وقفات مع ليلة القدر
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد:
رمضان شهر ظاهره العذاب!، وباطنه الرحمة... ظاهره جوع وعطش .. وقيام وسهر .. وباطنه عفو ومغفرة.
فمن صام نهاره غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن قام ليله غفر له كذلك، وليس ذلك فحسب، بل فيه ليلة من وفق لقيامها حصل هذا الثواب العظيم.
يقول نبينا ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ((من يَقُم ليلة القدر ، إيمانا واحتسابا ، غفر له ما تقدم من ذنبه ))
[ متفق على صحته ].
فـ "ليلة القدر":ليلة لا عدل لها من ليالي العام.
قيل أنها سميت بهذا الاسم لعظم قدرها وفضلها عند الله، ولأنه يُقدر فيها ما يكون في العام من الآجال والأرزاق والمقادير القدرية(1) . فيكون اسمها مشتق من القدر والتقدير ، وهو القدر الكوني السنوي الذي يكون فيه من أمر الموت والأجل والرزق وغيره، كما في قوله تعالى : {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (3) فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ }(2)[ الدخان : 3 ]
وقيل سميت بذلك لعظمها وقدرها وشرفها، من قولهم: لفلان قدر؛ أي شرف ومنزلة، وذلك لأن الرب ـ سبحانه ـ جعلها بداية نزول القرآن، كما في قوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ}(3) [القدر: 1] .
ومن أجل أنها نزل فيها القرآن العظيم، خصها الرب ـ سبحانه ـ بفضل ليس له حد.
فقال عز وجل : { لَيْلَةُ القدر خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ }[القدر: 3].
وفي مثل هذه
المواضع من القرآن العدد لا يفيد التحديد . . إنما هو يفيد التكثير؛ عنى
بألف شهر جميع الدهر، لأن العرب تذكر الألف في غاية الأشياء، كما قال
تعالى: { يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ } [ البقرة: 96 ] يعني جميع الدهر(4)
فيكون المقصود بالآية: أن فضل وخيرية هذه الليلة عظيم جداً، لا تستطيعون تقديره.
فالله ـ عز وجل ـ كلم العرب بما يفهمون، لأنه قيل أن أكبر عدد كانت تعرفه العرب هو : " الألف" فحدثهم بما يفهمون (5) ، ويكون بذلك من السطحية أن نقول أن فضل تلك الليلة يعادل ثلاث وثمانين سنة وأربعة أشهر، فليس هو المقصود بالآية، والله أعلم.وقد صح في تعين ليلة القدر أحاديث، منها:
ما رواه البخاري من حديث عائشة ـ رضي الله عنها ـ أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال : ((تحروا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان)) .
وعن ابن عباس رضي الله عنهما : أن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : (( التمسوها في العشر الأواخر من رمضان ليلة القدر ، في تاسعة تبقى ، في سابعة تبقى ، في خامسة تبقى)) [رواه البخاري].
وعن ابن عمر رضي الله عنه : أن أُناساً أُرُوا ليلة القدر في السبع الأواخر ، وأن أُناساً أُرُوا أنها في العشر الأواخر ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : (( التمسوها في السبع الأواخر)) [رواه البخاري].
وعند مسلم أن ابن عمر رضي الله عنهما ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( تحينوا ليلة القدر في العشر الأواخر )) أو قال (( في التسع الأواخر )).
وفي المتفق على صحته أنها كانت ليلة أحدى وعشرين، الليلة التي سجد رسول الله صلى الله عليه وسلم في ماء وطين.
وعند مسلم في صحيحه أن أبياً بن كعب رضي الله عنه أقسم أنها ليلة صبيحة سبع وعشرين.
وذهب جماعة من الصحابة والتابعين إلى أن ليلة القدر ليلة أربع وعشرين، لأنها الليلة التي أنزل فيها القرآن، وفي البخاري عن عكرمة، عن ابن عباس: (( التمسوها في أربع وعشرين )).
قلت : ليلة القدر بمجموع هذه الأحاديث والآثار، هي في العشر الأواخر من رمضان، وهي أقرب إلى الليالي الوترية منها إلى الأشفاع، ولا يتنافي أن تأتي في الأشفاع كما وضح ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ في مجموع الفتاوى.
ويكون ما أتى من قسم أبي بن كعب رضي الله عنه أنها ليلة صبيحة سبع وعشرين، أنه وافقها في هذه الليلة وعلمها من أمارتها التي تظهر بعد الليلة كما سيأتي، وقد أتت في سنة أخرى ليلة أحدى وعشرين وهي التي شهدها الصحابة مع الرسول صلى الله عليه وسلم، فهي متنقلة في العشر الأواخر من رمضان.
