إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الخميس، 7 ديسمبر 2023

منهج المتقدمين بين الجهلة والحدادية.

 منهج المتقدمين بين الجهلة والحدادية

 الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد:

  فإن علماء الحديث الأُول كان لهم طريقة في فهم الحديث والتعامل معه، وهذه الطريقة لم تحرر كتابة.

بيد أن الذي جاء من بعدهم فهمها باستقراء تراثهم، وقد التزم بهذه الطريقة والمنهج من جاء بعدهم من أهل الصنعة أيضًا، فنجد الإمام مسلم والترمذي -رحمهما الله- يذكران طريقة المتقدمين هذه في ثنايا كلامهما.

وهؤلاء لم يحرروا هذا المنهج كتابة أيضًا، وإنما ورد بعضًا منه عرضًا كما في مقدمة مسلم وعلل الترمذي، ثم حدث تحرير هذا المنهج كتابة بعدُ.

هذا، وغالب من كَتب في هذا الباب هو من أهل الصنعة، إلا أنه دخلت على بعضهم علوم الفلسفة والمنطق، فأدخلوا مباحث لم يعرفها الأوائل كالمتواتر والأحاد.

والذي كان عليه الأوائل أن أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم كلها آحاد كما قرر ذلك ابن حبان -رحمه الله- .

وقال غيره: أنه لا يستطيع أحد أن يأتي بحديث متواتر بهذا التقرير الموجود في كتب المصطلح. وأن معنى المتواتر المذكور في كلام المتقدمين لا يُقصد به هذا المعنى المعروف أخيرًا، وإنما الحديث من الممكن أن يأتي من طرق متعددة ولا يكون متواترًا، ويأتي من طرق قليلة ويكون متواترًا = لقوة نقلته، وهذا أشار إليه شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-.

ومع ذلك لو وقف الأمر عند الاصطلاح لهان الخطب، وإنما التباين ظهر في التطبيق.

وذلك لأنه كان للمتقدمين نظرة خاصة في الأحاديث، إن أرد أحدهم أن يوضحها ما استطاع، لأن بعض العلم لا توضحه الكلمات.

ومن هذا الباب الشذوذ والعلة، وهما مما قصر عنه علم من تأخر عنهم، فإنهم في الغالب ينشغلون بحال الرواة واتصال السند؛ أما الشذوذ والعلة، فهما مما يتطلب بيانه أمثال أحمد وابن معين وابن المديني ومن هم أعلى منهم طبقة أو نزل عنهم وعُرف بهذا الشأن.

إلا أن المتأخرين أقروا لهؤلاء الأعلام بعلو الكعب والتقدم في هذا العلم، ولم يردوا عليهم أحكامهم، وما لم يصل إليهم من كلام أو أحكام للمتقدمين في حديث أو راوٍ اجتهدوا في التماس سبيلهم ومنهجهم، فأصابوا تارة وجانبوا الصواب تارة أخرى.

فأتى من بعد هذا الجيل من استدرك عليهم، حتى وجد من استدرك على البخاري -رحمه الله- .

فأصبح صنيع العلماء في هذه المرحلة= جعل المتقدمين في منزلة، الأصل فيها التسليم لهم فيما قالوه وذهبوا إليه.. لكون أنهم خالطوا رواة الأحاديث ووقفوا على أصولهم وعرفوا الخطأ والصواب فيها، مع ما يُضم لهم في هذا المقام من خيرية الزمان الذي كانوا فيه، وهذا كله لم يكن لمن جاء من بعدهم منه نصيب.

والمنزلة الأخرى= أصبحت للذين جاءوا من بعدهم والتمسوا منهجهم وطريقتهم فيما لم يقفوا للمتقدمين فيه على كلام.

وهؤلاء تعامل معهم العلماء بالنظر في دليلهم، فإن أصابوا تابعوهم، وإن أخطأوا رُد عليهم خطئهم، وتحفظ كرامتهم ومنزلتهم، لأن العصمة دفنت يوم دفن النبي -صلى الله عليه وسلم-.

