إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الخميس، 7 ديسمبر 2023

هل أخرج الإمام مسلم أحاديث معلة في صحيحة؟

 

هل أخرج الإمام مسلم أحاديث معلة في صحيحة؟

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد:

فإنه قد كثر الكلام حول هل تعمد الإمام مسلم بن الحجاج -رحمه الله- إخراج أحاديث معلة في صحيحه تنبيهًا منه على علتها؟.

والجواب:

حتى تتصور المسألة لابد أولًا من بيان معنى العلة عند المحدثين.

فإن العلة توسع في معناها العلماء، حتى أصبح يُعبر بها عن كل عيب في الحديث، فإن كان فيه راوٍ ضعيف قالوا: حديث ضعيف وعلته فلان، أو مُعل بالإرسال، وهكذا.

إلا أن الجيل الأول من أهل الصنعة كان لا يتعامل مع العلة بهذا التوسع، إذ أن العلة عندهم هي الكشف عن عيب في الحديث قَلّ من يَنتبه إليه، فالعلة خطأ خفي، ولهذا قيل أن العلة تختص ببيان أوهام وأخطاء الثقات.

وأما الانقطاع وجرح الرواة فليس بخفي، فهذا يستطيعه كل أحد، أما الكشف عن الخطأ الخفي فهذا لا يقدر عليه إلا الجهابذة النقاد أمثال شعبة وأحمد وابن معين وأضرابهم.

وربما استخدموا معنى العلة في التعبير عن ضعف ظاهر في الحديث، ولكن ليس هو الأصل عندهم.

وهذا الذي مر ذكره هو ما كان عليه الإمام مسلم -عليه الرحمة- .

فإن فهمت هذا، ظهر لك أن صنيع الإمام مسلم ومن قبله البخاري كان على نقيض ما ذُكر، من أنه يقصد إخراج أحاديث معلة في صحيحه ليُبين ضعفها؛ إذ أنه وكذا البخاري يتكلفان إخراج طرق أكثر للحديث الواحد دفعًا لعلة متوهمة، كالتفرد مثلًا لأنه ربما يُعل حديث الثقة إن تفرد به، فيأتي مسلم -رحمه الله- فيخرج للحديث متابعات دفعًا لهذا التفرد، ودفعًا لهذه العلة المتوهمة.

وربما يكون في المتابعات بعض الرواة دون مرتبة الثقة، بل ربما ينزل الرواي منهم عن مرتبة الصدوق المطلق، فُيذكر في ترجمته مثلًا أنه صدوق له أوهام.

فيكون إخراج الإمام مسلم لحديث هذا الصنف غير مقصود لذاته، وإنما لإثبات أن هذا الثقة لم يتفرد بالحديث.

وأن إخراج حديث هذا الصدوق الذي يَهم لم يكن تنبيهًا على علة حديثه، إذ أن كلام العلماء في ضبطه ووهمه معروف لا يخفى.

كما أن الإمام مسلم لا يُريد من إيراد متن هذا الصدوق استنباط فائدة فقهيه مثلًا، كصنيع الإمام البخاري، فإن مسلمًا لم يبوب لصحيحه ولهذا يورد الحديث بتمامه ولا يقطعه، أما البخاري فكان يقطعه لأنه يستنبط من المتون.

فيكون العمدة عند مسلم المتن الذي في الأصل وما ذكر في المتابعات ليس مقصودًا لذاته، إذ أنه من رواية من يَهم، وإنما ذكر حديثه لدفع التفرد أو اثبات سماع أو غير ذلك من الفوائد الإسنادية.

فلا يأتي أتٍ بعد هذا ويقول: إنه أخرج حديث هذا الصدوق الذي أخطأ في متنه من أجل أن يُنبه على علة حديثه!، هذا أولًا.

وثانيا: إن الإمام مسلم -عليه الرحمة- ربما قصد العلو فقدم حديث من هو دون الثقة وأخر حديث من هو أرفع منه.

وهذا كان عليه أهل الحديث في زمن مسلم وقبله، وكان عليه حال من جاء بعده.

فهل في هذه الحالة يُقال أنه يُعلّ الحديث المذكور في المتابعات مع أنه أحسن إسنادًا من حديث الأصل؟!

وثالثًا: أنه ربما أورد الإمام متنًا فيه خطأ، كحديث الصدقة باليد اليسرى، وهذا لا يعد علة عندهم، إذ أن العلة الأصل فيها الخفاء وهذا المتن ظاهر الخطأ.

بيد أن مسلمًا أدى الحديث كما حمله، ومعلوم عندهم اللفظ الصحيح، وربما حدث العكس فيخرج المتن الصحيح وينبه على مخالفة بعض الرواة، فيقول بعد إخراج الحديث بتمامه، وقال فلان كذا، أو يُنبه أن هذا لفظ فلان وخالفه فلان فقال: كذا وكذا.

فإن قيل: أن هذا من تنبيه مسلم على علل الأحاديث، نقول: هذا أيضًا يفعله البخاري بكثرة في صحيحه، فهل يقصد أيضًا إخراج أحاديث معلة تنبيهًا على ضعفها؟

والأمر هنا لابد أن يفهم في ضوء ما ذكر آنفًا أن العلة الأصل فيها الخفاء، والتنبيه على ألفاظ الرواة ليس من هذا الباب، بخلاف التنبيه على الإدراج فهو من باب العلل الخفية كما هو فهم الأوائل، والله أعلم.

وما فعله مسلم من التنبيه على اختلاف ألفاظ الرواة يدخل في المعنى الواسع للعلة، ولكنها علة غير قادحة، إذ الأصل لفظ متن الأصل الثابت وما جاء بعده إنما هو لعلة إسنادية كما مر.

رابعًا: إننا إن سلمنا لهذا الزعم، تقرر عندنا أن الإمام مسلم والبزار يشتركان في نفس المنهج في كتابهما إذ يقصدان إخراج أحاديث معلة تنبيهًا على علتها.

وهذا ظاهر البطلان، إذ أن مسلمًا اشترط الصحة في كتابه، فكيف يخرج أحاديث ضعيفة فيه؟

نعم، يوجد ما يُستدرك عليه في كتابه، كما يوجد أيضًا ما يستدرك على البخاري لتبقى العصمة لكتاب الله تعالى.

ولكن أن يُقال إنه تعمد إخراج أحاديث ضعيفة في صحيحة فهذا والله عجيب.

صحيح أنه ربما يَلتبس على البعض ما ذكره في مقدمته من أنه سيوضح ويشرح الأحاديث المعللة التي يأتي عليها.

والسؤال: أين هذا الشرح والإيضاح في بيان علل هذه الأحاديث التي ذكرها؟ وكتابه بين أيدينا.

فلم نجده يقول مثلًا: واختلفوا على فلان، ثم يذكر وجوه الاختلاف كما يفعل ابن المديني والدارقطني.

أو يقول: هذا اشبه بحديث فلان كما يفعل أبو حاتم.

أو ينكر سماع راوٍ صرح بالسماع كما يفعل ابن معين.

فهذا هو إيضاح وشرح علل الأحاديث، وهذا لم يأت منه شيء في صحيح مسلم.

وغاية ما ذكر اختلاف ألفاظ الرواة وهذا فعله البخاري أيضًا، وإن كان يدخل في معنى العلة بإطلاق، إلا أنه ليس فيه غموض ليكون علة قادحة يضعف من أجلها الحديث.

فضلًا عن أن مسلمًا عرض كتابه على إمام العلل أبي زرعة الرازي -رحمه الله-، فما كان فيه علة بالمعنى المعروف الذي يُضعف بسببه الحديث نبه عليه، فحذفه مسلم من كتابه.

فيكون مقصود الإمام مسلم بالتنبيه على العلة هنا، يعني العلل غير القادحة في صحة الحديث، والله أعلم.

وهذا تجده في كتب العلماء بكثرة، أقصد التنبيه على اختلاف الرواة، فأبو داود والترمذي والنسائي وغيرهم يفعلونه، ولا يقصدون به التنبيه على علل في الحديث بالمعنى المتبادر لمفهوم العلة القادحة التي يضعف الحديث بسببها.

وإلا لكان نال من استدرك عليه كالدارقطني أضعاف أضعاف ما استدركه، بيد أنه لم يكن عقيم الفهم، بل كان يعلم أن التنبيه على اختلاف الرواة لا يُعل الحديث، خاصة إن كان هذا في المتابعات والتي لم يأت بها -كما سبق- إلا لفائدة إسنادية بعيده عن المتن.

خامسًا:
إن
 مسألة الاستدراك والألزامات إن لم يكن لها قاعدة قوية يركن إليها الناقد وتتفق مع قواعد صاحب الكتاب المنتَقد يحدث بسبب ذلك فوضى. وكل واحد بعدها يُشرق ويغرب.

ومثال ذلك: أن العلماء سلموا للدارقطني بحديث واحد انتقده على البخاري، أما باقي الأحاديث فقالوا: أن الحق فيها مع البخاري رحمهما الله.

ومع هذا حسّن الدارقطني في سننه حديثًا لهذا الرواي (أُبي بن العباس) وقد تفرد به.

وهو نفس ما أخذه على البخاري.

فالشاهد أنه ربما يَلتبس الأمر على المرء فيظن أن الحق فيما يقاتل عليه في حين أنه يخالفه عند التطبيق.
وأخيرًا:
لا يخفى على من عنده أدنى علم بالحديث، أن المحدث يكون عنده من الأحاديث الضعيفة المعلة أضعاف من عنده من الصحيح..
ومثال ذلك: أخرج الترمذي في جامعه حديثًا عن الإمام مسلم، وهذا الحديث ليس في الصحيح، وهو حديث: "أحصوا هلال شعبانَ لرمضان"، وهو حديث معل بالانقطاع.

والانقطاع علة خفية نسبيًا، وليست بظاهرة كختلاف الرواة.
وكذا ما أخرجه وذكره الإمام مسلم من الأحاديث في كتابه التمييز، وأبان علتها.
فلماذا إذن لم يكثر الإمام مسلم من هذه الأحاديث في صحيحه ليُبين عللها أيضًا؟.
نعم؛ هناك من الأحاديث ما تكلم عنه الإمام مسلم في صحيحه، ولكن هذا من غير قصد، وإنما الأمر أتى عرضًا لأنها داخلة في أحاديث الباب الذي يورده؟
العلماء فهموا هذا، ولذا لم يستدركونها عليه ويخطئونه، والله أعلم.

ولهذا استحق أن يُطلق على كتابه اسم "الصحيح".والعجيب جدًا أن صاحب هذه الفرية زعم أن مسلمًا لم يشرح أو ينبه على الأحاديث المعلولة بالطريقة المعروفة، وإنما وضع لهذا الأمر منظومة، وهو أنه يأتي بالصحيح في أصل الباب، والمعل في المتابعات.

وهذا كلام عرضه يغني عن رده، إذ هو هلاوس سمعية وبصرية -نسأل الله العافية-، فأين هذا القيد في كلام المؤلف والذي وضع مقدمة لكتابه لفتح مغاليقه؟

وهل يتعامل مع العلم بالتكهنات والتخرصات التي ليس عليها دليل؟

ومن يُسلم بهذا الزعم يلزمه أن يخرج لنا الصحيح من صحيح مسلم، لأن الأصول بطبيعة الحال أقل بكثير من المتابعات كما هو معلوم، فيكون القليل من كتابه صحيح والغالب على البقية العلة والضعف، والله المستعان.

هذا؛ وأنا أعلم أن الأمر يحتاج إلى بعض البسط، ولكن هذا لا أقدر عليه الآن، فياليت أحد الأفاضل ينشط لتلخيص كلام العلماء في دفع هذه الشبهة التي تتضمن الطعن في هذا الكتاب الصحيح المبارك.

وقد شرعت في قراءة كتاب الشيخ ربيع المدخلي -حفظه الله- في رد هذه الفرية فوجدته قويًا في بابه، فإن لُخص أو استخرجت فوائده في نقاط لكان فيها نفع بإذن الله تعالى.

وصلى الله على محمد وعلى اله وصحبه وسلم.

وكتب

أبو صهيب وليد بن سعد.
القاهرة ٢٠ / ربيع الأول / ١٤٤٥ هـ
5 / 10 / 2023

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق