من صور شرك الربوبية..
الحمد لله وحده، والصلاة
والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد:
فإن علماء العقيدة يركزون على دعوة
الناس إلى توحيد العبادة المعروف بتوحيد الإلوهية؛ لأن توحيد الربوبية.. والذي هو:
الإقرار بأن الرب ـ سبحانه وتعالى ـ هو الخالق المدبر لكل ما في الكون..
هذا
التوحيد جُبلت النفوس البشرية على الإقرار به، ولم يتَخلف عنه إلا شُذّاذ من الخلق،
ممن انتكست فطرتهم كملاحدة السوفيت والشيوعية الذين يتدينون بنظريات كارل ماركس
وداروين، وأن الخلق نشأ من الانفجار الكبير وبدء يتطور ذاتيا!!.
وإن مشركي قريش على كفرهم كانوا يُقرون
بهذا التوحيد، كما جاء في آيات كثيرة من القرآن، مثل قوله تعالى: { وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ
مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ
اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ}
. [العنكبوت: 61].
وقوله سبحانه: { وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً
فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ
لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ } . [العنكبوت: 63].
وقوله عز وجل: { قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ
فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (84) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ
(85) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86) سَيَقُولُونَ
لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (87) قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ
يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (88) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ
قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} . [المؤمنون 84 : 89].
وقوله تعالى: { وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى
يُؤْفَكُونَ} . [الزخرف
: 87].
فمشركي قريش كانوا يؤمنون بكل ما مر
ذكره في الآيات، بأن الرب
ـ
سبحانه ـ هو خالقهم، وخالق السموات والأرض وما فيهن، وهو الذي سخر الشمس والقمر،
وأنه هو الذي يُنزل المطر، ويُنبت الزرع، وهو القوي الذي يجير ولا يجار عليه.
فكان مقتضى هذا الإقرار أن يعبدوه وحده
ولا يشركون معه آلهة أخرى، لأن من خلق، هو وحده المستحق للعبادة، كما قال سبحانه
وتعالى: { ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ
فَاعْبُدُوهُ}.
[
الأنعام : 102].
لكن هؤلاء مع إيمانهم وإقرارهم بما
أسلفنا، أشركوا مع الرب ـ عز وجل ـ آلهة أخرى!، ولذا قال رب العزة: { وَما يُؤْمِنُ
أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ} .[يوسف: 106].
فحادوا وعدلوا عن الإله الحق إلى آلهة
أخرى، كما في قوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ
وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ}.
[الأنعام: 1].
ومع أن آلهتهم التي أشركوها مع الله ـ
سبحانه ـ ليست لها القدرة على شيء، ولم تخلق شيئًا، كما قال تعالى: { وَاتَّخَذُوا
مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ
لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا
نُشُورًا}. [الفرقان: 3].
وقوله سبحانه: {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ
دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (20) أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ
وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ}.
[النحل:
20 : 21].
فمع علمهم وإقرارهم بعجز آلهتهم، وأنها لا
تملك لهم نفعًا ولا ضرًا، ولا موتًا ولا حياة، ولا بعثًا بعد الموت؛ إلا أنهم
اتخذوهم شركاء مع الله!.
والعلة
التي برروا بها شركهم هي قولهم: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا
لَشَيْءٌ عُجَابٌ}. [ص :
5].
وكما قال ـ سبحانه ـ : { إِنَّهُمْ كَانُوا
إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ (35) وَيَقُولُونَ أَئِنَّا
لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ}. [الصافات 35: 36].
فهذا هو ما يذكره العلماء في الكلام حول شرك
الربوبية؛ وقد كنت وقفت منذ زمن على كلام لشيخ الإسلام "ابن تيمية" ـ
رحمه الله ـ وهو يرد على الاتحادية وأصحاب وحدة الوجود، القائلون:
"إن
الله هو المخلوقات!، وأنه ليس وراء المخلوق خالقٌ خلقهُ متميز عنه"!!.
والقائلون:
" إن وجود الكائنات
هو عين وجود الحق!، وأن الناكح هو المنكوح!، والشاتم هو المشتوم!؛ وكما قال بعضهم:
من قال لك: إن في الكون سوى الله فقد كذب، فقال له صاحبه: من الذي كذب"!. (1)
فبَين شيخ الإسلام ـ عليه الرحمة ـ أن هؤلاء
يعبدون أنفسهم، وأن شركهم من جنس شرك الربوبية!.
فكنت أظن وقتها أن شرك الربوبية متوقف على هذا الطائفة التي تُنسب
إلى أهل القبلة.. وليست منهم.
وأنه ليس لهم وجود يُذكر في الأمة
اليوم، وإن كان هناك من يَنشر زندقتهم عبر الإذاعات بعلم أو بجهل!، كقول المُنشد:
"الله ربي لا آله سواه، ولا حقيقة في الكون إلا هو"، وهذا هو عين ما
قاله ابن عربي والتلمساني والحلاج وهؤلاء الزنادقة، وأنه لا حقيقة في الكون سوى
الله، فقد حلَّ اللهُ عندهم في كل شيء!، حتى في الكلب والخنزير!، وهذا أشد وأشنع
من قول النصارى، أنه الله حلَّ في ثلاثة أقانيم!.
يقول محي الدين ابن عربي الصوفي ـ شيخ الملاحدة ـ :
الربُ حَقٌ والعبدُ حَقٌ … يا لَيتَ شِعري من المُكَلفُ؟!
إن قُلت:
عبدٌ فذاكَ ربٌ … أو قلت:
ربٌ أنى يكلف؟!
بيد أني حدث لي موقف مع رجل عامي ـ أو
هكذا كنت أظنه ـ غيرت نظرتي حول هذه القضية.
والقصة باختصار: أني دخلت على هذا الرجل
في مكان عمله، فوجدته يعلق صورة رسمت بالفحم، يظهر من جودتها أنها كلفته مالا
كثيرا، وأنا أعلم أنه فقير مسكين، فقلت له في شفقة أريد أن اتئلفه: يا عم فلان إن
الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "لا تدخل الملائكة بيت فيه صورة ولا
كلب". وهذا مكان عملك، فبدلًا من أن يمتلئ بالبركة لوجود الملائكة فيه، يمتلئ
بالشياطين بسبب هذه الصور!!.
فإن كانت هذا الصورة لوالدك أو أحد أقربك، فالأولى أن تجعل ثمنها في صدقة جارية
له، كمصحف يوضع في المسجد وما أشبه.
فقال لي: أنها ليست صورة والدي؛ وإنما
صورة سيدي فلان من أولياء الله الصالحين!.
فقلت له ممازحًا: كالشيخ فلان، وذكرت له
أحد الأحياء ممن يعتقد فيه العوام الولاية!!.
فقال لي: فلان ليس من الأولياء، لأنه
يقرأ ويكتب، والولي لا يعرف القراءة والكتابة.
فعندها انتبهت أنه ليس من العوام أو
الدراويش الجهلة، ولكنه على أصول صوفية فيها من الشر ما الله به عليم.
إذ يَعتقد هؤلاء في أول أمرهم بأن الولي لابد
أن يكون مساويًا للرسول، بأن يكون أميًا لا يعرف القراءة والكتابة، كما كان الرسول
صلى الله عليه وسلم أميًا.
ثم يتدرجون بأن الولي في منزلة فوق
منزلة الرسول!، وأن موسى ـ عليه السلام ـ كان رسول، واحتاج إلى الوالي!، يعنون:
الخضر!!
كما في قول ابن عربي:
مقامُ النبوةِ في برزخٍ ...
فُوَيْقَ الرسولِ ودونَ الوليِّ.
ثم ينتهون إلى مرحلة "الإنسان
الكامل" للجيلي، وأن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ هو قبة العالم، وأنه خُلِقَ
من نور الله!، وأنه نور عرش الله.. حتى يَصل بهم الأمر للقول بعقيدة النصارى، من
أنّ الله حلَّ في النبي ـ صلى الله على نبينا وسلم ـ، كما يقول النصارى أنه حلّ في
عيسى، تعالى الله عن هذا الكفر علوًا كبيرًا.
نعود:
فعندما قال لي أن سيِده فلان وليا لأنه لا
يقرأ ولا يكتب..
فقلت له: ومن أين عرفت أنه من الأولياء؟
فقال لي: زمان كان عندنا في البلد رجل
فتوة!، كان دائما يضربني ويأخذ مني المال، فذهبت إلى سيِدي فلان ـ كان حيا وقتها ـ
واشتكيته، فموته!!.
فضحت
وقلت له: يُعرض نفسه للإعدام، ولحبل المشنقة من أجلك؟!
فقال لي: هو لم يقتله، هو موته .. موته موتة ربنا!.
فصعقت، ولم استطع الرد، وتذكرت كلام شيخ
الإسلام ابن تيمية من أن هناك في هذه الأمة من يشرك بالله عز وجل في ربوبيته.
فهذا رجل من المسلمين ويعتقد أن هناك إنسان له القدرة على الإماتة، وليس القتل،
لأنه شبه طريقته " بموتة ربنا"!!.
ثم وقفت بعدها على صور من شرك الربوبية
يعشش في عقيدة بعض أبناء هذا الأمة المسكينة، والأمر لله من قبل ومن بعد.
ويظهر هذا الشرك جليًا جدا عند الخرافيين
من عباد القبور!
فتذهب المرأة الحمقاء إلى قبر سيِدهم مرزوق، وتأخذ مكنسة من هناك، وتَكنس الضريح!،
وكلها يقين أن من ظلمها سيُكنس من على وجه الأرض = لأنها كنَست ضريح هذا الولي، والذي
وهو في قبره وقد جيّف، ما زال قادرا على رد المظالم وإقامة العدل بين العباد!.
ونفس الحال مع الحاجة خضرة، والتي من قصتها:
أنها أشعلت النار في نفسها لسبب اللهُ أعلم به!، وأخذت تجري وهي محترقة حتى سقطت
في بئر هناك في قريتها، فطلبوها فلم يجدوها في البئر!!
فظهرت لها هذه الكرامة!!، ومن ساعتئذ بُني على البئر مسجدًا، ووضع بجواره ضريح ـ
لا يدرى من فيه بالطبع ـ ، وعلقت بجوار البئر مجموعة من الأحبال!!، فمن ظُلم يأتي
إلى الحاجة خضرة، ويكون معه شيئًا من ملابس من ظلمه، ولو كانت حتى قطعة ملابس داخلية،
ثم يَبِلها من ماء البئر ويعلقها على حبل من هذه الحبال.
ولا داعي أن يشتكي المظلوم للحاجة خضرة أو يذكر
اسم من ظلمه، فهي تستطيع أن تعرف كل شيء من خلال قطعة الملابس المذكورة!.
وهذا بخلاف ما يَحدث عند قبر الشافعي ـ رحمه
الله تعالى ـ، فإن من حُرم الولد، أو ضُيّق عليه في الرزق، أو أصابه المرض، أو أي
شيء مما لا يَقدر عليه سوى الله سبحانه.
يأتي إلى قبر الشافعي وقد كتب شكواه في
رسالة، يُلقي بها داخل الضريح، ثم يَعود من حيث أتى وكله يقين بأن طلبه مجاب.
والشافعي عندهم في هذا الشأن لا يُعجزه
شيء كما مر، فهو قادر على أن يَهب للمحرُم الولد، ويُوسع على الفقير الرزق، ويشفي
المريض، إلى غير ذلك مما لا يقدر عليه إلا الله تعالى.
وما ذكر في شأن الشافعي لا يستطيعه كل
ولي، فالأولياء عندهم طبقات، والشافعي عندهم من أولي العزم من الأولياء ـ إن صح
التعبير ـ !.
لأن هناك من أولياء الصوفية الصالحين من
لا يستطيع إلا أمور مخصوصة، لا يتعداها!!
فمن أصيب بالعمى مثلًا يذهب للاستشفاء
من قنديل أم هاشم!.
وتأمل ـ يرحمك الله ـ هذه قدرة قنديل أم
هاشم .. أنه يرد بصر الأعمى!!، فما بالك بقدرة أم هاشم نفسها؟!.
ومن كَبر سنها، وفاتها قطر الزواج!، تذهب إلى
سيِدهم الحموالي، وكلها يقين أنه سيأتيها زوج بعد هذه الزيارة.
ومنهن من تُشعل شمعة أمام الضريح .. ولسان حالها
يقول: "سيدي يا حمولي .. زوجني وأجيب لك شمعة طولي"!.
وتتبع شرك الربوبية الحاصل عند قبور الصالحين،
أو من يُظن فيهم الصلاح لا يحصى.
ونحن في هذا المقام لا نتكلم عن دعاء الأموات
وطلب المدد منهم؛ وإنما نتكلم عن اعتقاد الناس في صاحب الضريح، وأن له قدرة إصلاح
شأن من طلب منه شيئا، وأن هذا المقبور له تصرف في بعض الكون استقلالا، كما يقولون:
أن الخضر وإلياس ـ عليهما السلام ـ يجتمعان مرة كل عام في الموسم لتنظيم شؤون
الكون والعباد.
ومن
يتأمل طريقة المريد الصوفي على الطريقة المولوية، يجده عند بداية رقصته في الحضرة
ـ والتي ما سميت حضرة إلا لزعمهم أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يحضرها! ـ ، من
يتأمل طريقته يجد أن المريد من هؤلاء عندما يبدأ الرقص في صحن الحضرة، والتي رسم
في قبتها صورة الشمس وحولها الأفلاك تدور حولها .. كما في حضرتهم بالغورية في مصر،
يجد المريد من هؤلاء يبدأ الرقص بالركوع لشيخه ثم السجود، وهم في هذا تبعا لمؤسس
طريقتهم جلال الدين الرومي، الذي كان يركع ويسجد لشيخه الشمس التبريزي، والذي كان
يناديه بالفارسية: "شمسي وإلهي". (2)
ثم لما تعمق "جلال الدين
الرومي" في مذهب وحدة الوجود والذي أخذه من ابن عربي بعد ملازمته له أربع
سنوات، أخذ يسجد لمن يسجد له ولو كان يهوديا؛ وذلك لمعتقدهم أن الله حلّ في كل شيء!،
فعند سجوده لليهودي هذا أو غيره، فإنما هو يسجد لله على الحقيقة!.(3)
فالصوفي المولوي يبدأ رقصه بالركوع ثم السجود
لشيخه، ونحن هنا لا نتكلم في هذا المقام عن شرك الإلوهية، والذي هو شرك العبادة،
فصرف شيئا من العبادة كالسجود أو الركوع لغير الله ـ تعالى ـ هو شرك به في إلوهيته.
ولكن بالنسبة للمولوية فغالب الظن أنهم
يشركون في هذا الباب في الربوبية؛ وذلك لأنه لو بدأ المريد الرقص ولم يكن شيخه
حاضرا .. فإنه يبدأ الركوع جهة الشمال، ثم يلتف فيركع مرة ثانية جهة الجنوب، ثم
يبدأ الرقص!.
وذلك في ظني أنه ركوع للخضر وإلياس،
لاعتقاد أنهما قطبا الكون ومدبري أحوال الخلق.
وهناك طوائف أخرى من المتصوفة لم تجعل
تدبير الكون، والتكفل بأرزاق العباد مكسورا على اثنين كحال الطريقة المولوية، بل
يجعلون القسمة رباعية، فيما يعرف بعقيدة الأوتاد الأربعة!.
يقول سيدهم إبراهيم الدسوقي: "إن
الدنيا بيننا وبينه أربعة أقسام!، ربع لي، وربع لأخي أحمد الرفاعي، وربع لسيدي عبد
القادر الجيلاني .. وهو شيخ أبي مدين زعيم الدعوة في المغرب، وربع لحضرة الأستاذ
سيدي "أحمد البدوي"!، وكل منا يتصرف في ربعه، إلا حضرة الأستاذ الأعظم
"أحمد البدوي"؛ فإنه يتصرف في الجميع، وخصه الله تعالى بخصيصة لم يخص
بها أحدًا سواه، وهو أن الله تعالى جعل له كرسيًا في مكان بين السماء والأرض يتصرف
في أمور العالم العلوي، والعالم السفلي"!.(4)
ولعل
ما ذكره قاله الإمام الجبرتي ـ رحمه الله ـ في تاريخه، اثر حادثة وقعت في زمانه،
تبين ما ذُكر آنفا من أن البدوي يتصرف في الكون!، وملخص هذه الواقعة: أنه أشيع بين
الناس في مصر بأن القيامة قائمة يوم الجمعة سادس عشر من ذي الحجة 1147هـ، وأنه فشا
ذلك في الناس قاطبة حتى القرى والأرياف، وأخذ يودع الناس بعضهم بعضا، ويقول الإنسان
لرفيقة بقي من عمرنا يومان، وخرج الكثير من الناس إلى المنتزهات ويقول بعضهم لبعض:
دعونا نعمل حظا ونودع الدنيا قبل أن تقوم القيامة. وطلع أهل الجيزة نساء ورجالا وصاروا
يغتسلون في البحر، ودخل الحزن والغم على أخرين، وأسرعوا بالتوبة ورد المظالم ووقع صدقه
في نفوسهم. ومن قال لهم: خلاف ذلك، أو قال: هذا كذب، لا يلتفتون لقوله ويقولون: هذا
صحيح وقاله فلان؛ وفلان ذهب إلى الأمير الفلاني وأخبره بذلك وقال له: احبسني إلى يوم
الجمعة وإن لم تقم القيامة فاقتلني، ونحو ذلك من وساوسهم، وكثر فيهم الهرج والمرج إلى
يوم الجمعة المعين المذكور. فلم يقع شيء. ومضى يوم الجمعة وأصبح يوم السبت، فانتقلوا
يقولون: فلان العالم قال أن سيدي أحمد البدوي والدسوقي والشافعي تشفعوا في ذلك وقبل
الله شفاعتهم. فيقول الآخر: اللهم انفعنا بهم فإننا يا أخي لم نشبع من الدنيا، ونحو
ذلك من الهذيانات".(5)
والذي نذكرهم هنا من أولياء الصوفية، لم ينسب الناس لهم ما هم منه براء، وإنما
هؤلاء وهم أحياء أنزلوا على أنفسهم صفات الرب سبحانه، كما مر في كلام الدسوقي
آنفا.
وهذا أحمد البدوي يقول عن نفسه:
سائر
الأرض تحت حُكمي ... وهي عندي كخردل في
فلاء!
أنـا سلـطان كل قـطـب ... وطبولي تدق فوق السـماء! (6)
وقال أيضا:
أنا قطب أقطاب الوجود بأسره ... وكل ملوك العالمين رعيتي!
أنا أحمد البدوي قطب بلا خفا ... على الأقطاب صحت ولايتي! (7)
ولا يشتبه هنا أن الرجل ينادي على نفسه
بالربوبية، فهو كما يقول: أن سائر الأرض تحت حكمه، وأن سلطانه تدق له الطبول فوق
السماء، وأنه هو القطب الأوحد، وكل ملوك العالمين رعيته!.
وما يذكر في ثنايا الكلام من أن الله أعطاه كذا وكذا، فبعضا منه إنما يُقال من أجل
العوام، أما الخواص، فلهم كلام أخر.
فإن تأكيد أئمة التصوف القائلون بوحدة
الوجود أمثال ابن عربي والتلمساني وجلال الدين الرومي والبدوي وغيرهم على التوحيد.
هو
تأكيد على أن معنى كلمة التوحيد، أنه لا موجود إلا الله، وليس لا معبود إلا الله ،
فانتبه!.
وأما
كرامات سيدهم أحمد البدوي، فله القدرة على خلق أفعال العباد، كما حكى "عبد
الوهاب الشعراني" صاحب كتاب "طبقات الأولياء"، أنه لم يستطع فض
بكارة زوجته ست أشهر، حتى أتى ميعاد مولد البدوي، ودعا البدوي الأوليين والأخريين
والأحياء والأموات!!، وقال الآن يا عبد الوهاب، ففض بكارتها فوق الضريح!!.
وكما ذكر الشعراني أيضا: " إن أحد المريدين ويسمى " عبد الحميد" أصرّ على
رؤية وجه البدوي ـ وكان ملثمًا لا يُظهر إلا عينيه كعادة البدو ولهذا سمي بالبدوي ـ
، فقال البدوي: كل نظرة برجل!، فقال عبد الحميد: رضيت!، فكشف له سيدي أحمد اللثام الفوقاني
فصعق عبد الحميد ومات في الحال!(8).
فانظر
ـ يرحمك الله ـ كيف أنزل عبد الوهاب الشعراني على شيخه البدوي قول الرب تعالى: { وَلَمَّا
جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ
قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ
فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى
صَعِقًا} . [الأعراف : 143].
وقصة "البدوي" خاصة تبين ما
نحن بصدده، من إدعاء هؤلاء الربوبية، وأنهم ليسوا كالبشر، فالبدوي ظل طوال حياته
عزبا بدون زوجة ولا ولد ، يتشبه بمن؟!
وأنه لما انطلق مع أخيه الحسن إلى
العراق لزيارة ضريح "الحلاج"، وضريح "عدي بن مسافر الهكاري" ـ
صاحب الطريقة العدوية ـ ، لم يُحسن أهل الموصل من الأكراد استقبالهم، فأشار إليهم
الحسن بيده أن موتوا فماتوا، ولكن البدوي تحلى بخلق العفو عند المقدرة، فأشار بيده
أن قوموا، فدبت فيهم الحياة، ونهضوا جميعًا يقبلون أقدام البدوي والحسن(9).
وذكر الأكراد خاصة في هذه القصة، لأن
منهم "الناصر صلاح الدين الأيوبي" ـ عليه الرحمة ـ وهو من أسقط الدولة
العبيدية الباطنية، والتي كانت تقول في أول أمرها بإلوهية "علي بن أبي
طالب"، ثم انتهى الأمر إلى القول بإلوهية الأئمة بعموم، وذلك على سبيل
التصريح كحال الحاكم بأمر الله، أو الإشارة كحال سيدهم"أحمد البدوي".
فهؤلاء الزنادقة أدعوا الربوبية في
حياتهم، ثم زين الشيطان بعد موتهم لإتباعهم صحة هذا الزعم، حتى أن المريد من أتباع
هؤلاء يتوهم الخرافات ليُثبّت نفسه على ما هو عليه من الشرك.
وقد استمعت من طالب علم قصة حدثت له، تبين هذه الحقيقة، يقول: " أنه كان
مسافرا إلى مدينة طنطا ـ بلد أحمد البدوي ـ ، وأن الطريق يستغرق حوالي ساعة وربع،
وأنه بقدر الله ركب في هذا اليوم سيارة أجرة جديدة، ولم يكن الطريق مزدحما، فوصلوا
في أقل من ساعة، وعندما كانت السيارة تدخل الموقف، صرخ رجل في السيارة:
"كراماتك يا بدوي، كراماتك يا شيخ العرب".
فقال هذا الأخ: ما هي الكرامة، نحن معك في
نفس السيارة ولم نرى شيئا؟!
فقال له: "يا عم الشيخ الطريق يستغرق أكثر من ساعة وربع، ونحن وصلنا في أقل
من ساعة!
فقال له الأخ: ابشر وأنت راجع ستصل في أقل من ربع ساعة!
فقال له: كيف هذا؟!
فقال له الأخ: لأن الحسين هو اللي هيكون بيشد!!.
هذا؛ وقدرة الإحياء والإماتة عند أولياء
الصوفية الصالحين غير متوقفة على أحمد البدوي وحده، بل يتمتع بها كثير منهم.
فهذا الشمس التبريزي يلقاه مريد في السوق
فينحني إليه خاضعا ويقول: "أشهد أن لا إله إلا الله، وأن شمس الدين رسول الله"!،
فلما سمع ذلك الناس ثاروا به وضجوا، وقام أحدهم بضربه؛ فلما رأى الشمس هذا، صرخ
صرخة مات لها ذلك الضارب!، فخضع الناس له وبكوا، وعادوا عبيدا له!، ثم نصح
التبريزي هذا المريد أن مثل هذا لا تظهره أمام العوام لأنها لا تعرف دينارا غير
مختوم!! (10)
وهذه العقائد الوثنية الشركية، ظهرت في
الأمة بعد أن ظهرت الشيعة الروافض على بعض بلاد المسلمين، وزرعت هذا القبور
والأضرحة في البلاد، وتلفيق القصص والخرافات أن أصحاب الأضرحة هؤلاء له تصرف في
الكون، وأنهم شركاء مع الله ـ سبحانه ـ في ملكه.
وإشاعة أن من النعم التي تستحق الشكر أن يكون في القرية ضريحا لأحد الأولياء يَدفع
عنهم الضر، ويأتيهم بالخير والنفع.
حتى أن هؤلاء الدراويش من عباد القبور
كانوا يعيبون على أهل المنوفية قديمًا، ويزعمون أنهم أهل بخل وشح!، ولو كانوا أهل
كرم، لأكرمهم الله بضريح لأحد الأولياء في قريتهم ينتفعون به!.
ورحمة الله وعفوه على شاعر النيل "حافظ إبراهيم"
عندما لخص حقيقة هذه الأضرحة والعتبات الشريفة التي يُعبدها الناس من دون الله، وأن سدنة هذا الأضرحة ما أرادوا
من بث شركهم هذا في الناس إلا الدنيا في لبوس الدين، فقال:
أحياؤنا
لا يرزقون بدرهمٍ وبألف ألف ترزق الأموات
من لي
بحظ النائمين بحفرة قامت على أحجارها
الصلوات
يسعى
الأنام لها ويجرى حولها بحور النذور وتقرأ الآيات
ويقال:
هذا القطب باب المصطفى ووسيلة تُقضى بها الحاجات
هذا؛ ولعل صورة شرك الربوبية ظاهرة جدا عن
المتصوفة من عباد القبور والمشاهد، ولكن مع شديد الأسف أن هذا الشرك يجرى على
ألسنة بعض الناس ويعتقدونه من غير أن يشعروا به!.
ودونك من أكلتهم السياسة وتلاعبت بهم، صاروا
يعتقدون أن سبب شقاء الناس وإفقارهم هم = الحكام، وأن الحاكم يضيق على الناس
أرزاقهم، وأن يستطيع أن يوسع عليهم!، ولكنه يأبى ذلك!
وهذا من شرك الربوبية بلا خلاف؛ فإن من توحيد
الربوبية الإيمان بأنه لا يستطيع مخلوق سواه بأن يستقل بإحداث أمر من الأمور إلا
بما شاءه سبحانه. (11)
فمشيئة العباد داخلة تحت مشيئة الرب عز وجل، فما شاءه كان، وما لم يشاءه لم
يكن، ولا نقول بقول القدرية الذين ضلوا في توحيد الربوبية، فقالوا: " إن
الإنسان يخلق فعله، وأن الله لا يعلم الشر إلا بعد وقوعه"!.
وهذا من أبطل القول، فالله عز وجل خلق العباد
وخلق أفعالهم، قال تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ
وَمَا تَعْمَلُونَ}. [الصافات : 96].
فمن لم
يفهم القضاء والقدر ضل في فهم توحيد الربوبية؛ إذ لا يستطع مخلوق نفع أحدا أو ضره
إلا بمشيئة الله تعالى، كما قال سبحانه: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ
(28) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ}.
[التكوير 28 : 29].
وقوله تعالى: { إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ
شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (29) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ
اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (30) يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ
وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} . [ الإنسان 28 : 31 ].
فالذي ينفع ويضر على الحقيقة هو الله وحده، ولكن لا ينسب له الضر إليه سبحانه، كما
قال الرسول ـ صلى اله عليه وسلم: ((والخير كله في يديك، والشر ليس إليك)). [رواه
مسلم].
وكما قال إبراهيم خليل الرحمن ـ عليه
السلام ـ : { وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ }. [الشعراء].
فنسب عليه الصلاة والسلام المرض لنفسه،
والشفاء لله تعالى.
وكما قال الجن أيضا: { وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ
أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا }. [الجن: 10].
فنسبوا
الشر لمجهول، ونسبوا الرشاد لله عز وجل..
فالقول بان الحاكم أو الملك الفلاني
يستطيع أن يغني الناس أو يفقرهم، هكذا على سبيل الاستقلال، هذا من شرك الربوبية،
فإن حكام الأرض لو اجتمعوا على أن يغنوا رجلا وقد كتب الله تعالى عليه الفقر، فلن
يستطيعوا خلاف ما قدره الله عليه، وإن اجتمعوا على إفقاره أو ضره وقد قدر الله له
الغنى والعافية؛ فلن يستطيعوا من ذلك شيئا.
وقد صح عن نبينا ـ صلى الله عليه وسلم ـ
أنه كان يقول: " اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجَدِّ
منك الجَدُّ " . [متفق عليه].
فالمعطي والمانع هو الله، ولا ينفع صاحب المال
والغنى، غناه عند الله إذا انتهك محارمه، بل هو مؤاخذ بها كما يؤاخذ الفقير، فالكل
عند الله فقراء، فهو الغني، وكلهم عنده سواسية، فهو العدل سبحانه.
وكأن الذي يدندنون حول هذا القول الباطل، لم
يسمعوا يوما قول الحق تعالى: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ
إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17) وَهُوَ
الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ}. [الأنعام 17 : 18].
وقوله: {قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ
مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ
أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ
عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ}. [الزمر: 38].
فإشاعة أن الحكام يستطيعون استقلالا بسط الرزق
على الناس، أو تضييق الرزق عليهم، هذا من شرك الربوبية، وتكذيبا لقول الرب عز وجل:
{أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ
وَنُفُورٍ}. [الملك : 21].
وقوله
تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ
وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ
الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ}.
[سورة يونس: 31].
ولعل من نافلة القول ونحن نتكلم عن من
أهلكتهم السياسة، أن نذكر ما روجه الإخوان المسلمون، من كون الرئيس الإخواني
السابق كان سببًا في إن أخرجت الأرض خيراتها، حتى أصبحت "المانجو" بسعر
زهيد، وأكل الناس منها حتى شبعوا!!.
فمجرد الترويج لهذا الكلام بهذا السياق،
هو ترويج لشرك الربوبية، علم ذلك قائله أو جهله.
فإن الله تعالى يقول: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا
تَحْرُثُونَ (63) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (64) لَوْ نَشَاءُ
لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ} [الواقعة 63: 65].
وقال عز من قائل: {وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ
مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (9) وَالنَّخْلَ
بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ (10) رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً
مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ}. [ق 9 : 11].
والمتأمل في كلام الناس ومعتقداتهم، يقف
على صور أخرى من شرك الربوبية، كالذين يعتقدون أن هناك من السحرة والدجاجلة من لهم
علم بالغيب واطلاع على الإسرار، وما ستأتي به الأيام!
فإن الغيب قد استأثر الله وحده بعلمه،
ومن زعم أنه علم بشيء منه وهو ليس ممن ارتضاهم الله من الأنبياء، فقد نادى على
نفسه بالربوبية.
يقول الله تعالى: { وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ
الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا
تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ
وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} . [ الأنعام : 59].
وقال سبحانه: { إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ
عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي
نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ
عَلِيمٌ خَبِيرٌ}. [لقمان: 34].
ولذا يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( من
أتى عرافا فسأله عن شيء ، لم تقبل له صلاة أربعين ليلة)). [رواه مسلم].
وفي
رواية الحاكم: (( من أتى عرافا أو كاهنا فصدقه فيما يقول ، فقد كفر بما أنزل على محمد
صلى الله عليه وسلم )).
لأن الذي يصدق هذه الكهانة والعرافة، فقد
كذب بالقرآن الذي فيه استئثار الله بعلم الغيب وما تخفيه الأيام.
كما أن من عجيب الناس، أنك تجدهم يعظمون من يعلمون عنه أنه حفر قبره في حياته،
وربما نسبوه إلى الصلاح والعلم والولاية!!.
وكأنهم لم يتأملوا الآية : { وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ}، فالذي
حفر قبره في بلدة كذا، هل كان على اطلاع بالغيب أنه سيموت في هذه الأرض؟!
ولكنه الجهل وضعف العقيدة، وسكوت كثير
ممن أخذ الله عليهم الميثاق أن يبينوا الحق للناس ولا يكتمونه.
كما أن في الآية السابقة إشارة إلى طائفة ظهرت
في بلاد المسلمين من قريب، طائفة جعلت من العلم المادي الغربي آله مع الله!، فراحت
تزعم أننا في زمن السيطرة على الطبيعة، والتحكم في المناخ والأمطار والرياح، وأننا
نستطيع من خلال التكنولوجيا الحديثة تطويع العوامل الطبيعية، ومنع الكوارث
المناخية!، من خلال استخدام الأقمار الصناعية واستخدام أشعة كذا وكذا!.
وأن حروب الدول المتقدمة في المستقبل
القريب لن تكون بأسلحة اعتيادية ولكن بتسخير الطبيعة على الدول المستهدفة!.
وهذا وإن ذكر عند الغرب، فمن الممكن أن يُفهم
وجهه، أن هؤلاء قوم أكلهم الكفر والإلحاد وباض الشيطان في عقولهم وفرخ، وساروا
يصدقون كل ناعق يزعم العلم والمعرفة في سبيل الهروب من سلطان الله عليهم، فيصدقون
في هذا الباب قول "ديكارت": " استطعنا ... أن نجعل أنفسنا بذلك
سادة الطبيعة ومالكيها"!.
بيد أن الذي لا يُفهم كيف يتصور مسلم هذا الدجل والإلحاد؟!
والله عز وجل يقول : { هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ
الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ (12) وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ
بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا
مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ}.
وهؤلاء الملاحدة يقولون: سيطرنا على الطبيعة، وتحكمنا في الرعد وفي الرياح، وإنا لله وإنا إليه راجعون.
فالخلاصة:
إن شرك الربوبية له وجود في الأمة، فيوجد
من أبنائها من يَعتقد أنه يوجد مع الله من يقدر على الإحياء والإماتة، أو له
القدرة على إيصال النفع أو رفع البلاء عن العباد استقلالا.
وأنه يوجد بينهم من يَعتقد أنه يوجد في
خلق الله من يشاركه في معرفة الغيب، أو له القدرة على التحكم أو السيطرة على الخلق
أو الطبيعة، إلى غير ذلك من الأمور التي لا يَقدر عليها سوى الله عز وجل.
هذا؛ وأسأل الله أن تكون هذا الكلمات
خالصة لوجهه الكريم، وأن يجنبنا والمسلمين الشرك وأهله، أنه ولي ذلك والقادر عليه.
وصلى اللهم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
وكتب
أبو صهيب وليد بن سعد
القاهرة 12/ ربيع آخر / 1443 هـ
17 / 11 / 2021 م
الهامش ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1): انظر بسط
ذلك من بداية المجلد الثاني من مجموع الفتاوى.
(2): أخبار جلال الدين الرومي للقُونَوي ص / 139 بواسطة بحث جلال الدين الرومي حياته وعقائده. لماجد إمام.
(3):
مناقب العارفين للأفلاكي ( 1/ 330 ) ـ وكان مريدا لجلال الدين الرومي، غاليا في محبته،
وحكى ما رآه بعينه .
(4): النصيحة العلوية. مخطوط مكتبة الأزهر ورقة / 37.
(5):
تاريخ عجائب الآثار في التراجم والأخبار (1 / 219 : 220) لعبد الرحمن الجبرتي.
(6): الجواهر السنية لعبد الصمد ص / 95
(7): المصدر السابق ص / 90
(8):
كتاب السيد البدوي دراسة نقدية ( ص / 18) للدكتور عبد الله صابر.
هذا؛
وليست هذه المرة الوحيدة التي ينسب للبدوي فيه الإحياء والإماتة، ففي نفس الكتاب (
ص / 20 ): "أن "البدوي" أمات سبعة ألاف جمل ثم أحياهم مرة أخرى".
(9):
وهذا رابط مقال مختصر ترجمة فيه للسيد البدوي، سميته"سيدهم أحمد البدوي".،
وذكرت فيه المصادر، فانظره ( هنا )غير مأمور
https://elmanhag.blogspot.com/2014/11/blog-post_9.html
(10): مناقب العارفين للأفلاكي ( 2/ 207 ).
(11): [مجموع الفتاوى (5 / 248 ). ط/ دار الكتب العلمية].