إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الأربعاء، 18 أكتوبر 2023

خدعة صفقة القرن!

خَدْعَة صفقة القرن!


الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد:

فإن من النصائح النافعة في دنيا السياسة، والتي ينبغي على كل من شغله هذا الباب أن يتعلمها ويعمل بها، قولهم: "لا تشتغل بالثعبان حتى لا تلدغ من العقرب".

وذلك لأن السياسة قائمة على الخداع، كما في قول نبينا صلى الله عليه وسلم: "الحرب خَدْعَة" .[رواه البخاري ]

وواقع الناس اليوم، وبعد أن دُست لهم الأمور السياسية دسًا، فأصبحت كأنها من أركان حياتهم اليومية!، واقع الناس اليوم يُظهر أنهم دائمًا ينخدعون فيشغلون بالثعبان ويغفلون عن العقرب!.

ودونك هذه الخدعة السياسية التي تسمى "صفقة القرن"، فالأصل فيها أن نجتمع على عداوة من وراءها ومن دبرها.

بيد أن الناس انشغلت بمن دبُرت له، وبمن يُراد له الوقوع فيها، ومن سيتعاون مع اليهود في الدول الإسلامية والعربية لتحقيقها، وبدأ الرمي بالعمالة والتخوين، كأنها أصبحت حقيقة على أرض الواقع وليس مشروعًا يجرى تنفيذه.

وطبيعي في هذه الغفلة أن نلدغ ممن دبرها، وسينتهي الأمر بأن من دبرها وصل إلى ما أراده وزيادة!.

والعقرب في هذه الخدعة هم اليهود، هم من دبر هذه المؤامرة وأسسها.
وينبغي أن تعلم حتى تفهم حقيقة هذه الخدعة أن اليهود من أعلم الخلق بطبيعة البشر وطرق تفكيرهم، فالمشروع اليهودي التوراتي قائم على هذا الأصل:

استغلال غرائز البشر

وميولهم الفكرية والعاطفية والسياسية.

جاء في برتوكولاتهم أن من وسائل التمكين لهم:

"استعمال عواطف الناس المتأججة بدلًا من إخمادها. مع تضخيم الأخطاء والعادات حتى لا يستطيع الإنسان أن يُفكر بوضوح في هذه الظلمة والتشابك، وهو ما يعبر عنه بـ "التفكير في ضوء رؤية ضبابية". [انظر البرتوكول الخامس].

فخلق الغموض وإظهار التشابك والاختلاف حول الأحداث، من سنن المشروع اليهودي للتعمية عليه، لكي لا يُبصر خصمهم ما يدبرون بسبب هذه الصورة الضبابية التي أشرنا إليها آنفا .

كما أن اليهود يفهمون جيدًا نفسية عامة شعوب العالم العربي اليوم!.

هذه النفسية التي لا يستنكف أهلها -إلا من رحم الله- في مواكبة كل ما يأتي به اليهود والحضارة الغربية، بداية من التشبه بهم في المأكل والمشرب والملبس، ووصولًا للعكوف على مواقعهم وقنواتهم.

ولكن إن جاء هذا التشبه أو المتابعة من مسؤول أو مشهور .. كانت الطامة الكبرى، وأن هؤلاء خانوا الأمة وخانوا الأمانة وأصبحوا عملاء لليهود والأمريكان!.

حتى أصبح الأمر أن اليهود إذا أرادوا إسقاط رجل أو حتى دولة في العالم العربي أثنوا عليها، ولو أردوا الترويج أو تحسين صورة أحد عملائهم أظهروا عداواتهم له، كما يدندنون دائمًا حول عداوة إيران وأنها هي الخطر الذي يهدد الدولة العبرية في الشرق الأوسط.

مع أن الشيعة حمير اليهود لا يدخلون بلدًا إلا على ظهورهم كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- ، وكما رأينا ذلك رأي العين في أفغانستان والعراق.

وبهذا تبدأ القلاقل والفتن في ديار المسلمين والعرب، فيستغلها اليهود لتنفيذ مخططاتهم.

وقبل التكلم عن صفة القرن وماذا يريد اليهود من وراءها؟

لابد أن نفهم أيضًا خطة اليهود في إنفاذ مخططاتهم التوراتية التلمودية، والتي يسعون من وراءها لبسط ملكهم في الأرض، وتهيئتها لاستقبال مسيحهم المخلص، والذي سيكون في هيئة ملك من نسل داود، وليس في هيئة قديس، وهذا سبب رفضهم لرسالة عيسى -عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام-.

هذه المملكة التي ستكون عاصمتها "أورشليم"، وحدودها الجغرافية من النيل إلى الفرات، كما هي بشرى ربهم -رب الجنود- لإبراهيم -عليه السلام- كما في سفر التكوين.

أما الحدود الفعلية لهذه المملكة، فالأرض كلها!

فحقيقة احتلال الدول، هو : سلب خيراتها، وتسخير أهلها، وبسط المحتل لسلطانه الفكري والاقتصادي والسياسي على أهل هذه الأرض المحتلة، وهذا كله مكفول لليهود بدون تحريك الجيوش والأساطيل، وهو ما يطلق عليه بـ "العبودية طواعية".

وأما أهم مقومات نجاح المشروع اليهودي أنه قائم على "الشخصية اليهودية"!.

فاليهود كالتاجر الحاذق الذي يعرف السوق جيدًا، وما يحتاجه ويفكر فيه "الزبون"!.

فهو تاجر يعرف كيف تأكل الكتف؟ وكيف يتحصل على "الجنيه"؟!

وهذا مشاهد في بعض التجار الحذاق من غير اليهود؛ فترى الرجل من هؤلاء صاحب مشروع أو دكان، وعنده زبائن كُثر، وأصبح موضع ثقة عند الناس.

ولكن دكانه أو شركته أصبحت قديمة ومتهالكة ولا تواكب العصر!، فإن اقترحت عليه أن يجدد ويحسن من صورة مشروعه، تجده يرفض.. ليس بخلًا بالمال، ولكنه يرى أن هذه الهيئة المتهالكة من أسباب نجاحه، فهي لا تلفت نظر المسئولين إليه، ويستطيع من خلالها خداع منافسيه لظنهم أنه خارج المنافسة لِما يظهر من حاله، وربما اعتذر لصاحب اقتراح التجديد والتحسين بقوله: "المهم الدُرج"!.

وكذا اليهود لا يهتمون بمظهرهم ولا ما يقال عنهم، ولا يلتفتون إلى مدح أو ذم، لأن المهم عندهم "الدُرج" وما حصلوه من مكاسب فعليه تخدم مشروعهم التوراتي.

كما أن الملفت للنظر فيهم أنهم مع حرصهم وجشعهم، إلا أنهم يتمتعون بالصبر وعدم التسرع.

فلا يدخلون في صفقة إلا بعد هضم الصفقة التي قبلها جيدًا، فلا تغريهم الفرص السهلة، لعلمهم أن من استطاعوا خداعه سابقًا يتربص لهم ليسترجع ما أخذوه منه، فيصبرون حتى يحكموا قبضتهم جيدًا على ما سلبوه من غيرهم، فيقطع الأمل في استرجاعه.

وإن تركوا شيئًا مما سلبوه من غيرهم فاعلم أن هذا لخدعة سياسية، أو مسألة عقائدية، كتركهم "أريحا" في اتفاقية "غزة أريحا"، وذلك لأنه عندهم في التوراة أن من يُعمر "أريحا" ملعون!.

كما أن عدم تسرعهم يرجع لثقتهم أن ما في أيدي غيرهم محفوظ لهم حتى يأتي وقت حصاده، فهم يعملون في ذلك كله بالقاعدة الانجليزية الاستعمارية: "slow but sure " = بطيء لكن أكيد" .

فمن فهم ذلك وتصوره، أصبح عليه من السهل محاربة هؤلاء والتصدي لهم، لأن من عرف لغة قوم أمن مكرهم.

والآن نعود لتوضيح خدعة "صفقة القرن"، والتي ليست سوى كلمة، لو حاولت تتبع مصدرها وما يقصد بها، وما الهدف من وراءها؟ عجزت عن تحصيل ذلك، لشدة الغموض واللغط والتشابك حولها، فيما يعرف بـ "الرؤية الضبابية" التى أشرنا إليها آنفا.

والتي هي جزء من البرتوكول الرابع، والذي قالوا فيه:

"ففي كل الأزمات، الأمم تأخذ الكلمات على أنها أفعال، كأنما هي قانعة بما تسمع، وقلما تلاحظ ما إذا كان الوعد قابلًا للوفاء فعلًا أم غير قابل له".

فالخدعة في "صفقة القرن" أنها ليست سوى كلمة روج لها إعلاميًا، وليس وراءها مشروعًا بعينه واضح الملامح، وإنما الهدف هو تحريكها وتضخيمها ثم انتظار ما يتحصل من وراءها، وأكبر ثمرة تجنيها هذه الخدعة.

واليهود في "صفقة القرن" كباقي مشاريعهم، ليس لهم هدف واحد.

وهذه طبيعة اليهود.. لا يبدؤون مشروعًا ويأملون من وراءه تحقيق هدف واحد، ولكن يستغلون كل ما يمكن حصاده من وراء هذا المشروع.

والصورة الضبابية مقصودة في هذا المشروع، لأنه ينتج منها شغل العامة بالأمور السياسية ومنازعتهم لقرارات ولاة الأمور والحكام وتخوينهم، كما نص على ذلك البرتوكول التاسع.

وذلك يؤدي إلى ردود فعل في الدولة المستهدفة، ويكشف عن مواطن الخلل والضعف فيها والتي يُعمل على استغلالها فيما بعد.

ومشروع "صفقة القرن" يروج له أنه على تصفية الوجود الفلسطيني من الأراضي المحتلة، وترحليهم إلى أراض أخرى، والذي استبعد حدوثه بهذه الصورة التي تطرح على الناس في وسائل الإعلام، من تفريغ أرض فلسطين من جميع أهلها، وجعلها لليهود وحدهم.

هذا مستبعد في هذه المرحلة من الصراع، إذ وجودهم في فلسطين مصلحة لليهود، لأنهم ورقة ضغط قوية لإبقاء حالة الشحن والغضب بين الشعوب العربية والإسلامية وحكوماتهم حتى تتفكك وتضعف ويَسهل السيطرة عليها وتقسيمها فيما بعد.

وعلى كل حالٍ ما يحدث في فلسطين منذ مدة استراتيجية تسمى "أنف الدب"، وخلاصتها: أن الدب غزا مستعمرة النمل، ولم يكتفي بذلك بل جلس على بيت النمل فدمره، فما كان من النمل إلا الانتقام ممن دمر مستعمرته، فقام بغزو جسم هذا الدب كما غزا هو أرضه، وأخذ يقرصه ويؤذيه.

فلم يكن أمام الدب حيلة للتخلص من إيذاء النمل إلا بالنزول إلى الماء، فلما نزل بنصفه الأسفل في الماء، صعد النمل على ظهره، فنزل الدب بوسطه في الماء، فاجتمع النمل على رأسه، فنزل الدب أكثر ولم يترك من جسده سوى انفه لكي يتنفس منها، فاجتمع النمل على انفه، فأتي بحزمة قش وجعلها بجوار انفه ثم أخذ نفسًا عميقًا ونزل في الماء، فقفز النمل على القش لكي لا يغرق، وخرج الدب من الماء وقد تخلص من عدوه المؤذي.

فالدب في هذه القصة هم اليهود، وجسمه = أرض فلسطين، والنمل هم شعبها، والماء هو عمليات التهجير والجدار العازل وسمي ما شئت من جرائم اليهود في هذه الأرض المقدسة، وأما أنف الدب، فهي غزة، وأما حزمة القش.. فالعامي الذي شغلته السياسة وهو لا يعرف عقيدة عدوه سيقول: سيناء، والحق أن حزمة القش لابد أن غرب نهر النيل، وسيناء شرق النيل وهي من أرض اليهود التوراتية، ولهذا أصر اليهود في اتفاقية كامب ديفيد أن تكون سفارتهم في غرب النيل في الجيزة وضواحيها، ورفضت أن تكون في الجهة الشرقية، لأن سفارة الدولة لا تكون في أرضها، وإنما في أرض الدولة الأخرى، والله المستعان.

وهذا الذي ذكر آنفا هو ما يروج له في الإعلام، والحق أنه يريد منا أن نشتغل بالثعبان عن العقرب.

فهذه المرحلة في المشروع التوراتي ليس المقصود منها فلسطين، فهذا مشروع انتهى عندهم منذ عام 48، وإنما عينهم في هذه المرحلة على بلد الله الحرام.

وهم من فترة ليست بالقصيرة يهيئون الشعب الأمريكي والانجليز إلى قرب وعد الرب بحلول الألف عام السعيدة، والتي على حسب معتقد البروتستانت والذي يتدين به أغلب الشعب الأمريكي والبريطاني، وهم فعلًا يتدينون بهذا المعتقد ويقاتلون عليه وليس كما يروج الإعلام أنهم على العلمانية والالحاد، وابحث عن ما يسمى بمناطق الهلال المسيحي في أمريكا ستعرف حقيقة ذلك.

المهم: نبوءة الألف عام السعيدة ملخصها: أنه سينزل المسيح -عليه السلام- قبل ألف عام من قيام الساعة، وسيجعل لمن أمن به في هذه الأرض جنة يتمتع بها قبل دخول ملكوت السماء!.

ولكن هذا لن يحدث حتى يُرفع غضب الرب عن اليهود ويعودوا مرة أخرى إلى أرض الميعاد التي تم نفيهم عنها بوختنصر أيام النفي البابلي، والتي تمتد من نهر النيل إلى النهر العظيم نهر الفرات.

وهذا في نظر الأمريكان والانجليز كاد يتحقق، فالمنطقة من العراق مرورًا بسوريا ولبنان وفلسطين تكاد تكون تحت أيديهم بالفعل، إلا أن حدود الدولة العبرية التوراتية داخل فيها منطقة تبوك السعودية، إذ أنهم يزعمون أن غار نبي الله دانيال كان يقع في منطقة تبوك والتي لا تبعد سوى 200 كيلو متر من تل أبيب، وقد قام أخيرًا المؤرخ اليهودي "آفي ليبكين" للتأصيل لهذا الغزو لبلاد الحرمين، في كتابه "العودة إلى مكة"، بخلاف حلقاته المصورة في الفضائيات والتي يأتي فيها بصور لثيران نحتت على الصخر في أرض تبوك السعودية يزعم أنها من صنع بني إسرائيل أيام التيه!!.

فيؤصل لهذا المعتقد في نفوس الأمريكان والذي يعتقدون أنهم ليسوا سوى كلابًا عند اليهود كما أسس لهم هذا المتعقد "مارتن لوثر" في كتابه: "المسيح ولد يهوديًا".

فصفقة القرن يا صاحبي ليست قاصرة على تهجير الفلسطينيين من غزة إلى غرب نهر النيل فقط، بل داخل فيها غزو البلد الحرام والذي أظن أنه لن يكون إلا بواسطة حمير اليهود من الشيعة والخوارج كداعش وأخواتها.

كما أنه داخل في خدعة صفقة القرن تقسيم ما بقي من العالم الإسلامي إلى دويلات لا تجرأ على محاربة مملكة الرب "أورشليم".

فهذا هو ما يمكره أعداؤنا، ونحن نعتقد ضده، إذ بشرنا نبينا -صلى الله عليه وسلم- أننا سنقاتل هؤلاء العلوج ونقتلهم على بكرة أبيهم شر قتلة يؤمئذ، حتى من يلتجأ منهم للاختباء وراء الحجر أو الشجر، سيُنطق الله هذه الجمادات ساعتئذ، وتقول: "يا مسلم يا عبد الله هذا يهودي خلفي، تعال فاقتله، إلا الغرقد، فإنه من شجر اليهود". [رواه البخاري ومسلم].

كما نؤمن أنهم لن يتمكنوا من هدم المسجد الأقصى، إذ أخبر الرسول -صلى الله عليه وسلم- عن الدجال، فقال: "إنه يمكث في الأرض أربعين صباحًا يبلغ فيها كل منهل، ولا يقرب أربعة مساجد، مسجد الحرام، ومسجد المدينة، ومسجد الطور، ومسجد الأقصى". [رواه أحمد بسند حسن من طريق عبد الرزاق عن الثوري].

هذا؛ والله من وراء القصد وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وصلى اللهم على محمد وعلى اله وصحبه وسلم.

وكتب

أبو صهيب وليد بن سعد

القاهرة 3 / محرم / 1442

22 / 8 / 2020

 

                

الجمعة، 28 يوليو 2023

أين اختفت خطب النبي صلى الله عليه وسلم؟

 

أين اختفت خطب النبي صلى الله عليه وسلم؟  

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد:
  فإنه مازال المنافقون يبثون سمومهم في جموع المسلمين ..  لتشكيكهم في دينهم المعصوم، وذلك من خلال الطعن في ثوابته، بطرح شبهات ساقطة تُصور أنها من البحث العلمي.
ومن ذلك طرحهم سؤالًا منذ سنوات لم يُلقي العلماء له بالًا لسذاجته وسطحيته.
بيد أنهم أخذوا يدندنون حوله في برامجهم، ويطرحونه بأساليب وطرق مختلفة حتى أصبح بمنزلة الشبهة التي يتوجب عدم السكوت عليها.

 وأصبح الجواب عليه اليوم مما ينبغي على طلبة العلم، إذ وجد له في بعض النفوس مسلكًا.
وهذا السؤال هو: أين اختفت خطب النبي صلى الله عليه وسلم؟
والجواب: إنه وإن كان ظاهر هذا السؤال مشروعًا، إلا أننا نسبناه للمنافقين للأسلوب والطريقة التي طرح بها، فهم يسألون هذا السؤال كأنه سؤال تعجيزي ليس جوابًا.
وأيضًا: طريقة صياغة السؤال، فلو كان مسلم مسترشدًا جال بخاطره هذا السؤال، وأراد معرفة الجواب؛ لقال مثلًا: أين أجد خطب النبي صلى الله عليه وسلم؟ أو هل هناك كتاب جمع فيه خطب الرسول صلى الله عليه وسلم؟ أو ما هو قريب من هذا الأسلوب الذي يستخدمه الباحث عن الحق.
أما طرح السؤال بأسلوب تحدي أو أنه تعجيزي، مع استدراك السائل أنه من المفترض أن يكون هناك أكثر من 500 خطبة، أين ذهبت؟ وأين اختفت؟ ولماذا البخاري تعمد عدم نقلها... إلى غير ذلك.
فهذا مما نستدل به على نفاق القوم، والله عز وجل دلنا عليهم بقوله: 
{وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِى لَحْنِ القول}. [محمد : 30]

فضلًا عن معرفتنا بأشخاص من يطرح مثل هذه الأسئلة في الفضائيات، فهم على أحسن تقدير من أولياء الشياطين الذي يبثون وحيهم في الناس.
فالله عز وجل لما أنزل تحريم الميتة، قال المشركون للصحابة يجادلونهم: "أما ما قتلتم بأيديكم فتأكلونه, وأما ما قتل الله فلا تأكلونه؟"
قال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: " فنزلت هذه الآية: {وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم }. [ رواه أبو داود والحاكم، وصححه، ولم يصب من ضعف الحديث لأنه من رواية سماك بن حرب عن عكرمة، وروايته عن عكرمة مضطربة، لكن وافقه عبد الله بن أبي نجيح، والحكم بن أبان العدني، وهما ثقتان، فالحق فيما ذهب إليه الحاكم رحمه الله].

فهم من أولياء الشيطان الناطقون بلسانه..
ومع ذلك يتبقى السؤال مطروحًا..
والجواب عليه ميسور بحول الله وقوته.
ولكن ينبغي أن يوضح أولًا هيئة خطبة النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن بعض الناس تظن أن خطبته كانت قريبة من خطب ابن نباتة يُتكلف فيها السجع والقصص، أو من خطب الأوقاف في هذا العصر، أنها خطبة موسمية تتكلم عن الهجرة في بداية السنة الهجرية، وتتكلم عن غزوة بدر في نصف رمضان، وتتكلم عن فضائل يوم عاشوراء في شهر المحرم، وهكذا ...؛ والحق أن بعض هذا من البدع المحدثة.

أو أنه كان يتخللها هذا الحشو من الشعر والسجع، أو الدندنة حول السياسة، والتحسر على غلاء المعيشة .
فدع عنك هذا التصور الباطل، وتأمل كيف كانت خطبته صلى الله عليه وسلم حتى تعلم جواب السؤال؟


  أولًا: الرسول صلى الله عليه وسلم أوتي جوامع الكلم، فينطق بالكلمات القليلة التي تحمل المعاني العظيمة، فهو مؤيد بالوحي، فلا يقاس بغيره صلى الله عليه وسلم.

  ثانيًا: أن خطبته صلى الله عليه وسلم كانت قصيرة، ليست كخطب الناس اليوم، وهذا ما ترك عليه أصحابه من بعده.
فعند مسلم في صحيحه في كتاب الجمعة: "باب تخفيف الصلاة والخطبة".
عن أبي وائل شقيق بن سلمة قال: خطبنا عمار ـ بن ياسر ـ ، فأوجز وأبلغ ، فلما نزل قلنا: يا أبا اليقظان لقد أبلغت وأوجزت، فلو كنت تنفست، فقال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يقول : " إن طول صلاة الرجل، وقصر خطبته، مئنة من فقهه، فأطيلوا الصلاة، واقصروا الخطبة، وإن من البيان سحرًا".
قلت: فلم يكن من سنته صلى الله عليه وسلم قصر الخطبة وحسب، بل أمر بذلك، وبَين أن ذلك علامة على فقه الخطيب.

  ثالثًا: أنه صلى الله عليه وسلم كان يخطب في عرب، نزل القرآن بلسانهم، فيسمعون الكلمة فيعرفون معناها، وما يراد بها، وما وراءها، فلم يكونوا أهل عجمة كحال الناس اليوم، ولكن كان يكفيهم في الخطبة الكلمات اليسيرة،
فكان يكفيهم في وعظهم مثل قوله صلى الله عليه وسلم: " ليس الغنى عن كثرة العرض، ولكن الغنى غنى النفس ".
[رواه البخاري ومسلم].

بيد أن الناس لا يصلح معهم مثل هذا اليوم؛ ولكن لابد من ضرب أمثلة، وذكر قصة توضح المعنى عن بعض السلف، وربما الاستعانة ببعض الشعر .. ومع ذلك لن يصلوا إلى ما فهمه الصحابة من تلك الجملة القصيرة.
 

  رابعًا: نقل لنا الصحابة عليهم الرضوان طريقة النبي وهيئته صلى الله عليه وسلم في الخطبة، مع بعض الألفاظ التي كان يحافظ عليها في خطبه.
 يقول جابر بن عبد الله رضي الله عنه، قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خطب احمرت عيناه، وعلا صوته، واشتد غضبه، حتى كأنه منذر جيش يقول : " صبحكم ومساكم " ، ويقول: " بعثت أنا والساعة كهاتين "، ويقرن بين إصبعيه السبابة، والوسطى، ويقول: " أما بعد، فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدى هدى محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة " ثم يقول : " أنا أولى بكل مؤمن من نفسه، من ترك مالًا فلأهله ، ومن ترك دينًا أو ضياعًا فإلي وعلي" . [رواه مسلم].

  خامسًا: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعظ الصحابة ويخطب فيهم بالقرآن، فهل يريد أصحاب الشبهة أن تنقل لنا الأحاديث ما وجد في كتاب الله؟!
تقول أم هشام بنت حارثة بن النعمان  رضي الله عنها: " لقد كان تنورنا وتنور رسول الله صلى الله عليه وسلم واحدًا، سنتين أو سنة وبعض سنة، وما أخذت {ق والقرآن المجيد}، إلا عن لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقرؤها كل يوم جمعة على المنبر، إذا خطب الناس". [رواه مسلم].
وفي رواية عنده أيضًا: "ما حفظت {ق} ، إلا من فيّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يخطب بها كل جمعة ".

قلت: فتأمل يرحمك الله في قولها: "يخطب بها كل جمعة"، وقولها: "سنتين أو سنة وبعض سنة"، لتعلم تهافت القوم وأنهم يطالبون بالكشف عن عدد كذا وكذا خطبة أين اختفت؟   

وروى ابن خزيمة وابن حبان في صحيحهما عن أبي سعيد الخدري ، أنه قال : " خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما فقرأ {ص} فلما مر بالسجدة نزل فسجد، وسجدنا معه، وقرأ بها مرة أخرى، فلما بلغ السجدة تيسرنا للسجود، فلما رآنا قال : " إنما هي توبة نبي، ولكني أراكم قد استعددتم للسجود " ، فنزل وسجد وسجدنا".
قال الحاكم في المستدرك: "وهذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ، فأما السجود في {ص} فقد أخرجه البخاري ، وإنما الغرض في إخراجه هكذا في كتاب الجمعة أن الإمام إذا قرأ السجدة يوم الجمعة على المنبر فمن السنة أن ينزل فيسجد". اهـ

قلت: وأصبحت الخطبة بالقرآن سنة ماضية في الأمة من بعده، فعن ربيعة بن عبد الله بن الهدير التيمي ، قال: إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، قرأ يوم الجمعة على المنبر بسورة النحل حتى إذا جاء السجدة نزل، فسجد وسجد الناس حتى إذا كانت الجمعة القابلة قرأ بها، حتى إذا جاء السجدة، قال : " يا أيها الناس إنا نمر بالسجود، فمن سجد، فقد أصاب ومن لم يسجد، فلا إثم عليه ولم يسجد عمر رضي الله عنه". [رواه البخاري].
قلت: فهذا عمر رضي الله عنه يخطب بالقرآن جمعة بعد جمعة، فتأمل!.

  سادسًا: كل حديث قال فيه الصحابي: سمعت رسول الله، أو قال فيه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، يحتمل أن يكون سمعه من الرسول صلى الله عليه وسلم على المنبر، فليس هناك مانع من ذلك، وليس شرطًا أن يُبين أنه سمعه من النبي وهو على المنبر؛ إذ لا فائدة تعود على المستمع من هذا.
فالصحابي ينقل الفائدة والمضمون وحسب.
ولا يليق بعاقل أن يطالب الصحابي كلما ذكر حديثًا أن يقول: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صعد المنبر واثنى على الله بما هو أهله، ثم يذكر خطبة الحاجة وما فيها من آيات، ثم يذكر حديثًا فيه كلمات يسيرة.
فإن هذا فيه مشقة شديدة وعنت على المتكلم والمتلقي، وإنما يذكر الصحابي موطن الشاهد لأنه هو المهم للمستمع.
فإن كان هناك فائدة في ذكر المنبر وأن هذا الكلام قاله الرسول صلى الله عليه وسلم في خطبته، فنجد الصحابي يذكره، كما في حديث: " إني لست أخشى عليكم أن تشركوا بعدي، ولكني أخشى عليكم الدنيا أن تنافسوا فيها، وتقتتلوا، فتهلكوا، كما هلك من كان قبلكم". [رواه البخاري ومسلم].
فراوي الحديث "عقبة بن عامر الجهني" رضي الله عنه، ذكر أن هذا كان على المنبر لفائدة، فقال: "صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على قتلى أحد بعد ثماني سنين، كالمودع للأحياء والأموات، ثم طلع المنبر، ثم ذكر الحديث، ثم قال: " فكانت آخر ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر".

وتأمل أنه رضي الله عنه لم ينقل لنا إلا هذا القدر من الخطبة، مع أنه يحتمل أن يكون أمرهم بأمور آخر، مثل تقوى الله، والتراحم فيما بينهم؛ إلا أن الصحابي هنا نقل ما اختصت به هذه الخطبة ولم تتكرر في خطب أخرى.
وهذا موجود في دنيا الناس .. يخرج الناس من الخطبة فتثني على هذا القصة التي ذكرها الخطيب، أو هذه الآية التي ذكر تفسيرها، فهل هذا الخطيب لم يذكر في خطبته إلا هذه الآية وتلك القصة؟!
بالطبع لا، ولكن ضيق الأفق وفسق التصور بفعل بأهله مثل ذلك.
هذا، وربما ذكر الصحابي مجمل الخطبة، مع تركيزه على الفائدة التي أراد نقلها لمن بعده، كصنيع عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، قال : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وهو على المنبر، وذكر الصدقة، والتعفف، والمسألة : " اليد العليا خير من اليد السفلى، فاليد العليا : هي المنفقة، والسفلى : هي السائلة ". [رواه البخاري].
هذا الحديث رواه ابن عمر على هذا النحو، فلما رواه حكيم بن حزام، قال فيه: " اليد العليا خير من اليد السفلى، وابدأ بمن تعول، وخير الصدقة عن ظهر غنى، ومن يستعفف يعفه الله، ومن يستغن يغنه الله". [رواه البخاري].
وهناك رواية لحكيم أطول من هذه، بيد أنه في الحديثين لم يذكر أنها كانت في خطبة جمعة، لما مر ذكره أنه ليس هناك فائدة من ذكر ذلك، ولكن المهم هو نص كلام الرسول صلى الله عليه وسلم.

  سابعًا: كما أنه يستدل بأن جملة كبيرة من الأحاديث قالها الرسول صلى الله عليه وسلم على المنبر من غير ذكر من الصحابي لهذا، كهذه الأحاديث التي تبدأ بقوله: " أيها الناس" ، أو " ما بال أقوام يقولون: كذا أو يفعلون كذا".
فهذا الظاهر منه أنه قاله الرسول صلى الله عليه وسلم في جمع من الناس.
وأحيانًا تأتي بعض طرق الحديث فيذكر الصحابي أن هذا كان على المنبر، كما في حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، قالت: قال النبي صلى الله عليه وسلم: " ما بال أقوام يشترطون شروطًا ليست في كتاب الله، من اشترط شرطًا ليس في كتاب الله فليس له، وإن اشترط مائة شرط ". [رواه البخاري ومسلم].

في رواية سفيان الثوري، أنها قالت: " فصعد رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر، ثم ذكرت الحديث".
هذا الحديث رواه الإمام مالك من غير ذكر للمنبر.
فهذا إمامان من أئمة الحديث اتفقا على لفظ الحديث ونقلاه بحروفه.. أحدهما ذكر أن هذا كان في خطبة والآخر لم يذكر.
فهل هناك فائدة ضاعت على أهل الإسلام بعدم ذكر أن هذا الحديث كان في خطبة؟
أم أن المهم هو أن ينقل لنا ما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم بتمامه؟!
 

  ثامنًا: ومع ذلك فقد نقل لنا الصحابة بعض الخطب كاملة، لتعلقها بحكم عام كحديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه في وصف حجة الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو حديث طويل، نقله بتمامه الإمام مسلم في صحيحه، ومع أن جمع كبير من الصحابة نقل بعض ما ذكره جابر في حديثه؛ إلا أن جابرًا رضي الله عنه رأى مصلحة في نقل هذا الحدث بتمامه.
وكذا حديث الجساسة، وهو حديث طويل أيضًا ذكره الإمام مسلم بتمامه في صحيحه، وفيه أن فاطمة بنت قيس رضي الله عنها قالت: " صعد رسول الله صلى الله عليه وسلم المنبر، فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال : " أنذركم الدجال، فإنه لم يكن نبي قبلي إلا وقد أنذره أمته، ثم ذكر قصة تميمًا الداري وأنه رأى الدجال موثق بقيود على جزيرة، ورأى على هذه الجزيرة هذه الدابة التي ستكلم الناس يوم القيامة المعروفة بالجساسة". الحديث

قلت: فلم يكن هناك تقصير من الصحابة رضي الله عنهم، أو من أئمة الحديث من بعدهم في تبليغ السنة، حتى يُقال أين اختفت خطب النبي، ولماذا لم ينقلها البخاري ومسلم؟
فهؤلاء المنافقون لا تعنيهم هذه الخطب أو غيرها؛ وإنما هي شبه تُلقى على المسلمين للتشكيك في دينهم، من أُناس يحملون أسماء إسلامية والله أعلم بأسمائهم الحقيقية.

  تاسعًا: جاء في أحاديث كثيرة عرضًا من غير قصد أن هذا الحديث قاله النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر، وذلك لأنه أصبح لهذا الحديث قصة، فمن تمام الفائدة ذكر القصة كاملة لتعلق أحكام تترتب عليها فيما بعد.
كحديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه ، أنه قال : جاء سليك الغطفاني يوم الجمعة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قاعد على المنبر، فقعد سليك قبل أن يصلي، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : " أركعت ركعتين ؟ " قال : لا ، قال : " قم فاركعهما". [رواه مسلم].

وفي رواية: " وتجوز فيهما".
وحديث عبد الله بن عباس رضي الله عنه ، قال : "بينا النبي صلى الله عليه وسلم يخطب، إذا هو برجل قائم، فسأل عنه فقالوا : أبو إسرائيل ، نذر أن يقوم ولا يقعد، ولا يستظل، ولا يتكلم، ويصوم . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "مُرْهُ فليتكلم وليستظل وليقعد، وليتم صومه". [رواه البخاري].

وحديث أبي بكرة نفيع بن الحارث الثقفي رضي الله عنه، قال: "أخرج النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم الحسن، فصعد به على المنبر، فقال : " ابني هذا سيد، ولعل الله أن يصلح به بين فئتين من المسلمين" . [رواه البخاري].

وحديث أنس بن مالك رضي الله عنه، قال : أصابت الناس سنة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فبينا النبي صلى الله عليه وسلم يخطب في يوم جمعة قام أعرابي، فقال يا رسول الله: هلك المال وجاع العيال، فادع الله لنا، فرفع يديه وما نرى في السماء قزعة، فوالذي نفسي بيده، ما وضعها حتى ثار السحاب أمثال الجبال، ثم لم ينزل عن منبره حتى رأيت المطر يتحادر على لحيته صلى الله عليه وسلم، فمطرنا يومنا ذلك، ومن الغد وبعد الغد، والذي يليه، حتى الجمعة الأخرى، وقام ذلك الأعرابي - أو قال: غيره - فقال: يا رسول الله، تهدم البناء وغرق المال، فادع الله لنا، فرفع يديه فقال :

"اللهم حوالينا ولا علينا" فما يشير بيده إلى ناحية من السحاب إلا انفرجت، وصارت المدينة مثل الجوبة، وسال الوادي قناة شهرًا، ولم يجئ أحد من ناحية إلا حدث بالجود". [رواه البخاري ومسلم].

قلت: فذكر المنبر وأن هذا الحديث كان في خطبة جمعة، كان لأن فيه قصة، تتضمن أحكامًا شرعية خاصة بهيئة خطبة الجمعة، من جواز سؤال الخطيب لبعض المأمومين، أو العكس، أو الدعاء على المنبر، وعدم ترك سنة تحية المسجد والخطيب يخطب، وهكذا.

  عاشرًا: صحت جملة كبيرة من الأحاديث التي صرح فيها الصحابة أنهم سمعوها من رسول الله صلى الله عليه وسلم في خطبته أو من على المنبر، أذكر بعضًا منها، تبركًا وتذكيرًا بكلام الرسول صلى الله عليه وسلم وليس من باب التعليل أو الشك ، فأهل السنة بحول الله وقوته من أهل الثبات واليقين.
ولا أذكر فيهم إلا ما أخرجه البخاري أو مسلم كما فعلت في باقي  البحث، لأن هؤلاء الزنادقة المنافقون يريدون بصنيعهم هذا تشويه الصحيحين والطعن في صاحبيه، بزعم أنهم ضيعوا واخفوا خطب النبي صلى الله عليه وسلم، واحتفظوا بأحاديث أخرى.
 فنسأل الله أن يعامل هؤلاء الزنادقة بعدله، هم وكل من يكيد بأهل الإسلام.
 

  1ـ أخرج البخاري ومسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما، أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يخطب على المنبر يقول: " اقتلوا الحيات، واقتلوا ذا الطفيتين والأبتَرَ، فإنهما يطمسان البصَرَ، ويستسقطان الحَبَل، قال عبد الله: فبينا أنا أطارد حية لأقتلها، فناداني أبو لبابة: لا تقتلها، فقلت : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمر بقتل الحيات قال: إنه نهى بعد ذلك عن ذوات البيوت، وهي العوامر".
وفي رواية: " قال عبد الله بن عمر: " فلبثت لا أترك حية أراها إلا قتلته"، فبينا أنا أطارد حية يومًا، من ذوات البيوت، مر بي زيد بن الخطاب، أو أبو لبابة، وأنا أطاردها ، فقال : مهلًا، يا عبد الله فقلت : " إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بقتلهن "، قال : " إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نهى عن ذوات البيوت". الحديث.
قلت: أبو لبابة هو: رفاعة بن عبد المنذر الأنصاري، شهد بدرًا.
والأبْتَرَ: نوع من الحيات، قصير الذنب.
ويطمسان البصر: يذهبان به بقدر الله تعالى.
ويستسقطان الحَبَل: تسقط الحبلى ولدها إذا رأتهما خوفًا وجزعًا.
وذوات البيوت: الحيات التي تعيش في البيوت، فهذه تستأذن ثلاثة أيام، لأنها من الممكن أن تكون من الجن المسلم، فإن لم تخرج بعد ثلاثة تُقتل، فهي من الجن الكافر، والله أعلم.

  2 ـ عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: " إن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبنا، فبَين لنا سنتنا وعلمنا صلاتنا . فقال : " إذا صليتم فأقيموا صفوفكم ثم ليؤمكم أحدكم ، فإذا كبر فكبروا ، وإذ قال غير المغضوب عليهم ولا الضالين، فقولوا : آمين، يجبكم الله فإذا كبر وركع فكبروا واركعوا، فإن الإمام يركع قبلكم، ويرفع قبلكم "، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " فتلك بتلك وإذا قال : سمع الله لمن حمده . فقولوا : اللهم ربنا لك الحمد يسمع الله لكم ، فإن الله تبارك وتعالى ، قال على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم : سمع الله لمن حمده وإذا كبر وسجد فكبروا واسجدوا فإن الإمام يسجد قبلكم ويرفع قبلكم " فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " فتلك بتلك ، وإذا كان عند القعدة فليكن من أول قول أحدكم : التحيات الطيبات الصلوات لله السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته ، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين ، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله". [رواه مسلم].

  3 ـ عن أبي سعيد الخدري، قال: خطب النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: " إن الله خير عبدًا بين الدنيا وبين ما عنده فاختار ما عند الله " ، فبكى أبو بكر الصديق رضي الله عنه ، فقلت في نفسي ما يبكي هذا الشيخ ؟ إن يكن الله خير عبدًا بين الدنيا وبين ما عنده، فاختار ما عند الله، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو العبد، وكان أبو بكر أعلمنا، قال: " يا أبا بكر لا تبك، إن أمَنَ الناس علي في صحبته وماله أبو بكر، ولو كنت متخذًا خليلًا من أمتي لاتخذت أبا بكر، ولكن أخوة الإسلام ومودته ، لا يبقين في المسجد باب إلا سُدَّ، إلا بابُ أبي بكر" . [رواه البخاري ومسلم].

  4 ـ وعن الحكم بن ميناء، أن عبد الله بن عمر ، وأبا هريرة حدثاه ، أنهما سمعا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يقول على أعواد منبره : " لينتهين أقوام عن ودعهم الجمعات، أو ليختمن الله على قلوبهم، ثم ليكونن من الغافلين". [رواه مسلم].

   5 ـ عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال : خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال : " أيها الناس قد فرض الله عليكم الحج، فحجوا "، فقال رجل: أكل عام يا رسول الله ؟ فسكت حتى قالها ثلاثًا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لو قلت : نعم لوجبت ، ولما استطعتم " ، ثم قال :

" ذروني ما تركتكم ، فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم ، فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم ، وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه". [رواه مسلم].

  6 ـ  عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو قائم على المنبر، يقول : " إنما بقاؤكم فيما سلف قبلكم من الأمم ، كما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس ، أعطي أهل التوراة التوراة ، فعملوا بها حتى انتصف النهار ثم عجزوا ، فأعطوا قيراطًا قيراطًا ، ثم أعطي أهل الإنجيل الإنجيل ، فعملوا به حتى صلاة العصر ثم عجزوا ، فأعطوا قيراطًا قيراطًا ، ثم أعطيتم القرآن ، فعملتم به حتى غروب الشمس ، فأعطيتم قيراطين قيراطين ، قال أهل التوراة : ربنا هؤلاء أقل عملًا وأكثر أجرًا ؟ قال : هل ظلمتكم من أجركم من شيء ؟ قالوا : لا ، فقال : فذلك فضلي أوتيه من أشاء". [رواه البخاري].

  7 ـ عن ابن عباس رضي الله عنهما ، قال : خطب النبي صلى الله عليه وسلم فقال : " إنكم محشورون إلى الله حفاة عراة غرلا ، كما بدأنا أول خلق نعيده، وعدًا علينا إنا كنا فاعلين، ثم إن أول من يكسى يوم القيامة إبراهيم، ألا إنه يجاء برجال من أمتي ، فيؤخذ بهم ذات الشمال، فأقول : يا رب أصحابي، فيقال : لا تدري ما أحدثوا بعدك ، فأقول كما قال العبد الصالح : وكنت عليهم شهيدًا ، ما دمت فيهم إلى قوله شهيد فيقال : إن هؤلاء لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم ". [رواه البخاري].

  8 ـ عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: وهو على المنبر: " ألا إن الفتنة ها هنا يشير إلى المشرق من حيث يطلع قرن الشيطان ". [رواه البخاري ومسلم].

   9 ـ عن ابن عباس رضي الله عنهما ، يقول : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يخطب يقول : " لا يخلون رجل بامرأة إلا ومعها ذو محرم ، ولا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم " ، فقام رجل ، فقال : يا رسول الله ، إن امرأتي خرجت حاجة، وإني اكتتبت في غزوة كذا وكذا، قال : " انطلق فحج مع امرأتك ". [ رواه البخاري ومسلم، واللفظ له].


  10 ـ وقال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: "خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي مات فيه ...
وفي رواية: " صعد النبي صلى الله عليه وسلم المنبر ، وكان آخر مجلس جلسه متعطفًا ملحفة على منكبيه، قد عصب رأسه بعصابة دسمة ، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال : " أما بعد: أيها الناس، فإن الناس يكثرون، وتقل الأنصار حتى يكونوا كالملح في الطعام، فمن ولي منكم أمرًا يضر فيه أحدًا، أو ينفعه، فليقبل من محسنهم، ويتجاوز عن مسيئهم". [ رواه البخاري].

قلت: فتلك عشرة أحاديث كاملة، سبقها عشر أوجه في رد هذه الشبهة.

 تحاشيت البسط فيها حتى لا اثقل على المسلمين، وأكن خالفت هدي الأولين في الاقتصار على المضمون وما فيه نفع.
أما هؤلاء الزنادقة فلا يعبأ بهم فالخزي ملازمهم في الدنيا قبل الآخرة، وكل شبهاتهم مردودة بأقل عناء وإن ظنوا أنها أسئلة تعجيزية.

فقد قام أحد هؤلاء في معرض الكتاب يريد الطعن في القرآن، مع أنه يعرف في الإعلام بالمفكر الإسلامي!، فقال: يخطيء من يقول أن الله ذكر كل شيء في القرآن، فقام له أحد الشباب، فقال له: بل هذا صحيح، فالله ذكر كل شيء في القرآن، فقال هذا الزنديق: يعني صلعتي ده مذكورة في القرآن؟ وأشار إلى رأسه.
فقال الشاب: نعم مذكورة، قال الله تعالى: {والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه، والذي خبث لا يخرج إلا نكدا}، فبهت الذي ...
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

وكتب
أبو صهيب وليد بن سعد
القاهرة 10 / محرم / 1445
28 / 7 / 2023

 

 

الخميس، 16 مارس 2023

الحكمة من الزلازل

الحكمة من الزلازل


الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد:

فإن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ذكر أن من علامات الساعة ظهور الفتن وكثرة الزلازل، فقال:

  " لا تقوم الساعة حتى يقبض العلم ، وتكثر الزلازل، ويتقارب الزمان، وتظهر الفتن ، ويكثر الهرج، حتى يكثر فيكم المال فيفيض". (1)

والهرج: هو القتل بلسان الحبشة.

ويقول الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ: " بين يدي الساعة مَوْتَانٌ شديدٌ، وبَعدهُ سَنواتُ الزلازل"(2).

 والمَوْتَان بوزن البطلان، ويقصد به: الموت الكثير الوقوع.

قلت: فكثرة الزلازل من علامات يوم القيامة، فهي نذير وتذكير للناس في الدنيا بالزلزلة الكبرى = زلزلة يوم القيامة.

  يقول الله تعالى: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ }. [سورة الحج: 1 ].

  وقال عز وجل: { إِذَا رُجَّتِ الأرْضُ رَجًّا، وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا، فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا }. [ الواقعة : 4 : 6 ].

  وقوله سبحانه: { وَحُمِلَتِ الأرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً، فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ }. [ الحاقة: 14 : 15 ].

  وقال سبحانه: { يَوْمَ تَرْجُفُ الأرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلا }. [المزمل : 14].

وقال : { يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ، تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ }. [النازعات : 6: 7 ].

  فيوم القيامة تتزلزل الأرض وتنشق وتُخرج الموتى من قبورهم، وتلقي ما فيها من الكنوز بوحي من ربها.

  كما في قوله تعالى: { إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا، وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا، وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا، يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا، بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا}. [ الزلزلة: 1 : 5 ].

وقوله: { وَإِذَا الأرْضُ مُدَّتْ، وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ، وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ }.[ الانشقاق: 3 : 5 ] .

  { وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا }: يعني استمعت لربها، فالأذن هو الاستماع، وحق لها أن تستمع له وتطيعه.

    فجعل الله ـ عز وجل ـ هذه الزلازل التي يجدها الناس في الدنيا تذكيرًا لهم بالزلزلة الكبرى.

   كما أنها تخويفًا لهم من شديد عقابه، وأنه لا يقف أمام بأسه شيء.

    إذ أن الزلازل آية من آيات وحدانيته سبحانه، الدالة على قوته وعظيم ملكه، وأنه هو وحده من بيده ملكوت السموات والأرض، حتى لا يغتر البشر بما أتاهم الله من علم.

   فالعالم الغربي اليوم وصل من العلوم الدنيوية ما لم تصل إليه أمة من الأمم السابقة، وحاز من التقدم العلمي ما يتبجح به، مثل التنبؤ ببعض الظواهر قبل حدوثها كالأعاصير والأمطار، ولكنهم لا يستطيعون مع ذلك.. التنبؤ بالزلازل والهزات الأرضية، وغاية ما توصلوا إليه هو مقياس هذه الهزة وتحديد موقعها بعد أن تقع.

  ولو فتح الله برحمته عليهم بالعلم في المستقبل، واستطاعوا التنبؤ بهذه الزلازل قبل وقوعها، فلن يستطيعوا مع ذلك مواجهتها .. إذ هي من جند الله الذي ليس للبشر سبيل في مواجهته والتصدي له .

   بيد أنه يُخشى على بلاد المسلمين تسلط هؤلاء الغربيين على وسائل الإعلام، فيتسرب إلى ألسنتنا بعضًا من إلحادهم، إذ يأبي عليهم كفرهم أن تُنسب هذا الظواهر من الزلازل والأعاصير والبراكين إلى خالقها سبحانه، ولكن ينسبوها إلى الطبيعة، فيقولون: كوارث طبيعية أو غضب الطبيعة؛ كأن الطبيعة هي التي خلقتهم وأنشأتهم؟!.

    بل يُصرّون على تهوين شدة هذه العقوبات بأن تسمى بأسماء يألفها الناس ، حتى لا يكون له وقع فيما بعد في نفوسهم، فيطلقون عليها "تسونامي، وكاترينا، وساندي" وغير ذلك من الأسماء، كأنها حيوانات أليفة!!.

   ومع شديد الأسف أن هذه النظرة المادية أصبحت عند قطاع كبير من المسلمين ؛ إذ أصبحوا يرون أن هذه الآيات من الزلازل والأعاصير وغيرهما، أنها من الظواهر الطبيعية، وأنها ليست من جند الله الذي يُعذب به العصاة وأهل الشرك حتى يعودوا إليه ويتوبون.

  مع أنه سبحانه قد بَين في القرآن أنه عذب وأهلك أممًا سابقة بمثل هذه الآيات..

  فقال سبحانه: {وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ}، وقال: {وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ}.

وقال تعالى: { وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ }.[الشعراء : 173].

 وقال عز وجل:{ فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ }. [ العنكبوت : 40 ].

 فأنزل الله تعالى عقابه بهؤلاء الكفرة.. بالريح والمطر والغرق، وابتلاع الأرض لهم.

فذكر سبحانه أنه خسف بقارون الأرض..

  والخسف: هو تغييب الأرض ما على ظهرها، فانخسفَ الشيء أي: غاب في باطن الأرض، ومنه خُسوف القمر أي : غياب ضَوْئه.

قال الله تعالى: { فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ }. [ القصص : 81 ] .

   والزلازل من جملة هذه الآيات التي يأخذ الله بها على أيدي العصاة ويخوفهم بها حتى يعودوا إليه ويتوبوا، كما يعذب بها من كفر وألحد من عباده.

   ومن عظيم فقه الإمام البخاري  ـ رحمه الله ـ أنه بوب لحديث  " لا تقوم الساعة حتى يقبض العلم ، وتكثر الزلازل ..."= باب ما قيل في الزلازل والآيات.

كأنه يشير إلى قوله تعالى: {وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا}. [الإسراء: 59].

   فـ لله عز وجل حكمة بالغة من تخويف الناس بإرسال هذه الآيات، حتى يحثهم على ترك الذنوب والمعاصي، والمسارعة إلى التوبة ورد المظالم، وتذكيرهم بقدرته عليهم.

قال سبحانه: { وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا }. [الروم: 24].

    هذا؛ وقد بينت سنة الرسول صلى الله عليه وسلم ما يجب على المسلم عند نزول هذه الآيات..

  فعند مسلم في صحيحه، والبخاري في الأدب المفرد من حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، قالت : كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا عصفت الريح ، قال : " اللهم إني أسألك خيرها، وخير ما فيها، وخير ما أرسلت به، وأعوذ بك من شرها، وشر ما فيها، وشر ما أرسلت به "، قالت : وإذا تَخَيَّلت السماء، تغير لونه، وخرج ودخل، وأقبل وأدبر، فإذا مطرت، سُري عنه، فعرفت ذلك في وجهه، قالت: فسألته، فقال: " لعله، يا عائشة كما قال قوم عاد:{ فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا}. الحديث.

ومعنى " تَخَيَّلت السماء ": تهيأت للمطر، فأغامت ورعدت وبرقت.

  وعن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: " كانت الريح الشديدة إذا هبت عرف ذلك في وجه النبي صلى الله عليه وسلم".(3)

    وعن أبي هريرة رضي الله عنه، أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: " الريح من روح الله ، تأتي بالرحمة، وتأتي بالعذاب، فلا تسبوها، وسلوا الله من خيرها، وعوذوا بالله من شرها". (4)

    وكان " عبد الله بن الزبير " إذا سمع الرعد ترك الحديث وقال : "سبحان الذي يسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته، ثم يقول : إن هذا لوعيد شديد لأهل الأرض".(5)

     وفي صحيح البخاري ومسلم، أن الشمس خسفت يوم موت إبراهيم ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت الناس: إن الشمس خسفت لموته، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته، ولكن الله تعالى يخوف بهما عباده".

  زاد مسلم: " فإذا رأيتم كسوفًا، فاذكروا الله حتى ينجليا ".

   وفي رواية عند البخاري: " إنهما آيتان من آيات الله لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتموهما فافزعوا إلى الصلاة".

  فالواجب على المسلم عند رؤية هذه الآيات الربانية الفزع إلى الصلاة (6)، والمسارعة بالتوبة والانابة، لأنها ما نزلت إلا عقوبة من الله تعالى لمن عصاه وخالف أمره.

  أخرج ابن أبي شيبة في مصنفه بسند صحيح عن صفية ابنة أبي عبيد الثقفية ـ زوج عبد الله بن عمر ـ  قالت : "زلزلت الأرض على عهد عمر حتى اصَطَفقتْ السُّرَرُ ، فوافق ذلك عبد الله بن عمر وهو يصلي فلم يدر، قال : فخطب عمر الناس، فقال : " لئن عادت لأخرجن من بين ظهرانيكم ".

  وعند ابن أبي الدنيا في العقوبات أنه قال: " أيها الناس ، ما كانت هذه الزلزلة إلا عن شيء أحدثتموه ، والذي نفسي بيده لئن عادت لا أساكنكم فيها أبدًا ".

   وقد قال أنس بن مالك لعائشة رضي الله عنها : حدثينا يا أم المؤمنين عن الزلزلة ، فقالت : "يا أنس  ... إن  المرأة إذا خلعت ثيابها في غير بيت زوجها هتكت ما بينها وبين الله من حجاب، فإن تطيبت لغير زوجها كان عليها نار وشنار، فإذا استفحلوا في الزنا، وشربوا الخمور مع هذا، وضربوا المعازف، غار الله في سمائه، فقال : تزلزلي بهم، فإن تابوا ونزعوا وإلا هدمها الله عليهم"، فقال أنس: عقوبة لهم؟ قالت : " بل رحمة وبركة وموعظة للمؤمنين، ونكالًا وسخطة وعذابًا على الكافرين ". (7)

  وقال جعفر بن برقان : " كتب إلينا عمر بن عبد العزيز : " أما بعد ، فإن هذا الرجف شيء يعاقب الله تعالى به العباد... ، فمن كان عنده شيء فليصدق ، قال الله عز وجل : { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى }. (8)

فهذا الآيات من الزلازل والأعاصير تنزل بالناس بما أصابوا من المعاصي والآثام.

قال الله تعالى: { وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ }. [الشورى: 30].

وقال سبحانه: { مَّآ أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ الله وَمَآ أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ }. [ النساء : 79 ] .

  فالمصائب والبلايا والفتن تنزل بالناس بسبب شؤم معاصيهم ومخالفتهم لأوامر الله تعالى، فإذا نزلت شملتهم فلم تميز بينهم، فتشمل الصغير والكبير، والغني والفقير، والقوي والضعيف.

  قالت أم المؤمنين "زينب بنت جحش" رضي الله عنها: " يا رسول الله : أنهلك وفينا الصالحون ؟ قال : " نعم إذا كثر الخبث". [متفق عليه].

  ومن فقه الإمام البخاري عليه الرحمة أنه افتتح كتاب الفتن من صحيحه والذي جمع فيه جملة من أحاديث  الرسول صلى الله عليه وسلم في السمع والطاعة لولاة الأمور والتحذير من الخروج عليهم، افتتحه بقوله تعالى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}، كأنه ينبه أن الفتنة التي تنشأ من مخالفة هذا الأصل لن تتوقف عند من خالفها وخاض فيها وحسب، بل تشمل غيره من الأبرياء، والله أعلم.

   وهذا هو قدر الله تعالى بهذه الأمة، أنها لحمة واحدة .. وجسد واحد، إذا أخذت بأسباب النجاة فازت ونصرها الله، وإلا كان الخسران والدمار.

    يقول الرسول صلى الله عليه وسلمكما عند البخاري في صحيحه: "مثل القائم على حدود الله والواقع فيها، كمثل قوم استهموا على سفينة، فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم، فقالوا : لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقا ولم نؤذ من فوقنا، فإن يتركوهم وما أرادوا = هلكوا جميعًا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا، ونجوا جميعًا ".

     وعند البخاري أيضًا من حديث عائشة رضي الله عنها، قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يغزو جيش الكعبة ، فإذا كانوا ببيداء من الأرض، يخسف بأولهم وآخرهم"

قالت : قلت : يا رسول الله، كيف يخسف بأولهم وآخرهم، وفيهم أسواقهم، ومن ليس منهم؟ قال : " يخسف بأولهم وآخرهم، ثم يبعثون على نياتهم ". الحديث.

  فالفتن والبلايا إذا نزلت عمت ولم تميز، إلا أن الله لا يُظلم عنده أحدا.

    كما أن هذه الفتن تمحص الناس وتبين معادنهم، وقد شاهد الناس في زلزل سوريا الأخير.. هذه المرأة التي أبت أن تخرج من تحت الأنقاض إلا أن يأتوا لها بحجاب تستتر به، فرفضت أن تخرج سافرة في هذا الموقف الرهيب.

وهذه الفتاة الصغيرة التي لعلها لم تبلغ العاشرة بعد، والتي عندما سئلت بعد أن أخرجوها ما أكثر ما أحزنكِ؟

    قالت: أنها لم تصل هذه المدة، مع التزمها بالصلاة على الرسول صلى الله عليه وسلم طوال فترة حسبها تحت الانقاض.

  هذا؛ ولا يتصور أنه يستطيع المرء ترتيب مثل هذه الصورة ليظهر بين الناس أنه من أهل الاستقامة والصلاح ؛ لأنه عند الموت والفزع لا يستطيع الإنسان التفكير إلا في النجاة والخلاص من هذا الهلاك الذي يحيط به. 

  بيد أن ما ظهر في مثل هذه الحالات، إنما هو تثبيت من الله تعالى لمن التزم شرعه قبل هذه المحنة.

  يقول الله تعالى: { يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} .[إبراهيم: 27].

  فالمرأة المحافظة على حجابها يسترها الله في الدنيا قبل الآخرة، وكذا من يحافظ على صلاته يحفظه الله بها، وقد نصح رسول الله صلى الله عليه وسلم لابن عباس فقال: " احفظ الله يحفظك". [رواه أحمد والترمذي بسند حسن].

فالخلاصة:

  فـإن  لله عز وجل حكمة بالغة في كل ما خلق، وقد يعجز كثير من الخلق عن فهم  وإدراك هذه الحكمة؛ لأنه ربما تكمن الرحمة فيما ظاهره العذاب .. كما في آية الزلازل .

    فإن الزلازل ظاهرها الفساد والدمار ، وباطنها الرحمة، إذ أنها تذكيرا من الله سبحانه لعباده بالزلزلة الكبرى، زلزلة يوم القيامة .. حتى لا يغفلوا عنها وتغرهم الحياة الدنيا عن هذا اليوم العصيب وما سيترتب بعده من خلود في نار أو جنة.

  كما أن فيها تخويفا وترهيبا لعباده العصاة حتى يرجعوا ويتوبوا إليه، وتذكيرا لمن كفر بالله وألحد أنه  لا يقف أمام بأسه شيء، وأنه لو أرد أهلكهم كما أهلك أمما ممن قبلهم ، وساعتئذ لن تنفعهم علومهم الدنيوية.

   وفيها أنها من البلاء الذي ينزله الله بعباده بسبب ذنوبهم، وأن هذا البلاء وتلك العقوبة إذ نزلت بالناس شملتهم وعمتهم ولم تفرق بينهم، فعليهم المسارعة بالتوبة والإنابة لأنه ما نزل بلاء إلا بذنب.. وما رفع إلا بتوبة.

فنسأل الله أن يتوب علينا وعلى جميع المسلمين، وأن يرفع عنا البلاء ، ولا يؤخذنا بما فعل السفهاء منا.

وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

وكتب

أبو صهيب وليد بن سعد

القاهرة 26 / رجب / 1444 هـ

17 / 2 / 2023 م

الهامش ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 (1): رواه البخاري.

(2): رواه ابن حبان في صحيحه، والحاكم في المستدرك، وقال: صحيح على شرط الشيخين ، ولم يخرجاه؛ وقال الذهبي في مختصره: لم يخرجا لأرطاة وهو ثبت، والخبر من غرائب الصحاح، وصححه الشيخ الألباني.

(3): رواه البخاري.

(4): صحيح، رواه أبو عوانة في مستخرجه، وابن حبان في صحيحه، والحاكم في المستدرك، وأحمد في المسند، والبخاري في الأدب المفرد، ورجاله ثقات رجال الصحيح، خلا ثابت بن قيس الأنصاري الزرقي، فإنه ثقة مشهور، وثقه النسائي.

 فائدة: ثابت بن قيس هذا تفرد بالرواية عنه الزهري، وليس له إلا هذا الحديث الفرد فيما أعلم، فهو في عرف من اشترط رفع الجهالة برواية اثنين  = مجهول، ومع ذلك وثقه النسائي، وقال ابن مندة: مشهور من أهل المدينة، وأخرج حديثه ابن حبان في صحيحه، فقضية اشتراط رفع الجهالة برواية اثنين عن الراوي أو توهين حديثه لم تكن بهذه الصورة عند المتقدمين ، فانتبه!.

(5): رواه مالك في الموطأ بسند صحيح، والبخاري في الأدب المفرد بسند حسن.

(6): الثابت في السنة أن الصلاة عند كسوف الشمس أو القمر، أما الزلازل والأعاصير وغيرها من الآيات لم يثبت فيها صلاة، والله أعلم.

(7): رواه نعيم بن حماد في الفتن، وعنه ابن أبي الدنيا في العقوبات، والحاكم في المستدرك، وقال: " هذا حديث صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه"!!، وليس كما قال ـ عفا الله عنا وعنه ـ ، فإنه تفرد به بقية بن الوليد الحمصي ، عن يزيد بن عبد الله الجهمي، و"بقية" وإن كان ثقة، إلا أن حديثه يُرد أن حدث عن المجاهيل، ويزيد هذا منهم.

 ويستأنس بحديثه هنا من باب قول سفيان بن عيينة: "لا تسمعوا من بقية ما كان في سُنة، و اسمعوا منه ما كان في ثواب وغيره". والله أعلم.

(8): رواه ابن أبي الدنيا في العقوبات، وأبو نعيم في الحلية بسند حسن.