أما ما نقل عن أحد السلف أنها ليلة سبع وعشرين، لأسباب منها: ((أن الله خلق سبع سماوات، وسبع أرضين، والأسبوع سبع أيام، وأن الإنسان يسجد على سبع، والطواف بالبيت سبع، ورمي الجمر سبع، ...))، فهذا لو صح (6)، يُحمل على أنه من مُلح العلم(7) ، كالذي قال: " أن القرآن افْتُتِح بسورة البقرة، وأن أكثر من ذكر في سورة البقرة، اليهود، وأفضل يهود " آل عمران"، فلهذا جاءت السورة التي تليها سورة "آل عمران"!، وأفضل من خرج من "آل عمران"، "مريم البتول" عليها السلام، ولهذا جاءت السورة التي تليها سورة "النساء"!، وأحسن ما تحسن النساء صنعه هو: الطعام، فلهذا جاءت السورة التي تليها سورة "المائدة"!، وأفضل ما يقدم على المائدة اللحوم، ولهذا جاءت السورة التي تليها "الأنعام"!!، ...الخ ، فهذا ليس من متين العلم وصلبه، بل هو من مُلح العلم، والله المستعان(8) .
وجاء في صحيح مسلم من حديث أبي بن كعب ـ رضي الله عنه ـ يرفعه، :((أن الشمس تطلع في صبيحة يومها بيضاء لا شعاع لها)).
وعند ابن حبان زيادة: ((كأنها طست))، وهو: الإناء المستدير ويكون من نحاس ونحوه.
وعند أحمد في مسنده عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ـ رضي الله عنه ـ يرفعه : (( ... إِنَّ الْمَلَائِكَةَ تِلْكَ اللَّيْلَةَ فِي الْأَرْضِ أَكْثَرُ مِنْ عَدَدِ الْحَصَى)) [حسنه البوصيري والألباني].
وعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت : قلت يا رسول الله ، أرأيت إن وافقت ليلة القدر ما أقول فيها ؟ قال : قولي : ((اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني ))[رواه أحمد، والترمذي، وغيرهما، وصححه الشيخ الألباني].
هذا؛ وذكر ابن حجر في الفتح أن السبكي الكبير ذهب إلى استحباب كتمان ليلة القدر لمن رآها، لأن الله قدر لنبيه أنه لم يخبر بها، والخير كله فيما قدره له فيستحب اتباعه في ذلك.
قلت: لعله يقصد حديث عبادة بن الصامت ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج يخبر بليلة القدر ، فتلاحى رجلان من المسلمين فقال : (( إني خرجت لأخبركم بليلة القدر ، وإنه تلاحى فلان وفلان ، فرفعت ، وعسى أن يكون خيرا لكم )).
فينبغي على المسلم أن يتحرى تلك الليلة المباركة في العشر الأواخر جميعاً بلا تفريق بين ليالي الوتر أو الأشفاع، وأن يجتهد في الدعاء والتضرع والمسكنة بين يدي ربه للفوز بها ، لعله يأتي رمضان القادم ولا يكون بين الأحياء.
وصلى الله على محمد وعلى اله وصحبه وسلم
أبو صهيب وليد بن سعد
القاهرة 18 رمضان 1434
27 / 7 / 2013
الهوامش ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــ
( 1 ) : ((تيسير الكريم الرحمن)) للشيخ عبد الرحمن السَّعْدي
( 2 ) : وحديث نزول القرآن جملة واحدة إلى بيت العزة، يحتاج إلى مزيد تحقيق وبحث.
( 3 ) : تفسير القرطبي
( 4 ) : المصدر السابق
( 5 ) :ذكر ابن الطقطقي : أن بدوياً ظفر بحجر من الياقوت كبير يساوي مبلغاً عظيماً فلم يدر قيمته، فرآه بعض من يعرف قيمته فاشتراه منه بألف درهم، فبعد ذلك عرف البدوي قيمته ولامه أصحابه وقالوا له: هلا طلبت فيه أكثر من ذلك؟ قال: لو علمت أن وراء الألف عدداً أكثر من الألف لطلبته! .[ الفخري في الآداب السلطانية].
( 6 ) : حكم ابن كثير ـ رحمه الله ـ على هذا المتن بالغرابة ( التفسير 2 / 1436 مؤسسة الرسالة ط الأولى ).
( 7 ) : قال ابن عطية في تفسيره : أنه من مُلح التفاسير، وليس من متين العلم.
( 8 ) : وكذلك ما ذكره ابن كثير في تفسيره ( 2 / 1435)، ((أنه حُكي عن بعض السلف أنه حاول استخراج كونها ليلية سبع وعشرين من القرآن من قوله :{هِيَ}، لأنها الكلمة السابعة العشرون من السورة)) يُحمل أيضاً أنه من مُلح التفاسير، وليس من متين العلم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق