إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الجمعة، 28 يوليو 2023

أين اختفت خطب النبي صلى الله عليه وسلم؟

 

أين اختفت خطب النبي صلى الله عليه وسلم؟  

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد:
  فإنه مازال المنافقون يبثون سمومهم في جموع المسلمين ..  لتشكيكهم في دينهم المعصوم، وذلك من خلال الطعن في ثوابته، بطرح شبهات ساقطة تُصور أنها من البحث العلمي.
ومن ذلك طرحهم سؤالًا منذ سنوات لم يُلقي العلماء له بالًا لسذاجته وسطحيته.
بيد أنهم أخذوا يدندنون حوله في برامجهم، ويطرحونه بأساليب وطرق مختلفة حتى أصبح بمنزلة الشبهة التي يتوجب عدم السكوت عليها.

 وأصبح الجواب عليه اليوم مما ينبغي على طلبة العلم، إذ وجد له في بعض النفوس مسلكًا.
وهذا السؤال هو: أين اختفت خطب النبي صلى الله عليه وسلم؟
والجواب: إنه وإن كان ظاهر هذا السؤال مشروعًا، إلا أننا نسبناه للمنافقين للأسلوب والطريقة التي طرح بها، فهم يسألون هذا السؤال كأنه سؤال تعجيزي ليس جوابًا.
وأيضًا: طريقة صياغة السؤال، فلو كان مسلم مسترشدًا جال بخاطره هذا السؤال، وأراد معرفة الجواب؛ لقال مثلًا: أين أجد خطب النبي صلى الله عليه وسلم؟ أو هل هناك كتاب جمع فيه خطب الرسول صلى الله عليه وسلم؟ أو ما هو قريب من هذا الأسلوب الذي يستخدمه الباحث عن الحق.
أما طرح السؤال بأسلوب تحدي أو أنه تعجيزي، مع استدراك السائل أنه من المفترض أن يكون هناك أكثر من 500 خطبة، أين ذهبت؟ وأين اختفت؟ ولماذا البخاري تعمد عدم نقلها... إلى غير ذلك.
فهذا مما نستدل به على نفاق القوم، والله عز وجل دلنا عليهم بقوله: 
{وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِى لَحْنِ القول}. [محمد : 30]

فضلًا عن معرفتنا بأشخاص من يطرح مثل هذه الأسئلة في الفضائيات، فهم على أحسن تقدير من أولياء الشياطين الذي يبثون وحيهم في الناس.
فالله عز وجل لما أنزل تحريم الميتة، قال المشركون للصحابة يجادلونهم: "أما ما قتلتم بأيديكم فتأكلونه, وأما ما قتل الله فلا تأكلونه؟"
قال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: " فنزلت هذه الآية: {وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم }. [ رواه أبو داود والحاكم، وصححه، ولم يصب من ضعف الحديث لأنه من رواية سماك بن حرب عن عكرمة، وروايته عن عكرمة مضطربة، لكن وافقه عبد الله بن أبي نجيح، والحكم بن أبان العدني، وهما ثقتان، فالحق فيما ذهب إليه الحاكم رحمه الله].

فهم من أولياء الشيطان الناطقون بلسانه..
ومع ذلك يتبقى السؤال مطروحًا..
والجواب عليه ميسور بحول الله وقوته.
ولكن ينبغي أن يوضح أولًا هيئة خطبة النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن بعض الناس تظن أن خطبته كانت قريبة من خطب ابن نباتة يُتكلف فيها السجع والقصص، أو من خطب الأوقاف في هذا العصر، أنها خطبة موسمية تتكلم عن الهجرة في بداية السنة الهجرية، وتتكلم عن غزوة بدر في نصف رمضان، وتتكلم عن فضائل يوم عاشوراء في شهر المحرم، وهكذا ...؛ والحق أن بعض هذا من البدع المحدثة.

أو أنه كان يتخللها هذا الحشو من الشعر والسجع، أو الدندنة حول السياسة، والتحسر على غلاء المعيشة .
فدع عنك هذا التصور الباطل، وتأمل كيف كانت خطبته صلى الله عليه وسلم حتى تعلم جواب السؤال؟


  أولًا: الرسول صلى الله عليه وسلم أوتي جوامع الكلم، فينطق بالكلمات القليلة التي تحمل المعاني العظيمة، فهو مؤيد بالوحي، فلا يقاس بغيره صلى الله عليه وسلم.

  ثانيًا: أن خطبته صلى الله عليه وسلم كانت قصيرة، ليست كخطب الناس اليوم، وهذا ما ترك عليه أصحابه من بعده.
فعند مسلم في صحيحه في كتاب الجمعة: "باب تخفيف الصلاة والخطبة".
عن أبي وائل شقيق بن سلمة قال: خطبنا عمار ـ بن ياسر ـ ، فأوجز وأبلغ ، فلما نزل قلنا: يا أبا اليقظان لقد أبلغت وأوجزت، فلو كنت تنفست، فقال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يقول : " إن طول صلاة الرجل، وقصر خطبته، مئنة من فقهه، فأطيلوا الصلاة، واقصروا الخطبة، وإن من البيان سحرًا".
قلت: فلم يكن من سنته صلى الله عليه وسلم قصر الخطبة وحسب، بل أمر بذلك، وبَين أن ذلك علامة على فقه الخطيب.

  ثالثًا: أنه صلى الله عليه وسلم كان يخطب في عرب، نزل القرآن بلسانهم، فيسمعون الكلمة فيعرفون معناها، وما يراد بها، وما وراءها، فلم يكونوا أهل عجمة كحال الناس اليوم، ولكن كان يكفيهم في الخطبة الكلمات اليسيرة،
فكان يكفيهم في وعظهم مثل قوله صلى الله عليه وسلم: " ليس الغنى عن كثرة العرض، ولكن الغنى غنى النفس ".
[رواه البخاري ومسلم].

بيد أن الناس لا يصلح معهم مثل هذا اليوم؛ ولكن لابد من ضرب أمثلة، وذكر قصة توضح المعنى عن بعض السلف، وربما الاستعانة ببعض الشعر .. ومع ذلك لن يصلوا إلى ما فهمه الصحابة من تلك الجملة القصيرة.
 

  رابعًا: نقل لنا الصحابة عليهم الرضوان طريقة النبي وهيئته صلى الله عليه وسلم في الخطبة، مع بعض الألفاظ التي كان يحافظ عليها في خطبه.
 يقول جابر بن عبد الله رضي الله عنه، قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خطب احمرت عيناه، وعلا صوته، واشتد غضبه، حتى كأنه منذر جيش يقول : " صبحكم ومساكم " ، ويقول: " بعثت أنا والساعة كهاتين "، ويقرن بين إصبعيه السبابة، والوسطى، ويقول: " أما بعد، فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدى هدى محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة " ثم يقول : " أنا أولى بكل مؤمن من نفسه، من ترك مالًا فلأهله ، ومن ترك دينًا أو ضياعًا فإلي وعلي" . [رواه مسلم].

  خامسًا: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعظ الصحابة ويخطب فيهم بالقرآن، فهل يريد أصحاب الشبهة أن تنقل لنا الأحاديث ما وجد في كتاب الله؟!
تقول أم هشام بنت حارثة بن النعمان  رضي الله عنها: " لقد كان تنورنا وتنور رسول الله صلى الله عليه وسلم واحدًا، سنتين أو سنة وبعض سنة، وما أخذت {ق والقرآن المجيد}، إلا عن لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقرؤها كل يوم جمعة على المنبر، إذا خطب الناس". [رواه مسلم].
وفي رواية عنده أيضًا: "ما حفظت {ق} ، إلا من فيّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يخطب بها كل جمعة ".

قلت: فتأمل يرحمك الله في قولها: "يخطب بها كل جمعة"، وقولها: "سنتين أو سنة وبعض سنة"، لتعلم تهافت القوم وأنهم يطالبون بالكشف عن عدد كذا وكذا خطبة أين اختفت؟   

وروى ابن خزيمة وابن حبان في صحيحهما عن أبي سعيد الخدري ، أنه قال : " خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما فقرأ {ص} فلما مر بالسجدة نزل فسجد، وسجدنا معه، وقرأ بها مرة أخرى، فلما بلغ السجدة تيسرنا للسجود، فلما رآنا قال : " إنما هي توبة نبي، ولكني أراكم قد استعددتم للسجود " ، فنزل وسجد وسجدنا".
قال الحاكم في المستدرك: "وهذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ، فأما السجود في {ص} فقد أخرجه البخاري ، وإنما الغرض في إخراجه هكذا في كتاب الجمعة أن الإمام إذا قرأ السجدة يوم الجمعة على المنبر فمن السنة أن ينزل فيسجد". اهـ

قلت: وأصبحت الخطبة بالقرآن سنة ماضية في الأمة من بعده، فعن ربيعة بن عبد الله بن الهدير التيمي ، قال: إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، قرأ يوم الجمعة على المنبر بسورة النحل حتى إذا جاء السجدة نزل، فسجد وسجد الناس حتى إذا كانت الجمعة القابلة قرأ بها، حتى إذا جاء السجدة، قال : " يا أيها الناس إنا نمر بالسجود، فمن سجد، فقد أصاب ومن لم يسجد، فلا إثم عليه ولم يسجد عمر رضي الله عنه". [رواه البخاري].
قلت: فهذا عمر رضي الله عنه يخطب بالقرآن جمعة بعد جمعة، فتأمل!.

  سادسًا: كل حديث قال فيه الصحابي: سمعت رسول الله، أو قال فيه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، يحتمل أن يكون سمعه من الرسول صلى الله عليه وسلم على المنبر، فليس هناك مانع من ذلك، وليس شرطًا أن يُبين أنه سمعه من النبي وهو على المنبر؛ إذ لا فائدة تعود على المستمع من هذا.
فالصحابي ينقل الفائدة والمضمون وحسب.
ولا يليق بعاقل أن يطالب الصحابي كلما ذكر حديثًا أن يقول: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صعد المنبر واثنى على الله بما هو أهله، ثم يذكر خطبة الحاجة وما فيها من آيات، ثم يذكر حديثًا فيه كلمات يسيرة.
فإن هذا فيه مشقة شديدة وعنت على المتكلم والمتلقي، وإنما يذكر الصحابي موطن الشاهد لأنه هو المهم للمستمع.
فإن كان هناك فائدة في ذكر المنبر وأن هذا الكلام قاله الرسول صلى الله عليه وسلم في خطبته، فنجد الصحابي يذكره، كما في حديث: " إني لست أخشى عليكم أن تشركوا بعدي، ولكني أخشى عليكم الدنيا أن تنافسوا فيها، وتقتتلوا، فتهلكوا، كما هلك من كان قبلكم". [رواه البخاري ومسلم].
فراوي الحديث "عقبة بن عامر الجهني" رضي الله عنه، ذكر أن هذا كان على المنبر لفائدة، فقال: "صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على قتلى أحد بعد ثماني سنين، كالمودع للأحياء والأموات، ثم طلع المنبر، ثم ذكر الحديث، ثم قال: " فكانت آخر ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر".

وتأمل أنه رضي الله عنه لم ينقل لنا إلا هذا القدر من الخطبة، مع أنه يحتمل أن يكون أمرهم بأمور آخر، مثل تقوى الله، والتراحم فيما بينهم؛ إلا أن الصحابي هنا نقل ما اختصت به هذه الخطبة ولم تتكرر في خطب أخرى.
وهذا موجود في دنيا الناس .. يخرج الناس من الخطبة فتثني على هذا القصة التي ذكرها الخطيب، أو هذه الآية التي ذكر تفسيرها، فهل هذا الخطيب لم يذكر في خطبته إلا هذه الآية وتلك القصة؟!
بالطبع لا، ولكن ضيق الأفق وفسق التصور بفعل بأهله مثل ذلك.
هذا، وربما ذكر الصحابي مجمل الخطبة، مع تركيزه على الفائدة التي أراد نقلها لمن بعده، كصنيع عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، قال : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وهو على المنبر، وذكر الصدقة، والتعفف، والمسألة : " اليد العليا خير من اليد السفلى، فاليد العليا : هي المنفقة، والسفلى : هي السائلة ". [رواه البخاري].
هذا الحديث رواه ابن عمر على هذا النحو، فلما رواه حكيم بن حزام، قال فيه: " اليد العليا خير من اليد السفلى، وابدأ بمن تعول، وخير الصدقة عن ظهر غنى، ومن يستعفف يعفه الله، ومن يستغن يغنه الله". [رواه البخاري].
وهناك رواية لحكيم أطول من هذه، بيد أنه في الحديثين لم يذكر أنها كانت في خطبة جمعة، لما مر ذكره أنه ليس هناك فائدة من ذكر ذلك، ولكن المهم هو نص كلام الرسول صلى الله عليه وسلم.

  سابعًا: كما أنه يستدل بأن جملة كبيرة من الأحاديث قالها الرسول صلى الله عليه وسلم على المنبر من غير ذكر من الصحابي لهذا، كهذه الأحاديث التي تبدأ بقوله: " أيها الناس" ، أو " ما بال أقوام يقولون: كذا أو يفعلون كذا".
فهذا الظاهر منه أنه قاله الرسول صلى الله عليه وسلم في جمع من الناس.
وأحيانًا تأتي بعض طرق الحديث فيذكر الصحابي أن هذا كان على المنبر، كما في حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، قالت: قال النبي صلى الله عليه وسلم: " ما بال أقوام يشترطون شروطًا ليست في كتاب الله، من اشترط شرطًا ليس في كتاب الله فليس له، وإن اشترط مائة شرط ". [رواه البخاري ومسلم].

في رواية سفيان الثوري، أنها قالت: " فصعد رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر، ثم ذكرت الحديث".
هذا الحديث رواه الإمام مالك من غير ذكر للمنبر.
فهذا إمامان من أئمة الحديث اتفقا على لفظ الحديث ونقلاه بحروفه.. أحدهما ذكر أن هذا كان في خطبة والآخر لم يذكر.
فهل هناك فائدة ضاعت على أهل الإسلام بعدم ذكر أن هذا الحديث كان في خطبة؟
أم أن المهم هو أن ينقل لنا ما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم بتمامه؟!
 

  ثامنًا: ومع ذلك فقد نقل لنا الصحابة بعض الخطب كاملة، لتعلقها بحكم عام كحديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه في وصف حجة الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو حديث طويل، نقله بتمامه الإمام مسلم في صحيحه، ومع أن جمع كبير من الصحابة نقل بعض ما ذكره جابر في حديثه؛ إلا أن جابرًا رضي الله عنه رأى مصلحة في نقل هذا الحدث بتمامه.
وكذا حديث الجساسة، وهو حديث طويل أيضًا ذكره الإمام مسلم بتمامه في صحيحه، وفيه أن فاطمة بنت قيس رضي الله عنها قالت: " صعد رسول الله صلى الله عليه وسلم المنبر، فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال : " أنذركم الدجال، فإنه لم يكن نبي قبلي إلا وقد أنذره أمته، ثم ذكر قصة تميمًا الداري وأنه رأى الدجال موثق بقيود على جزيرة، ورأى على هذه الجزيرة هذه الدابة التي ستكلم الناس يوم القيامة المعروفة بالجساسة". الحديث

قلت: فلم يكن هناك تقصير من الصحابة رضي الله عنهم، أو من أئمة الحديث من بعدهم في تبليغ السنة، حتى يُقال أين اختفت خطب النبي، ولماذا لم ينقلها البخاري ومسلم؟
فهؤلاء المنافقون لا تعنيهم هذه الخطب أو غيرها؛ وإنما هي شبه تُلقى على المسلمين للتشكيك في دينهم، من أُناس يحملون أسماء إسلامية والله أعلم بأسمائهم الحقيقية.

  تاسعًا: جاء في أحاديث كثيرة عرضًا من غير قصد أن هذا الحديث قاله النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر، وذلك لأنه أصبح لهذا الحديث قصة، فمن تمام الفائدة ذكر القصة كاملة لتعلق أحكام تترتب عليها فيما بعد.
كحديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه ، أنه قال : جاء سليك الغطفاني يوم الجمعة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قاعد على المنبر، فقعد سليك قبل أن يصلي، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : " أركعت ركعتين ؟ " قال : لا ، قال : " قم فاركعهما". [رواه مسلم].

وفي رواية: " وتجوز فيهما".
وحديث عبد الله بن عباس رضي الله عنه ، قال : "بينا النبي صلى الله عليه وسلم يخطب، إذا هو برجل قائم، فسأل عنه فقالوا : أبو إسرائيل ، نذر أن يقوم ولا يقعد، ولا يستظل، ولا يتكلم، ويصوم . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "مُرْهُ فليتكلم وليستظل وليقعد، وليتم صومه". [رواه البخاري].

وحديث أبي بكرة نفيع بن الحارث الثقفي رضي الله عنه، قال: "أخرج النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم الحسن، فصعد به على المنبر، فقال : " ابني هذا سيد، ولعل الله أن يصلح به بين فئتين من المسلمين" . [رواه البخاري].

وحديث أنس بن مالك رضي الله عنه، قال : أصابت الناس سنة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فبينا النبي صلى الله عليه وسلم يخطب في يوم جمعة قام أعرابي، فقال يا رسول الله: هلك المال وجاع العيال، فادع الله لنا، فرفع يديه وما نرى في السماء قزعة، فوالذي نفسي بيده، ما وضعها حتى ثار السحاب أمثال الجبال، ثم لم ينزل عن منبره حتى رأيت المطر يتحادر على لحيته صلى الله عليه وسلم، فمطرنا يومنا ذلك، ومن الغد وبعد الغد، والذي يليه، حتى الجمعة الأخرى، وقام ذلك الأعرابي - أو قال: غيره - فقال: يا رسول الله، تهدم البناء وغرق المال، فادع الله لنا، فرفع يديه فقال :

"اللهم حوالينا ولا علينا" فما يشير بيده إلى ناحية من السحاب إلا انفرجت، وصارت المدينة مثل الجوبة، وسال الوادي قناة شهرًا، ولم يجئ أحد من ناحية إلا حدث بالجود". [رواه البخاري ومسلم].

قلت: فذكر المنبر وأن هذا الحديث كان في خطبة جمعة، كان لأن فيه قصة، تتضمن أحكامًا شرعية خاصة بهيئة خطبة الجمعة، من جواز سؤال الخطيب لبعض المأمومين، أو العكس، أو الدعاء على المنبر، وعدم ترك سنة تحية المسجد والخطيب يخطب، وهكذا.

  عاشرًا: صحت جملة كبيرة من الأحاديث التي صرح فيها الصحابة أنهم سمعوها من رسول الله صلى الله عليه وسلم في خطبته أو من على المنبر، أذكر بعضًا منها، تبركًا وتذكيرًا بكلام الرسول صلى الله عليه وسلم وليس من باب التعليل أو الشك ، فأهل السنة بحول الله وقوته من أهل الثبات واليقين.
ولا أذكر فيهم إلا ما أخرجه البخاري أو مسلم كما فعلت في باقي  البحث، لأن هؤلاء الزنادقة المنافقون يريدون بصنيعهم هذا تشويه الصحيحين والطعن في صاحبيه، بزعم أنهم ضيعوا واخفوا خطب النبي صلى الله عليه وسلم، واحتفظوا بأحاديث أخرى.
 فنسأل الله أن يعامل هؤلاء الزنادقة بعدله، هم وكل من يكيد بأهل الإسلام.
 

  1ـ أخرج البخاري ومسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما، أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يخطب على المنبر يقول: " اقتلوا الحيات، واقتلوا ذا الطفيتين والأبتَرَ، فإنهما يطمسان البصَرَ، ويستسقطان الحَبَل، قال عبد الله: فبينا أنا أطارد حية لأقتلها، فناداني أبو لبابة: لا تقتلها، فقلت : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمر بقتل الحيات قال: إنه نهى بعد ذلك عن ذوات البيوت، وهي العوامر".
وفي رواية: " قال عبد الله بن عمر: " فلبثت لا أترك حية أراها إلا قتلته"، فبينا أنا أطارد حية يومًا، من ذوات البيوت، مر بي زيد بن الخطاب، أو أبو لبابة، وأنا أطاردها ، فقال : مهلًا، يا عبد الله فقلت : " إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بقتلهن "، قال : " إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نهى عن ذوات البيوت". الحديث.
قلت: أبو لبابة هو: رفاعة بن عبد المنذر الأنصاري، شهد بدرًا.
والأبْتَرَ: نوع من الحيات، قصير الذنب.
ويطمسان البصر: يذهبان به بقدر الله تعالى.
ويستسقطان الحَبَل: تسقط الحبلى ولدها إذا رأتهما خوفًا وجزعًا.
وذوات البيوت: الحيات التي تعيش في البيوت، فهذه تستأذن ثلاثة أيام، لأنها من الممكن أن تكون من الجن المسلم، فإن لم تخرج بعد ثلاثة تُقتل، فهي من الجن الكافر، والله أعلم.

  2 ـ عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: " إن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبنا، فبَين لنا سنتنا وعلمنا صلاتنا . فقال : " إذا صليتم فأقيموا صفوفكم ثم ليؤمكم أحدكم ، فإذا كبر فكبروا ، وإذ قال غير المغضوب عليهم ولا الضالين، فقولوا : آمين، يجبكم الله فإذا كبر وركع فكبروا واركعوا، فإن الإمام يركع قبلكم، ويرفع قبلكم "، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " فتلك بتلك وإذا قال : سمع الله لمن حمده . فقولوا : اللهم ربنا لك الحمد يسمع الله لكم ، فإن الله تبارك وتعالى ، قال على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم : سمع الله لمن حمده وإذا كبر وسجد فكبروا واسجدوا فإن الإمام يسجد قبلكم ويرفع قبلكم " فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " فتلك بتلك ، وإذا كان عند القعدة فليكن من أول قول أحدكم : التحيات الطيبات الصلوات لله السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته ، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين ، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله". [رواه مسلم].

  3 ـ عن أبي سعيد الخدري، قال: خطب النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: " إن الله خير عبدًا بين الدنيا وبين ما عنده فاختار ما عند الله " ، فبكى أبو بكر الصديق رضي الله عنه ، فقلت في نفسي ما يبكي هذا الشيخ ؟ إن يكن الله خير عبدًا بين الدنيا وبين ما عنده، فاختار ما عند الله، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو العبد، وكان أبو بكر أعلمنا، قال: " يا أبا بكر لا تبك، إن أمَنَ الناس علي في صحبته وماله أبو بكر، ولو كنت متخذًا خليلًا من أمتي لاتخذت أبا بكر، ولكن أخوة الإسلام ومودته ، لا يبقين في المسجد باب إلا سُدَّ، إلا بابُ أبي بكر" . [رواه البخاري ومسلم].

  4 ـ وعن الحكم بن ميناء، أن عبد الله بن عمر ، وأبا هريرة حدثاه ، أنهما سمعا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يقول على أعواد منبره : " لينتهين أقوام عن ودعهم الجمعات، أو ليختمن الله على قلوبهم، ثم ليكونن من الغافلين". [رواه مسلم].

   5 ـ عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال : خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال : " أيها الناس قد فرض الله عليكم الحج، فحجوا "، فقال رجل: أكل عام يا رسول الله ؟ فسكت حتى قالها ثلاثًا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لو قلت : نعم لوجبت ، ولما استطعتم " ، ثم قال :

" ذروني ما تركتكم ، فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم ، فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم ، وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه". [رواه مسلم].

  6 ـ  عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو قائم على المنبر، يقول : " إنما بقاؤكم فيما سلف قبلكم من الأمم ، كما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس ، أعطي أهل التوراة التوراة ، فعملوا بها حتى انتصف النهار ثم عجزوا ، فأعطوا قيراطًا قيراطًا ، ثم أعطي أهل الإنجيل الإنجيل ، فعملوا به حتى صلاة العصر ثم عجزوا ، فأعطوا قيراطًا قيراطًا ، ثم أعطيتم القرآن ، فعملتم به حتى غروب الشمس ، فأعطيتم قيراطين قيراطين ، قال أهل التوراة : ربنا هؤلاء أقل عملًا وأكثر أجرًا ؟ قال : هل ظلمتكم من أجركم من شيء ؟ قالوا : لا ، فقال : فذلك فضلي أوتيه من أشاء". [رواه البخاري].

  7 ـ عن ابن عباس رضي الله عنهما ، قال : خطب النبي صلى الله عليه وسلم فقال : " إنكم محشورون إلى الله حفاة عراة غرلا ، كما بدأنا أول خلق نعيده، وعدًا علينا إنا كنا فاعلين، ثم إن أول من يكسى يوم القيامة إبراهيم، ألا إنه يجاء برجال من أمتي ، فيؤخذ بهم ذات الشمال، فأقول : يا رب أصحابي، فيقال : لا تدري ما أحدثوا بعدك ، فأقول كما قال العبد الصالح : وكنت عليهم شهيدًا ، ما دمت فيهم إلى قوله شهيد فيقال : إن هؤلاء لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم ". [رواه البخاري].

  8 ـ عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: وهو على المنبر: " ألا إن الفتنة ها هنا يشير إلى المشرق من حيث يطلع قرن الشيطان ". [رواه البخاري ومسلم].

   9 ـ عن ابن عباس رضي الله عنهما ، يقول : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يخطب يقول : " لا يخلون رجل بامرأة إلا ومعها ذو محرم ، ولا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم " ، فقام رجل ، فقال : يا رسول الله ، إن امرأتي خرجت حاجة، وإني اكتتبت في غزوة كذا وكذا، قال : " انطلق فحج مع امرأتك ". [ رواه البخاري ومسلم، واللفظ له].


  10 ـ وقال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: "خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي مات فيه ...
وفي رواية: " صعد النبي صلى الله عليه وسلم المنبر ، وكان آخر مجلس جلسه متعطفًا ملحفة على منكبيه، قد عصب رأسه بعصابة دسمة ، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال : " أما بعد: أيها الناس، فإن الناس يكثرون، وتقل الأنصار حتى يكونوا كالملح في الطعام، فمن ولي منكم أمرًا يضر فيه أحدًا، أو ينفعه، فليقبل من محسنهم، ويتجاوز عن مسيئهم". [ رواه البخاري].

قلت: فتلك عشرة أحاديث كاملة، سبقها عشر أوجه في رد هذه الشبهة.

 تحاشيت البسط فيها حتى لا اثقل على المسلمين، وأكن خالفت هدي الأولين في الاقتصار على المضمون وما فيه نفع.
أما هؤلاء الزنادقة فلا يعبأ بهم فالخزي ملازمهم في الدنيا قبل الآخرة، وكل شبهاتهم مردودة بأقل عناء وإن ظنوا أنها أسئلة تعجيزية.

فقد قام أحد هؤلاء في معرض الكتاب يريد الطعن في القرآن، مع أنه يعرف في الإعلام بالمفكر الإسلامي!، فقال: يخطيء من يقول أن الله ذكر كل شيء في القرآن، فقام له أحد الشباب، فقال له: بل هذا صحيح، فالله ذكر كل شيء في القرآن، فقال هذا الزنديق: يعني صلعتي ده مذكورة في القرآن؟ وأشار إلى رأسه.
فقال الشاب: نعم مذكورة، قال الله تعالى: {والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه، والذي خبث لا يخرج إلا نكدا}، فبهت الذي ...
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

وكتب
أبو صهيب وليد بن سعد
القاهرة 10 / محرم / 1445
28 / 7 / 2023

 

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق