رد كيد المعاندين عن معراج النبي
الأمين .
الحمد لله وحده، والصلاة
والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد:
فإن الله تعالى نصح لهذه الأمة بأن كشف لها ألد
عدو لها؛ فأعداء الأمة صنفان: عدو من خارجها، وعدو من داخلها.
فأما العدو الخارجي فأمره أهون إذ أن
عداوته ظاهرة، و الحرب معه إنما هي ساعة أو أيامًا ثم تنقضي
ويعقبها النصر والظفر.
وأما العدو الداخلي، فأمره يختلف، فهو
عدو يعيش بيننا، وله نفس أسمائنا، ويتكلم بألسنتنا، أعني: طبقة الزنادقة من
المنافقين، ممن أظهروا الإسلام ومتابعة الرسول، وأبطنوا الكفر ومعاداة الله ورسوله
صلى الله عليه وسلم.
فبلية المسلمين بهذا العدو أعظم من بليتهم
بالكفار المجاهرين، وهم أشد عليهم من ضرر من جاهرهم بالعداوة وألزم وأدوم، ولهذا قال
تعالى في حقهم: {هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ} [المنافقون:
4]، ومثل هذا اللفظ يقتضي الحصر، أي لا عدو إلا هم؛
ولكن لم يَرد هاهنا حصر العداوة فيهم وأنهم لا عدو للمسلمين سواهم، بل هذا من إثبات
الأولوية والأحقية لهم في هذا الوصف، وأنه لا يتوهم بانتسابهم إلى المسلمين ظاهرًا
وموالاتهم لهم ومخالطتهم إياهم أنهم ليسوا بأعدائهم، بل هم أحق بالعداوة ممن باينهم
في الدار، ونصب لهم العداوة وجاهرهم بها. (1)
وقد نصح الله لهذه الأمة بكشف صفات هؤلاء المنافقون لها، حتى لا تنخدع بصورتهم،
وفصاحة ألسنتهم.
بيد أن المنافقين في هذا العصر كيدهم
بالإسلام وأهله أشد وطأ من كيد إسلافهم الذين ظهروا في بداية الإسلام؛ فإن
المنافقين الأوائل كانوا لا يُظهرون نفاقهم ومكرهم ويسترونه عن المسلمين، ويكتفون
بالتحريش والوقيعة بين أهل الإيمان.
أما المنافقون اليوم فتحولوا من السر إلى
العلانية، وأصبح نفاقهم وإلحادهم مبثوثًا في الصحف والإذاعات والفضائيات، يُفتن به
أهل الإسلام، وتتخطف شبههم أبنائه، وأصبحنا نرى ونسمع من يتحول من الإسلام إلى
الإلحاد، ومن اليقين إلى الشك، والأمر لله من قبل ومن بعد.
ويركز المنافقون في هذا العصر على سنة الرسول ـ صلى
الله عليه وسلم ـ فيهاجمونها ليل نهار،
تصريحًا وتعريضًا؛ لأنهم لو تعرضوا للقرآن الكريم لظهر أمرهم للعامة، وانكشفت
حقيقتهم لكثير من الخلق، فيكتفون في هذه المرحلة بمهاجمة السنة بزعم تنقيتها من
الأحاديث الضعيفة، وتخليصها من التراث الذي علق بها!، وهم يعلمون أنهم إن تمكنوا
من هدم السنة أو التشكيك فيها، كان ذلك هدمًا للقرآن؛ وذلك لأن القرآن أجمل والسنة
فصلت، فالصلاة والزكاة وغيرها من الفرائض ذكرت في القرآن مجملة، وفصلت السنة
أحكامها.
وقد خرج علينا بالفعل الآن أحد هؤلاء الزنادقة يزعم أن الصلاة التي علينا
في اليوم والليلة ثلاثة صلوات فقط لأنها هي التي دل عليها القرآن!، وأنكر صلاة
الجمعة والعيدين!!.
هذا؛
ومما تعرض له هؤلاء المنافقون أخيرًا، تكذيب معراج الرسول
ـ صلى
الله عليه وسلم ـ وأن القرآن قد ذكر رحلة الإسراء
فقط، ولم يَذكر أنه عرج بالرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى السماء!.
ومع كون هذا الكلام غاية في البطلان والفساد،
إذ ذَكر القرآن الكريم المعراج في أكثر من آية، إلا أنه لا ينبغي السكوت عليه، إذ
أن القلوب ضعيفة والفتن خطافة، وفينا سامعون لهم!.
فهذه نقاط في عجالة أبَين فيها ما كان
في رحلة الإسراء والمعراج .. دحرًا لكيد المنافقين، ونصرة لسنة النبي الأمين صلى
الله عليه وسلم.
1 ـ فإن المتأمل في طريقة القرآن والسنة
يَظهر له بوضوح أنهما أغفلا أمورًا ولم يهتموا بها، فمن شغل نفسه بطلبها، ضاع عمره
ولم يحصلها، ولن يجني سوى التخرصات والأوهام.
ومثال ذلك في القرآن: أنه لم يهتم في
قصصه بذكر الأسماء، لأن المقصود من القصة العبرة، والعبرة لا تتأثر بالأسماء.
ولن يُحصل مَن طلب الأسماء التي أغفل
ذكرها القرآن إلا الكذب والوهم، كما نرى ذلك في كلام الواقدي والكلبي ومقاتل بن
سليمان وهؤلاء الهلكى.
ولن يجد المسلم فائدة تعود عليه إن عَلم مثلًا
أسماء إخوة يوسف أو امرأة العزيز أو اسم الملك أو غيرهم ممن ذكر في القصة.
بل
إن ذكر الأسماء في هذه المواضع مما يشتت الفهم، ويُدخل الملل على المستمع، كما تجد
صدق ذلك عند النظر في هذه القصص في كتب أهل الكتاب.
وكذا طريقة السنة، فإنها أغفلت أمورًا لم
توضحها، ولم يطلب الصحابة بحثها لأنها غير مؤثرة في الأحكام، فمعرفتها والجهل بها
سواء.
فمن حرص على بحث ما أغفلته السنة، وأهمل
الصحابة بحثه لعدم تعلقه بأحكام الشريعة = ضاع عمره، و لن يجني إلا الأوهام
والتخرصات، والمسلم سيسأل عن عمره فيما أفناه.
ومثال ذلك: البحث في تاريخ وقوع
الإسراء والمعراج؛ فإن الصحابة
ـ عليهم
الرضوان ـ أهملوا البحث في هذا الباب لأنه لا تعلق له بالأحكام، فيَوم الإسراء
والمعراج ليس فيه صلاة مخصوصة أو صيام أو أي قربة من القربات، فالبحث في تعينه غير
مطلوب شرعًا.
أما من جاء بعدهم ولم يرض طريقتهم، وبحث في
تحديد هذا اليوم، وقع في المحذور .. إذ تكلم في دين الله بالظن وبما لم يكلف به،
والله تعالى يقول: { وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ
وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} . [الإسراء
: 36 ].
فلما بحثوا فيما سكت عنه الصحابة، وقع
بينهم الاختلاف في تحديد هذا اليوم إلى أكثر من عشرة أقوال كما ذكر ذلك ابن حجر
رحمه الله في فتح الباري.
2ـ ثم أنهم لم يتوقفوا عند هذا الحد، بل زعموا
ليومها ميزة عن باقي الأيام، فخصوه بالاحتفال والاجتماع لقراءة القرآن والذكر كما
يوجد ذلك حتى اليوم في الإذاعات، مما جعل بعض العوام يخص هذا اليوم بطبخ اللحم بزعم
أنه يوم موسم!.
وهذا كله من البدع المحدثة،
وليس من السنة في شيء.
وخلاصة الأمر: إن الإسراء والمعراج وقع
قبل تدوين التاريخ الهجري، إذ أنه كان في مكة قبل الهجرة، وأن الصحابة لم يَبحثوا
في تعين هذا اليوم.
فعلينا أن نكتفي بمعرفة أنها كانت ليلة عظيمة الشأن مجهولة العين، وكفى.
3ـ كما أنه لم يُنقل لنا أن الصحابة ـ رضي الله
عنهم ـ اختلفوا فيما بينهم هل كان إسراء النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بجسده أم
أنها كانت رؤيا منام؟
وذلك لأن النصوص الشريعة ظاهرة الدلالة
جدًا أن هذه الرحلة كانت بجسده الشريف ـ صلى الله عليه وسلم ـ .
وإن
لم يكن هناك نص شرعي واحد، لكان العقل السليم دليلًا على معرفة ذلك؛ إذ لو كانت
رؤيا منام = ما كان مشركي قريش أقاموا الدنيا على رؤيا منام.
ولمَا أنكروا أن يذهب الرسول ـ صلى الله
عليه وسلم ـ في جزء من الليل من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، أو أنه يُعرج به
إلى ملكوت السماء في منامه.
لإنهم يعلمون أن الرجل منهم ربما يَذهب
لأبعد من ذلك في منامه وهو لا يدعي النبوة، ولا يُعرف بين الناس بالصدق والأمانة.
ولكن مشركي قريش أنكروا أن تكون هذه
الرحلة حدثت للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بجسده، وتابعهم على قولهم منافقي هذا
العصر ممن عرفت.
وأما أهل الإيمان كأبي بكر الصديق ـ
عليه الرضوان ـ فصدقوا ذلك وآمنوا به، ونحن له تبع.
تقول أم المؤمنين عائشة ـ رضي الله عنها ـ :
" لما أسري بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى المسجد الأقصى أصبح يتحدث الناس بذلك،
فارتد ناس ممن كانوا آمنوا به وصدقوه، وسعوا بذلك إلى أبي بكر رضي الله عنه، فقالوا
: هل لك في صاحبك؟ يزعم أنه أسري به في الليل إلى بيت المقدس قال : أوقال ذلك ؟ قالوا:
نعم , قال : لئن كان قال ذلك لقد صدق، قالوا: وتصدقه أنه ذهب الليلة إلى بيت المقدس،
وجاء قبل أن يصبح ؟ قال : نعم , إني لأصدقه بما هو أبعد من ذلك : أصدقه بخبر السماء
في غدوة أو روحة". اهـ . قال أبو سلمة بن عبد الرحمن: فلذلك سمي أبو بكر الصديق
" . (2)
هذا، ولعله قد ظهر لك الآن من سلف من كذب
بالإسراء ومن صدق به.
4 ـ وأما ما يزعمه هؤلاء المنافقون من أنه كيف
يَتسنى للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ القيام بهذه الرحلة في جزء من الليل ولم يكن
في عصره من وسائل المواصلات ما يُمَكنه من ذلك؟
فهذا
هو عين ما قاله إخوانهم من مشركي قريش، مع اختلاف أن هؤلاء المنافقون اليوم يُسلّمون
بأنك تستطيع السفر بالطائرة من المسجد الحرام إلى ما هو أبعد من المسجد الأقصى في
ساعة أو أقل.
يسلمون بهذا مع علمهم أن الطائرة من خلق
البشر، ولكنهم يشككون في قدرة خالق البشر!.
وانتبه هنا أنهم بدؤوا بالتشكيك في
المعراج بزعم أنه لم يذكر في القرآن، وهاهم يشككون في الإسراء وقد سميت سورة في
القرآن باسمه تشريفًا وتعظيمًا له.
5 ـ وينبغي أن تعلم أن من يتكلم بهذا
الكلام.. من أن رحلة الإسراء كانت خرافة خدع بها الشيوخ العوام، وعدم وجود وسائل
مواصلات في عصر النبوة تجعل مثل هذه الرحلة مستحيلة.
اعلم أن قائل هذا الكلام مكذب للقرآن
الكريم وإن زعم الإيمان به!، ليس لورود آية الإسراء صريحة في القرآن؛ بل لأن في
القرآن الكريم ما هو أبعد من ذلك، فمن كذب بالإسراء من هذا المنطلق فهو مكذب لغيره
من باب أولى.
ومثال ذلك: ما ذكره الله عز وجل في قصة نبي
الله سليمان ـ عليه السلام ـ وطلبه لعرش بلقيس، قال الله تعالى: {
قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ
يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (38) قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ
الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ
لَقَوِيٌّ أَمِينٌ (39) قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ
بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ
قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ
فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ}. [النمل 38 : 40 ].
فهذا سليمان ـ عليه السلام ـ يأتيه عرش
بلقيس من اليمن إلى بيت المقدس في لمح البصر، واليمن أبعد من مكة كما هو معلوم.
فهل كان يتوفر من وسائل المواصلات في عصر
سليمان، ما لا يتوفر في عصر نبينا ـ صلى الله عليه وسلم ـ؟!
بل هل يتوفر في عصرنا الآن ما يقوم بمثل
هذه الرحلة؟!
فهؤلاء الزنادقة يريدون زرع الشك في صدور
الناس، وتشكيكهم في قدرة ربهم سبحانه وتعالى.
وهذا مع شديد الأسف وجد له أثر في بعض
الناس، لبعدهم عن الدين، وتأثرهم بهذا الغزو الفكري العلماني، وهذه الهزيمة
النفسية التي ركبتهم، والله وحده هو المسئول أن يردنا جميعًا إلى صراطه المستقيم.
6 ـ وأما ذكر الله تعالى للإسراء والمعراج في القرآن ففيه عدة آيات، أشهرها في
رحلة الإسراء قوله تعالى: { سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ
الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ
آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ }. [الإسراء: 1 ].
فافتتح الله ـ عز وجل ـ هذه الآية بالتسبيح،
الذي هو تعظيم الله عن كل عجز ونقص، مما يَدل أنه سيتكلم ـ سبحانه ـ عن أمر عظيم
ومعجزة باهرة.
وهي إسراء النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ
من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، والتأكيد أنه سيرى فيها من آيات الله الكبرى .
والإسراء: هو السير والسفر بالليل خاصة،
ومنه قوله تعالى: { قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ
فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا
امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ}. [هود : 81].
ومما يدل أن هذه الرحلة لم تكن رؤيا منام،
وإنما كانت بذاته الشريفة
ـ صلى الله عليه وسلم ـ قوله تعالى: { أَسْرَى بِعَبْدِهِ}،
فذكر العبد يتضمن الروح والجسد.
وهذه الرحلة كانت العرب تقطعها في أربعين
يومًا، فسخر الله لنبيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ البُراق فقطعها في جزء من الليل.
والبُراق
جاء وصفه في أحاديث صحيحة، منها قول الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ في صحيح
البخاري : " ثم أتيت بدابة دون البغل، وفوق الحمار أبيض، يضع خطوه عند أقصى طرفه
".
وذكر ابن حجر ـ عليه الرحمة ـ في الفتح، أنه سمي بالبُراق، لبريقه فكان أبيض اللون
ناصعًا؛ وقيل لسرعته، فكأنها البرق.
7 ـ وأما ذكر المعراج في القرآن، فليس
كما يَتوهم البعض أنه لم يُذكر في القرآن إلا تلميحًا، بل ذكر صراحة في قوله تعالى:
{ لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ}. [الانشقاق: 19 ].
ففي قراءة شعبة التي هي قراءة "عبد
الله بن مسعود" ـ رضي الله عنه ـ والتي رواها عنه "زر بن حبيش".
والتي دل الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ على
القراءة بها في أكثر من حديث، كما في قوله صلى الله عليه وسلم: " خذوا القرآن
من أربعة : من ابن أم عبدٍ فبدأ به، ومعاذ بن جبل، وأبي بن كعب، وسالم مولى أبي حذيفة".
(3)
وقوله صلى الله عليه وسلم : "من سره
أن يقرأ القرآن رطبًا كما أُنزل ، فليقرأه على قراءة ابن أم عبدٍ" . (4)
وابن أم عبدٍ
هو : عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ، والذي قال كما في صحيح البخاري لما سئل
عن سورة الليل: " والله لقد أقرأنيها رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ من فيه
إلى في ". الحديث.
ويقول عبد الرحمن بن يزيد النخعي: سألنا
حذيفة بن اليمان عن رجل قريب السمت والهدي من النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ حتى نأخذ
عنه، فقال : " ما أعرف أحدًا أقرب سمتًا وهديًا ودلًا بالنبي صلى الله عليه وسلم
من ابن أم عبدٍ ". (5)
فالشاهد
أن عبد الله بن مسعود قرأ قوله تعالى: { لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ } بفتح
التاء والباء، لتكون { لَتَرْكَبَنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ }، وهي قراءة متواترة، ويكون
الضمير في الآية عائد على الرسول صلى الله عليه وسلم.
قال ابن كثير في تفسيره: "وهكذا رُوي عن ابن
مسعود، ومسروق، وأبي العالية: { طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ } سماء بعد سماء، يعنون ليلة الإسراء".
(6)
قلت: ويؤيد هذا المعنى ويجليه، تسمية الله ـ عز
وجل ـ السماء بالطبق، كما في قوله تعالى: { أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ
سَمَاوَاتٍ
طِبَاقًا
}. [نوح: 15].
وقوله تعالى: {الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ
طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ
تَرَى مِنْ فُطُورٍ} . [الملك : 3 ].
8 ـ وأما الآيات الأخرى التي ذُكر فيها
المعراج، فمنها قوله تعالى: { وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ
الْمُنْتَهَى (14) عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى (15) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا
يَغْشَى (16) مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى (17) لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ
الْكُبْرَى} . [النجم 13 : 18].
تقول أم المؤمنين عائشة ـ رضي
الله عنها ـ : " أنا أول هذه الأمة سأل عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ،
فقال : " إنما هو جبريل ، لم أره على صورته التي خلق عليها غير هاتين المرتين
، رأيته منهبطا من السماء سادًا عظم خلقه ما بين السماء إلى الأرض ". (7)
وقال عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ:
" إن محمدًا ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم ير جبريل في صورته إلا مرتين ، أما مرة
، فإنه سأله أن يريه نفسه في صورته ، فأراه صورته فسد الأفق ، وأما الأخرى ، فإنه صعد
معه حين صعد به ". (8)
قلت: وذكر الجنة وسدرة المنتهى في الآية
فيه دلالة واضحة على أن هذا كان في السماء بعد عروج الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ
يوم الإسراء، فالجنة في السماء كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأنها تحت عرش
الرحمن ـ سبحانه ـ .
يقول الرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم : "
إن في الجنة مائة درجة، أعدها الله للمجاهدين في سبيله، كل درجتين ما بينهما كما بين
السماء والأرض ، فإذا سألتم الله فسلوه الفردوس ، فإنه أوسط الجنة ، وأعلى الجنة ،
وفوقه عرش الرحمن ، ومنه تفجر أنهار الجنة". (9)
9 ـ وكما جاء أيضًا ذُكر المعراج في آية
أخرى من سورة الإسراء، وهي قوله تعالى: { وَمَا
جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ
الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا
كَبِيرًا} . [الإسراء : 60].
قال ترجمان القرآن عبد الله بن عباس ـ
رضي الله عنهما ـ في قوله تعالى: { وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ
إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ } قال : " هي رؤيا عين، أريها رسول الله صلى الله عليه
وسلم ليلة أسري به إلى بيت المقدس " ، قال : والشجرة الملعونة في القرآن:
" هي شجرة الزقوم". (10)
وقال الشيخ الشنقيطي ـ رحمه الله ـ في تفسيره :
"قوله تعالى : { وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً
لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ }، التحقيق في معنى هذه الآية
الكريمة : أن الله ـ جل وعلا ـ جعل ما أراه نبيه صلى الله عليه وسلم من الغرائب والعجائب
ليلة الإسراء والمعراج فتنة للناس ; لأن عقول بعضهم ضاقت عن قبول ذلك، معتقدة أنه لا
يمكن أن يكون حقًا، قالوا : كيف يصلي ببيت المقدس، ويخترق السبع الطباق، ويرى ما رأى
في ليلة واحدة، ويصبح في محله بمكة ؟ هذا محال، فكان هذا الأمر فتنة لهم لعدم تصديقهم
به، واعتقادهم أنه لا يمكن، وأنه ـ جل وعلا ـ جعل الشجرة الملعونة في القرآن التي هي
شجرة الزقوم فتنة للناس، لأنهم لما سمعوه صلى الله عليه وسلم يقرأ : { إِنَّهَا شَجَرَةٌ
تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ} [الصافات: 64] ، قالوا : ظهر كذبه ; لأن
الشجر لا يَنبت في الأرض اليابسة، فكيف ينبت في أصل النار؟ فصار ذلك فتنة.
وبين أن هذا هو المراد من كون الشجرة المذكورة فتنة لهم بقوله :
{
أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (62)
إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ (63) إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي
أَصْلِ الْجَحِيمِ} [الصافات : 62 - 64] وهو واضح كما ترى .
وأشار في موضع آخر إلى الرؤيا التي
جعلها فتنة لهم ، وهو قوله :
{
أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى (12) وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً
أُخْرَى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (14) عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى
(15) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى (16) مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى
(17) لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} [الصافات :12 - 18]، وقد قدمنا إيضاح هذا
في أول هذه السورة الكريمة . وبهذا التحقيق الذي ذكرنا تعلم ...[أن] وصف الشجرة باللعن لأنها في أصل النار، وأصل النار بعيد من رحمة الله، واللعن
: الإبعاد عن رحمة الله، أو لخبث صفاتها التي وصفت بها في القرآن، أو للعن الذين يطعمونها.
والعلم عند الله تعالى".
(11)
10ـ أما رحلة الإسراء والمعراج في السنة فالأحاديث فيها متواترة ، رواها
جمع من الصحابة عليهم الرضوان، اختلفت روايتهم بين مُتم ومختصر، وقد تتبع الحفاظ
رواياتهم وذكروها مفصلة في مؤلفاتهم، كما تجد مثال ذلك في بداية تفسير سورة
الإسراء للحافظ ابن كثير، وتتبُع الحافظ ابن حجر العسقلاني لهذه الروايات في فتح
الباري شرح صحيح البخاري.
وقد انتخبت من هذه الروايات، رواية جامعة
ذكرها الإمام مسلم في صحيحه من حديث أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ لم يُذكر في
أولها حادثة شق الصدر فقط، وقد ذكرت في صحيح البخاري من طريق أخر.
عن ثابت البناني ، عن أنس بن مالك ، أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم قال : " أتيت بالبراق ، وهو دابة أبيض طويل فوق الحمار،
ودون البغل، يضع حافره عند منتهى طرفه "، قال : " فركبته حتى أتيت بيت المقدس
" ، قال : " فربطته بالحلقة التي يربط به الأنبياء " ، " ثم دخلت
المسجد ، فصليت فيه ركعتين، ثم خرجت فجاءني جبريل عليه السلام بإناء من خمر، وإناء
من لبن، فاخترت اللبن، فقال جبريل صلى الله عليه وسلم : اخترت الفطرة، ثم عرج بنا إلى
السماء، فاستفتح جبريل، فقيل : من أنت ؟ قال : جبريل ، قيل : ومن معك ؟ قال : محمد،
قيل : وقد بُعثَ إليه ؟ قال: قد بعث إليه ،
ففتح لنا، فإذا أنا بآدم ، فرحب بي، ودعا لي بخير، ثم عرج بنا إلى السماء الثانية ،
فاستفتح جبريل عليه السلام ، فقيل : من أنت ؟ قال : جبريل ، قيل: ومن معك ؟ قال : محمد،
قيل : وقد بعث إليه؟ قال: قد بعث إليه، ففتح لنا، فإذا أنا بابني الخالة عيسى ابن مريم
، ويحيى بن زكرياء، صلوات الله عليهما (12)، فرحبا ودعوا لي بخير، ثم عرج بي إلى السماء
الثالثة ، فاستفتح جبريل ، فقيل : من أنت ؟ قال : جبريل، قيل : ومن معك ؟ قال : محمد
صلى الله عليه وسلم ، قيل : وقد بعث إليه ؟ قال : قد بعث إليه ، ففتح لنا، فإذا أنا
بيوسف صلى الله عليه وسلم ، إذا هو قد اعطي شطر الحسن ، فرحب ودعا لي بخير ، ثم عرج
بنا إلى السماء الرابعة ، فاستفتح جبريل عليه السلام، قيل : من هذا ؟ قال : جبريل،
قيل : ومن معك ؟ قال : محمد، قال : وقد بعث إليه ؟ قال : قد بعث إليه ، ففتح لنا فإذا
أنا بإدريس ، فرحب ودعا لي بخير ، قال الله عز وجل : {ورفعناه مكانا عليا}، ثم عرج
بنا إلى السماء الخامسة، فاستفتح جبريل، قيل : من هذا؟ فقال : جبريل، قيل : ومن معك
؟ قال : محمد ، قيل : وقد بعث إليه ؟ قال : قد بعث إليه ، ففتح لنا فإذا أنا بهارون
صلى الله عليه وسلم ، فرحب ، ودعا لي بخير ، ثم عرج بنا إلى السماء السادسة ، فاستفتح
جبريل عليه السلام، قيل : من هذا ؟ قال : جبريل، قيل: ومن معك ؟ قال : محمد ، قيل
: وقد بعث إليه ؟ قال : قد بعث إليه ، ففتح لنا ، فإذا أنا بموسى صلى الله عليه وسلم
، فرحب ودعا لي بخير ، ثم عرج بنا إلى السماء السابعة، فاستفتح جبريل ، فقيل: من هذا؟
قال: جبريل ، قيل: ومن معك؟ قال: محمد صلى الله عليه وسلم، قيل : وقد بعث إليه؟ قال
: قد بعث إليه ، ففتح لنا فإذا أنا بإبراهيم صلى الله عليه وسلم مسندًا ظهره إلى البيت
المعمور، وإذا هو يدخله كل يوم سبعون ألف ملك لا يعودون إليه ، ثم ذهب بي إلى السدرة
المنتهى، وإذا ورقها كآذان الفيلة، وإذا ثمرها كالقلال " ، قال : " فلما
غشيها من أمر الله ما غشي تغيرت ، فما أحد من خلق الله يستطيع أن ينعتها من حسنها ،
فأوحى الله إلي ما أوحى ، ففرض علي خمسين صلاة في كل يوم وليلة، فنزلت إلى موسى صلى
الله عليه وسلم ، فقال: ما فرض ربك على أمتك؟ قلت : خمسين صلاة ، قال : ارجع إلى ربك
فاسأله التخفيف ، فإن أمتك لا يطيقون ذلك، فإني قد بلوت بني إسرائيل وخبرتهم
"، قال : " فرجعت إلى ربي، فقلت : يا رب، خفف على أمتي، فحط عني خمسا، فرجعت
إلى موسى، فقلت : حط عني خمسا، قال : إن أمتك لا يطيقون ذلك ، فارجع إلى ربك فاسأله
التخفيف "، قال : " فلم أزل أرجع بين ربي تبارك وتعالى، وبين موسى عليه السلام
حتى قال : يا محمد، إنهن خمس صلوات كل يوم وليلة ، لكل صلاة عشر، فذلك خمسون صلاة،
ومن هم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة ، فإن عملها كتبت له عشرًا، ومن هم بسيئة فلم
يعملها لم تكتب شيئا ، فإن عملها كتبت سيئة واحدة " ، قال : " فنزلت حتى
انتهيت إلى موسى صلى الله عليه وسلم ، فأخبرته ، فقال : ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف
" ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
" فقلت : قد رجعت إلى ربي حتى استحييت منه ". (13)
11ـ قال ابن كثير: "قال الحافظ أبو الخطاب عمر
بن دَحْيَة في كتابه "التنوير في مولد السراج المنير" وقد ذكر حديث الإسراء
من طريق أنس، وتكلم عليه فأجاد وأفاد- ثم قال: وقد تواترت الروايات في حديث الإسراء
عن عمر بن الخطاب، وعلي، وابن مسعود، وأبي ذر، ومالك بن صعصعة، وأبي هريرة، وأبي سعيد،
وابن عباس، وشداد بن أوس، وأبي بن كعب، وعبد الرحمن بن قُرْط، وأبي حبة وأبي ليلى الأنصاريين
، وعبد الله بن عمرو، وجابر، وحذيفة، وبريدة، وأبي أيوب، وأبي أمامة، وسمرة بن جُنْدُب،
وأبي الحمراء، وصهيب الرومي، وأم هانئ، وعائشة وأسماء ابنتي أبي بكر الصديق، رضي الله
عنهم أجمعين. منهم من ساقه بطوله، ومنهم من اختصره على ما وقع في المسانيد، وإن لم
تكن رواية بعضهم على شرط الصحة، فحديث الإسراء أجمع عليه المسلمون، واعترض عليه الزنادقة
الملحدون { يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ
نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ }.(14)
12 ـ وقد ذكر ابن حجر ـ عليه الرحمة ـ الحكمة
من ترتيب الأنبياء على السموات على النحو الوارد في الحديث، فقال:
" وقيل الحكمة في الاقتصار على هؤلاء المذكورين للإشارة إلى
ما سيقع له صلى الله عليه وسلم مع قومه من نظير ما وقع لكل منهم؛ فإما آدم = فوقع التنبيه
بما وقع له من الخروج من الجنة إلى الأرض بما سيقع للنبي صلى الله عليه وسلم من الهجرة
إلى المدينة، والجامع بينهما ما حصل لكل منهما من المشقة وكراهة فراق ما ألفه من الوطن،
ثم كان مآل كل منهما أن يرجع إلى موطنه الذي اخرج منه.
وبعيسى ويحيى = على ما وقع له من أول الهجرة من عداوة
اليهود وتماديهم على البغي عليه وإرادتهم وصول السوء إليه.
وبيوسف = على ما وقع له من إخوته من قريش في نصبهم
الحرب له وإرادتهم هلاكه، وكانت العاقبة له، وقد أشار إلى ذلك بقوله لقريش يوم الفتح:
" أقول كما قال يوسف لا تثريب عليكم".
وبإدريس = على رفيع منزلته عند الله.
وبهارون = على أن قومه رجعوا إلى محبته بعد أن آذوه.
وبموسى = على ما وقع له من معالجة قومه وقد أشار
إلى ذلك بقوله:
"
لقد أوذي موسى بأكثر من هذا فصبر".
وبإبراهيم = في استناده إلى البيت المعمور بما ختم
له صلى الله عليه وسلم في أخر عمره من إقامة منسك الحج وتعظيم البيت.
وهذه مناسبات لطيفة أبداها السهيلي فأوردتها منقحة
ملخصة". (15)
13 ـ ومع أنه كما مر أن أحاديث الإسراء
والمعراج صحيحة متواترة، إلا أنه هناك حديث لا يكاد تأتي هذه المناسبة إلا ونجد
الخطباء والوعاظ يكررونه على مسامع الناس مع أنه موضوع، ومعناه باطل، وهو : إن جبريل
عليه السلام لما صَعد إلى السماء مع
الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ توقف بعد السماء السابعة عن التقدم، فقال له الرسول
صلى الله عليه وسلم: أهنا يترك الخليل خليله؟ فقال جبريل: لكل منا مقام معلوم ، إذا
أنت تقدمت اخرقت!، وإذا أنا تقدمت احترقت!!".
وهذا الحديث مع شهرته موضوع مكذوب كما بَين ذلك شيخنا على حشيش ـ حفظه الله ـ في الأحاديث
الواهية .
ويتضمن معنى باطل يشبه كلام الاتحادية من
أصحاب عقيدة وحدة الوجود!، فكأنه من وضعهم، وقد رد عليهم شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ
في مجموع الفتاوى؛ ولهم سلف في هذا الزمان من المتصوفة الضلال ، يكررون كلامهم، ويروجون
لمذهبهم.
كما تسمعهم في الإذاعات يكررون:
"الله ربي لا إله سواه ... ولا حقيقة في
الكون إلا هو!".
وهذه المقولة الخبيثة هي عين عقيدة وحدة الوجود، وأن الله هو المخلوقات!، وأنه ليس
وراء المخلوق خالقٌ خلقهُ متميز عنه"!!، و"إن وجود الكائنات هو عين وجود
الحق!"، هذه العقيدة الإلحادية التي نظمها لهم شيخهم ابن عربي الصوفي في
قوله:
الربُ حَقٌ والعبدُ حَقٌ … يا لَيتَ شِعري من المُكَلفُ؟!
إن قُلت:
عبدٌ فذاكَ ربٌ … أو قلت: ربٌ أنى يكلف؟!
تعالى
الله عن قولهم علوًا كبيرًا.
14ـ ومما ذكره العلماء أن عروج الرسول صلى
الله عليه وسلم إلى السماء كان للقاء الرب سبحانه، لأن الله ـ عز وجل ـ في السماء
كما أخبر عن نفسه في القرآن، فالعروج هو الصعود إلى السماء، وقد سميت به سورة
"المعارج" ، والتي في أولها: { تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ
فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ }. [المعارج: 4 ].
وهذا مما تناقض فيه الأشاعرة؛ فإنهم طوال العام يحاولون تأصيل أن الله في كل مكان
موافقة منهم للمعتزلة والجهمية، حتى أنهم أدخلوا ذلك في المنهاج الدراسية التي
تسلطوا عليها وفرضوا هذه العقيدة الفاسدة على أبناء المسلمين؛ ثم إذ جاءت مناسبة
الإسراء والمعراج تناقضوا، ونطقوا بالحق، وأنه عرج بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى
السماء للقاء ربه ـ جل وعلا ـ ليفرض عليه الصلاة.
هذا؛
والآيات والأحاديث كثيرة جدًا التي تثبت أن الله تعالى في السماء، بائنا من خلقه.
منها قوله تعالى: : {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى}. [الأعلى: 1]، وقوله:{وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ
الْعَظِيمُ}. [البقرة: 255]، وقوله:{وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ
الْخَبِيرُ}. [الأنعام: 18] ، وقوله: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ
عَلَيْكُم حَفَظَةً}. [الأنعام:
61 ]، وقوله: {أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء أَن يَخْسِفَ بِكُمُ
الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ ، أَمْ أَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء أَن يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ
حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ}. [الملك: 16 : 17]، ومعنى قوله تعالى هنا : {أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء}
يعنى من فوق السماء، كقوله تعالى: {فَسِيحُواْ فِي الأَرْضِ} أي: على الأرض ، وليس
المقصود بالطبع داخل الأرض!.
وقال الله
تعالى:{إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ}.
[فاطر:
10]، وقوله تعالى:{إِذْ قَالَ
اللّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ}. [آل عمران: 55]، وقوله تعالى: {بَل رَّفَعَهُ اللّهُ إِلَيْهِ}. [النساء: 158 ] ، ومعلوم أن الرفع والصعود لا يكون إلا من أسفل لأعلى؛ وقال
الله تعالى مخبرًا عن الملائكة: {يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ}. [النحل: 50]، وقال تعالى: {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاء إِلَى
الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ}. [السجدة: 5]، وقوله تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى
وَنُورٌ}. [المائدة: 44]، وقوله تعالى: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ
بِالْحَقِّ}. [النحل: 102]، وقوله تعالى: {وَمَا
قَدَرُواْ اللّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُواْ مَا أَنزَلَ اللّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن
شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاء بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِّلنَّاسِ}.
[الأنعام: 91]، وقوله تعالى: {نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ
مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ مِن قَبْلُ
هُدًى لِّلنَّاسِ وَأَنزَلَ الْفُرْقَانَ}. [آل عمران: 3: 4].، إلى غير ذلك من الآيات الواضحة في إثبات علو الرب ـ
سبحانه ـ وأنه في السماء.
14 ـ وأما أحاديث السنة فمنها: ما أخرجه
مسلم في صحيحة من حديث معاوية ابن الحكم السلمي ـ
رضي الله عنه ـ قال: " كانت لي جارية ترعى غنمًا لي قبل أحدٍ والجوانية
، فاطلعت ذات يوم فإذا الذئب قد ذهب بشاة من غنمها، وأنا رجل من بني آدم ، آسف كما
يأسفون ، لكني صككتها صكة ، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعظم ذلك علي ، قلت
: يا رسول الله أفلا أعتقها ؟ قال : " ائتني بها " فأتيته بها ، فقال لها
: " أين الله ؟ " قالت : في السماء ، قال : " من أنا ؟ " قالت
: أنت رسول الله ، قال : " أعتقها ، فإنها مؤمنة".
فتأمل ـ يرحمك الله ـ شهد رسول الله ـ صلى الله
عليه وسلم ـ بالإيمان لهذه الجارية لمَا أقرت أن الله في السماء، والإيمان مرتبة أعلى
من الإسلام.
2 ـ وقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم :
" اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس
فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء، اقض عنا الدين، وأغننا من الفقر" .[رواه مسلم].
3 ـ ويقول
أبو سعيد الخدري :" بعث علي بن أبي طالب رضي الله عنه إلى رسول الله صلى
الله عليه وسلم من اليمن بذهيبة في أديم مقروظ، لم تحصل من ترابها، قال : فقسمها بين
أربعة نفر، بين عيينة بن بدر ، وأقرع بن حابس ، وزيد الخيل ، والرابع : إما علقمة وإما
عامر بن الطفيل ، فقال رجل من أصحابه : كنا نحن أحق بهذا من هؤلاء ، قال : فبلغ ذلك
النبي صلى الله عليه وسلم فقال : " ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء، يأتيني
خبر السماء صباحًا ومساء ". [رواه البخاري ومسلم].
4 ـ ويقول الرسول ـ صلى الله عليه وسلم :
" الراحمون يرحمهم الرحمن تبارك وتعالى ، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء".
(16)
5 ـ وعن أبي موسى ، قال : قام فينا رسول الله صلى
الله عليه وسلم بأربع : " إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام ، يرفع القسط
ويخفضه ، ويرفع إليه عمل النهار بالليل، وعمل الليل بالنهار". [رواه مسلم].
6 ـ وعن أبي هريرة رضي الله عنه ، قال : قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم : " لما قضى الله الخلق كتب في كتابه فهو عنده فوق العرش
إن رحمتي غلبت غضبي". [متفق
على صحته].
7 ـ وعن
حذيفة بن اليمان ـ رضي الله عنه ـ ، قال : صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة
، فافتتح البقرة ، فقلت : يركع عند المائة ، ثم مضى ، فقلت : يصلي بها في ركعة ، فمضى
، فقلت : يركع بها ، ثم افتتح النساء ، فقرأها ، ثم افتتح آل عمران ، فقرأها ، يقرأ
مترسلًا ، إذا مر بآية فيها تسبيح سبح ، وإذا مر بسؤال سأل ، وإذا مر بتعوذ تعوذ ،
ثم ركع ، فجعل يقول : " سبحان ربي العظيم " ، فكان ركوعه نحوا من قيامه ،
ثم قال : " سمع الله لمن حمده " ، ثم قام طويلا قريبًا مما ركع ، ثم سجد،
فقال: " سبحان ربي الأعلى "، فكان سجوده قريبا من قيامه". (17)
8 ـ وعن
أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
"
أيها الناس ، إن الله طيب لا يقبل إلا طيبًا ، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين،
فقال : {يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا، إني بما تعملون عليم} وقال
: { يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم} ، ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث
أغبر، يمد يديه إلى السماء، يا رب ، يا رب ، ومطعمه حرام ، ومشربه حرام ، وملبسه حرام
، وغذي بالحرام ، فأنى يستجاب لذلك ؟". [رواه مسلم].
9ـ عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم :
"
والذي نفسي بيده ، ما من رجل يدعو امرأته إلى فراشها ، فتأبى عليه ، إلا كان الذي في
السماء ساخطا عليها حتى يرضى عنها". [رواه مسلم].
10ـ عن أبي ذر رضي الله عنه ، قال : كنت مع النبي
صلى الله عليه وسلم في المسجد عند غروب الشمس ، فقال : " يا أبا ذر أتدري أين
تغرب الشمس ؟ " قلت : الله ورسوله أعلم
، قال : " فإنها تذهب حتى تسجد تحت العرش " ، فذلك قوله تعالى : {والشمس
تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم }.[رواه البخاري].
فهذه
عشرة أحاديث صحيحة كلها فيها التصريح بأن الله تعالى في السماء، بخلاف ما ذكر آنفا
من الآيات البينات التي تثبت أيضا علوه واستواءه على عرشه سبحانه.
وذلك لبيان مخالفة هؤلاء الأشاعرة
لمعتقد أهل الإسلام الصحيح في هذا الباب، وأن هذا التناقض الذي يتصيده العلمانيون
وأفراخهم ليس ناتج من تناقض الشريعة المطهرة، وإنما سببه تناقض هؤلاء الذي اعتمدوا
الفلسفة الغربية في فهم الشريعة الإسلامية!، فتجد الرجل منهم يتبجح بأنه أستاذ
العقيدة والفلسلفة!
ولا
تدري ما دخل أهل الإسلام بما كان عليه أرسطو وأفلاطون وهؤلاء الملاحدة الحيارة؟!
ولكن هذا هو حال القوم، نسأل الله لنا
ولجميع المسلمين الستر والعافية.
كما أننا نجد هؤلاء الأشاعرة عند نفيهم لعلو
الله عز وجل، وإنكار أنه في السماء، نجدهم يخالفون مذهبهم بالتترس بالإمام أبي
حنيفة ـ رحمه الله ـ ؛ فإنهم كلما خالفوا السنة ووجدوا في مذهب الإمام ما يوافق
قولهم، أبرزوا هذا القول، وجعلوا من خالفه منتقصا للإمام ـ رحمه الله ـ .
مع علمهم أن أبا حنيفة ـ رحمه الله وعفا عنه ـ
لم يعتمد على السنة وحدها في فقهه، وخالفها في مسائل كثيرة، "ففي كتاب المزارعة
أخذ بقول إبراهيم النخعي وجعله أصلًا وفرع عليه، وهكذا في كتاب الوقف أخذ بقول
شريح القاضي وجعله أصلا وفرع عليه المسائل، فأصبحت فروع هذا الباب غير مقبولة حتى
ردها صاحباه". (18)
فيأتي
هؤلاء بمذهب الإمام ويجعلوا منه فزاعة لمخالفيهم! ، كما يحدث منهم كل عام في زكاة
الفطر، يُفتون الناس بإخراجها مالا، خلافًا للسنة التي أمرت بإخراجها طعاما،
والحجة عندهم موافقة الإمام أبي حنيفة!.
بيد أننا لا نسمع لهم حسا، ولا ذكر لكلام أبي حنيفة عند قضية نفيهم لعلو الله،
وزعمهم أنه في كل مكان.
وذلك لأن الإمام أبي حنيفة يكفر قائل هذا
القول، كما في كتاب الفقه الأكبر الذي سجل فيه أبو مطيع البلخي معتقد الإمام، و
كما دل على ذلك نقل شيخ الإسلام لهذا المعتقد في الفتوى الحموية، ونسب له هذا
القول الإمام الذهبي. (19).
فهذه
هي حقيقة القوم، فانتبه!.
15 ـ وأخيرًا، مما ذكر من الحكمة من معراج الرسول ـ
صلى الله عليه وسلم ـ إلى السماء هو أن يرى صلاة الملائكة، لأنه ستفرض عليه الصلاة
على هيئتهم .
"فإنه لما عرج به رأى في تلك الليلة تعبد الملائكة،
وأن منهم القائم فلا يقعد، والراكع فلا يسجد، والساجد فلا يقعد، فجمع الله له ولأمته
تلك العبادات كلها في كل ركعة يصليها العبد بشرائطها من الطمأنينة والإخلاص".
(20)
وفي صحيح مسلم، يقول الرسول ـ صلى الله عليه
وسلم : " أَلا تَصُفُّون كما تَصُف الملائكة عند ربها؟ " فقلنا يا رسول الله
، وكيف تصف الملائكة عند ربها؟ قال: " يُتِمُون الصفوف الأول ويتراصون في الصف".
وعن حذيفة، قال : قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: " فضلنا على الناس بثلاث : جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة ، وجعلت لنا
الأرض كلها مسجدا ، وجعلت تربتها لنا طهورا، إذا لم نجد الماء ". [رواه مسلم].
وقد وصف الله عز وجل الملائكة بذلك في القرآن،
فقال في سورة الصافات: {وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (165) وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ}
. [الصافات 165 : 166].
هذا؛ وأما من طلب الزيادة في كشف أباطيل هؤلاء
المنافقون الذين ينكرون المعراج، فعليه بكتاب" الإسراء والمعراج" للشيخ العلامة "أحمد محمد شاكر" فقد
فند فيه أباطيلهم ورد شبههم ، طيب الله ثراه.
وصلى
الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
وكتب
أبو صهيب وليد بن سعد
القاهرة 15 / شعبان / 1443
18 / 3 / 2022.
الهامش ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1): انظر طريق الهجرتين
لابن القيم ، ص /402 .
(2):
رواه الحاكم في المستدرك وصححه ووافقه الذهبي، ومن طريقه البيهقي في دلائل النبوة،
وأصل الحديث في مسند أحمد والبخاري، وصحح الزيادة الألباني في الصحيحة (حديث: 306).
(3): رواه مسلم في كتاب فضائل الصحابة.
(4): رواه أحمد بسند صحيح، وابن حزيمة وابن حبان في صحيحيهما.
(5): رواه البخاري.
(6): تفسير ابن كثير (8 / 360 ) ط/ دار طيبة ].
(7): رواه مسلم.
(8): رواه أحمد، بسند حسن.
(9): رواه البخاري.
(10):
رواه البخاري.
(11): أضواء البيان ( 3/ 165 : 166) ط / دار الفكر.
(12): "قال النووي قال ابن السكيت : يقال ابنا خالة ولا يقال ابنا عمة، ويقال
ابنا عم ولا يقال ابنا خال . ولم يبين سبب ذلك ، والسبب فيه أن ابني الخالة أم كل منهما
خالة الآخر لزومًا، بخلاف ابني العمة". [فتح الباري (7 / 206)].
(13): رواه مسلم في كتاب الإيمان من صحيحه، باب الإسراء برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السماوات.
(14): تفسير ابن كثير (5 / 45) .
(15): فتح الباري لابن حجر (7 / 211).
(16): رواه أبو داود والترمذي وصححه، ووافقه الشيخ الألباني في صحيح الجامع (3522
).
(17): رواه مسلم.
(18): انظر التنكيل للمعلمي ص / 416 وما بعدها.
(19): كما في كتاب العلو ص / 101.
(20): فتح الباري ( 7 / 216).