كما أن أهل السنة يعلمون الحق ويرحمون الخلق، فيعرفون خطأ من أخطأ من هؤلاء العلماء ولا يتابعوهم عليه، مع التماس العذر لهم من أنهم لم يقصدوا مخالفة المتقدمين.

إلا أن هذا العلم يَقل مع مرور الزمان بموت العلماء، وعدم توافر المصادر التي كانت بين يدي المتقدمين.

والعالم من هؤلاء المتأخرين كلما كان أحفظ لصحيح حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأعلم بأقوال العلماء المتقدمين، كان أضبط لأحكامه، وأعرف من غيره بعلل الأحاديث، وأقرب لتميز الصحيح من الضعيف.

واستمر الحال على هذا، ثم دخل التساهل من بعض الفقهاء، فتساهلوا في زيادات الثقات، وعدم الإعلال بالتفرد والمخالفة.

وتساهل غيرهم في أحاديث الفضائل، فخالفوا بضم الواهيات لهذا الباب.

فكان التعامل معهم أيضًا بالنظر في دليلهم، فإن وافقوا الحق قُبل منهم، وإلا رُد عليهم.

وينبغي التميز هنا بين المحدثين من أصحاب الأصول كالترمذي وابن خزيمة، وبين من صحح أحاديث وجدها في كتب لم تشترط الصحة، فأعمل عليها القواعد وحكم عليها بالضعف أو الصحة.

فأصحاب الكتب المسندة في منزلة لا يبلغها من جاء بعدهم، ولهم طريقة في كتبهم، أقرهم عليها علماء زمانهم ولم ينكروها عليهم.

ثم وصل بنا الحال إلى هذا العصر الذي كاد أن يُعدم فيه العلم لقلة العلماء، خاصة في الحديث.

فرأينا من يزعم أنه أعلم وأقعد من هؤلاء الفقهاء من المتأخرين بهذا العلم الشريف، وأن جماعة من المحدثين الذين اشتغلوا بالفقه كابن خزيمة وابن حبان، كلامهما كله يحتاج إلى نظر من المعاصر، ليحكم على طريقته بالكلية فيصفه بالمتساهل أو المتناقض .. هكذا بعموم.

وتكون كلمة هذا المعاصر فاصلة في الحكم على هذا العالم الكبير.
والصحيح في هذا المقام النظر في دليل هذا العالم المتقدم
-نسبيًا- كما أسلفنا، فإن خالفت طريقته طريقة المتقدمين، وظهر لنا ضعف دليله، رددنا عليه خطئه مع حفظ كرامته ومنزلته.

مع التنبيه على أن هذا متعسر جدًا، ويصعب على أكثر من مارس هذا العلم خاصة في باب الحديث الحسن، الذي صرح مثل الإمام الذهبي أنه في إياسٍ من الوقوف على ضابط له.

وقد نشأ من هذه المخالفة، أقصد تصنيف هؤلاء العلماء بالتساهل والتناقض أو الوهم والغفلة .. بأن ظهر طائفتان نسبوا أنفسهم كذبًا وزورًا لهذا العلم الشريف، يشتركان في إصدار الأحكام جملة على كتب السنة من منطلق.. هذا كتاب الحاكم، وهو متساهل، أو هذا كتاب ابن حبان وهو كذا.

فعندهم تصور مسبق للحكم على الحديث قبل البحث والدراسة.

الطائفة الأولى: مجموعة من الجهلة لا تَعرف من هذا العلم إلا هذه الأصول والقواعد المذكورة في كتب المصطلح، مع جهل تام بمنهج هؤلاء العلماء المتقدمين خاصة أصحاب الكتب المسندة، فلا يعرفون شروط هؤلاء العلماء في كتبهم، وأن العالم منهم يشترط في كتاب له، ما يخالفه في كتاب اخر.

فيأتي هؤلاء الجهلة ويستدركون على هؤلاء الأعلام بما تعلموه في كتب المصطلح، والذي بعض ما فيه كان يجهله هؤلاء الأوائل -كما مر- لأنه من الفلسفة وعلم الكلام.

وكل ذلك بزعم أنهم على طريقة المتقدمين، فيزعم الجاهل من هؤلاء أنه على طريقة المتقدمين، والترمذي مثلًا يخالفها.

وقد ناقشت أحد هؤلاء من أيام في حديث استدرك تصحيحه على الترمذي، فظهر لي جليًا أنه يجهل شرط الترمذي في جامعه، بل شرط الحديث الصحيح بعموم، ثم تفاجأت أنه يبلغ من العمر أربعة وعشرين سنة، ولا يناديه الناس إلا بفضيلة الشيخ المحدث، فتأمل!.

وتَمْيّز هذه الطائفة سهل ميسور، إذ لا يصبر الواحد منهم إلا أن ينادي على نفسه بالجهل وخفة العقل، حتى أني قرأت لأحد هؤلاء أنه يقول إنه على منهج المتقدمين ولهذا لا يوجد في مكتبته كتب لعلماء بعد القرن الثالث!.

مع تعالم واضح يظهر في طول الحواشي وكثرة النقولات، فيريد الواحد منهم نقل كل ما وقف عليه في كتب الرجال ليُظهر أنه من أهل الصنعة.

والطائفة الثانية: تشترك مع الطائفة الأولى في تجهيل علماء السلف من المحدثين والفقهاء وعندهم شهوة تضعيف الأحاديث أيضًا، حتى أنك إن تحديتهم بتصحيح حديثًا ليس في الصحيحين ما استطاعوا، فهم لا يعرفون إلا التضعيف.

ولو صححوا الحديث، ستجد من يستدرك على المصحح منهم ويضعف الحديث.

فالقوم عندهم شهوة التضعيف، ولو وقف الحال عند هذا الحد لهان الخطب، إلا أنهم يغلب عليهم شهوة التكفير أيضًا.

فهذا الطائفة لم تكتف بتجهيل المتأخرين من أهل الحديث، بل ذهبت إلى تكفير طائفة منهم.

حتى أني رأيت أحد هؤلاء يصرح بتكفير الشيخ الألباني -رحمه الله-، ومشبوه اخر يصف الشيخ أحمد شاكر بأنه شيطان.

وهذه الطائفة من التكفيرين الحدادية ترفع أيضًا شعار منهج المتقدمين وتتستر به للهجوم على تراث الأمة والطعن في علماءها.

نعم هناك ما يُستدرك على الشيخ الألباني والشيخ أحمد شاكر، كما يوجد ما يُستدرك على من سبقهم كالسيوطي وابن حجر والذهبي وغيرهم.

إلا أن الأصل هنا النظر في الدليل، والعمل بما ترجح، مع حفظ مكانة ومنزلة هؤلاء العلماء، وأن لهم شرف السبق، والإقرار بأن المتأخر عنهم لن يستطيع اللحاق بهم مهما حاول، فهذه سنة الله في الخلق.

ودونك الشيخ الألباني -رحمه الله-، لا يستطيع الواحد من هؤلاء مجرد قراءة مؤلفات الشيخ المطبوعة فضلًا عن المخطوطة.

فما بالنا بتأليفها أصلا ؟.

ولكن الأمر كما قال الشاعر:

"إن الزرازير لما قام قائمها

توهمت أنها صارت شواهينا".

كما أنه لا بد أن نُقر اليوم أنه لولا المكتبات الالكترونية لما وقفنا على بعض العلل التي ظهرت لنا عند الجمع والمقارنة.

ولولا الحاسوب اليوم لأصبح أكثر من نسمع عنهم ونراهم هباء منثورًا.

وحتى هذه أيضًا، فالقوم لا يحسنون البحث الالكتروني لعدم تعاملهم مع الكتب، ومعرفة خباياها.

فالذي يستدرك اليوم على الألباني والشيخ أحمد شاكر لو سحب منه جهاز الحاسب لصار أجهل من ...

والكلام يطول في بيان طريقة هؤلاء وبيان منهجهم، ولكنها إشارة تغنيك -إن شاء الله تعالى- عن طول العبارة.

والله هو الموفق والمعين، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وصل اللهم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

وكتب

أبو صهيب وليد بن سعد
22 / صفر / 1445 ه
7 / 9 / 2023


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق