لأن أصحاب الإبل عندهم الغلظة، وعندهم التكبر، كما جاء في بعض الأحاديث، وأصحاب الغنم عندهم السكينة والهدوء، والرسل الكرام عليهم الصلاة والسلام كانوا يرعون الغنم، وهي ذات سكينة وهدوء، ورعاية الإبل أو الاشتغال بالإبل فيه غلظة وفيه قوة؛ لأن فيها قوة، وفيها قسوة، فصاحبها يكون فيه شبه بها من حيث القسوة، ولهذا فإن أهل الإبل هم أهل الكبر وأهل الخيلاء، بخلاف أهل الغنم فإنهم أهل سكينة وأهل وقار، كما جاء ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. فإذاً: قوله فيها: (فإنها من الشياطين)، أي: أنها فيها من صفات الشياطين، وهي الغلظة والشدة والنفرة، وأنها تؤذي من حولها، ومنهم من يقول: إنها من الشياطين معناه: أن الذي فيه عتو وفيه قوة وفيه غلظة يقال له: شيطان، فما كان من الإبل ومن الإنس والجن والدواب وما حصل منه عتو وإيذاء وما إلى ذلك فإنه يوصف بهذا الوصف ويقال له: شيطان، فقوله: (إنها من الشياطين) يعني: أن عندها الغلظة والشدة والقسوة، وأن كل من عتا من الإنس والجن والدواب يوصف بهذا الوصف. أو أنها ذات نفار، وذات غلظة وجفوة، وأنها إذا حصل منها نفور فإنها تتلف من يكون حولها، وليس ذلك لنجاسة أرواثها وأبوالها فإن أرواثها وأبوالها طاهرة، وكل مأكول اللحم فإن روثه وبوله طاهر، والدليل على ذلك إذن الرسول صلى الله عليه وسلم للعراينين بأن يشربوا من أبوال الإبل وألبانها، فلو كانت أبوالها نجسة ما أذن لهم الرسول صلى الله عليه وسلم بالشرب من الأبوال للاستشفاء؛ لأنه لا يتداوى بحرام، كما جاءت في ذلك السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأيضاً ما جاء أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف على بعير، وأدخله المسجد، ولا يؤمن من حصول الروث منه وحصول البول منه، فهذا يدل على طهارة بوله وروثه؛ لأنه لا يعرض المسجد لأن يحصل فيه ما ينجسه بأن يدخل فيه شيئاً أبواله نجسه وأرواثه نسجه، بل الأبوال طاهرة والأرواث طاهرة". اهـ 

وقال في موضع اخر:

   " وقد أورد أبو داود رحمه الله حديث البراء بن عازب رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الصلاة في مبارك الإبل فقال: (لا تصلوا في مبارك الإبل فإنها من الشياطين). وقوله: [(فإنها من الشياطين)] المقصود من ذلك ما في الإبل من الشدة والغلظة ونفرة الطباع، وهذه الشدة والغلظة صفات من صفات الشياطين، وليس معنى ذلك أن مادتها كمادة الشياطين؛ لأن الشياطين خلقت من نار والإنس أصل مادتهم من تراب. فإذاً: ليس كونها من الشياطين بمعنى أنها خلقت من مادة الشياطين، وإنما المقصود من ذلك أنها من جملة الشياطين أو من جنس الشياطين المتمردة، والمتمرد من الإنس والجن يقال له: شيطان، فالإنس فيهم شياطين والجن فيهم شياطين، وهم المتمردون الذين عندهم الخبث وعندهم السوء وعندهم الشدة وعندهم الغلظة وعندهم الأذى.

    فإذاً: هذا هو المقصود بكونها من الشياطين، ولهذا فإنه إذا حصل منها شيء والناس حولها يصلون في معاطنها وفي مباركها فإنه يحصل لهم بسببها ما يحصل من الضرر، وكذلك لو كانت ليست في مباركها ومعاطنها فيمكن أن تأتي والناس يصلون في معاطنها ومباركها فيحصل التأثير، وعلى هذا فإن المنع من الصلاة في مبارك الإبل ليس لنجاسة أبوالها وأرواثها، فإنها طاهرة، ولكن لما جاء فيها من وصف الشدة وأنها من الشياطين، أي: فيحصل منها الأذى ويحصل منها الضرر لمن يصلي في مباركها ومعاطنها، سواء أكانت موجودة فيها أم كانت في طريقها إليها أم كانت حولها، فإنه إذا صلى فيها أحد قد تأتي إلى مباركها فيحصل لمن يصلي حولها التشويش على الأقل في صلاته إن لم يحصل له شيء من الضرر بكونها تخبطه أو يحصل له ضرر بفعلها". اهـ

 

  قلت: وهذا الذي ذكره الشيخ ممتنع في الصلاة في مرابض الغنم، فإنها حتى إن هاجت فلن يتأذى منها المصلى حال صلاته، بل في المتفق على صحته عن أنس بن مالك قال : " كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي ، قبل أن يبنى المسجد ، في مرابض الغنم".

وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

وكتب

أبو صهيب وليد بن سعد

القاهرة 3 / ذو القعدة / 1443

2 / 6 / 2022

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق