إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الأحد، 8 سبتمبر 2013

حق الجار



حـق الجـار

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد:
      فالأصل أن يسعى المرء لاختيار الجوار قبل اختيار الدار، كما في قول امرأة فرعون: { رَبِّ ابن لِي عِندَكَ بَيْتاً فِي الجنة وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ القوم الظالمين } [ التحريم : 11 ] ، فاختارت الجار قبل الدار(1)؛ بيد أن هذا غير متيسر في أكثر الأحيان، فيخرج المرء ليجد نفسه محاط بجيرانه، والذي يوجد فيهم أحياناً الفاسق والظالم وربما الكافر.
     ومع هذا فلهم حق حث عليه الإسلام وعظمه، فتجد هذه السنة الاجتماعية ( إن صح التعبير ) جاءت فيها آيات وأحاديث تعظم من شأنها، وتحفز على إحياءها، من حسن العشرة للجار، وكف الأذى عنه، والمحاماة دونه، مثل قول الرب ـ سبحانه وتعالى ـ : { وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا } [ النساء : 36 ] ، فوصى الله ـ عز وجل ـ في هذه الآية بالجار، والذي قال العلماء: أن حدوده تبدأ من الأقرب باباً إليك إلى أربعين ذراعاً، وقيل: بل إلى أربعين داراً عن يمين، وأربعين داراً عن شمال، وأربعين من أمام، وأربعين من خلف(2).
      وجاء في معنى { وَالْجَارِ الْجُنُبِ}: يعني الجار البعيد؛ لأنه جعل في مقابل { وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى}، يعني القريب، ومنه قول إبراهيم ـ عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام ـ : { واجنبنى وَبَنِىَّ أَن نَّعْبُدَ الأصنام} [ إبراهيم : 35]، وقوله تعالى : { واجتنبوا قَوْلَ الزور } [ الحج : 30 ]، فالاجتناب هنا بمعنى الابتعاد.
وقرأ الأعمش والمفضل {وَالْجَارِ الْجُنُبِ} بفتح الجيم وسكون النون وهما لغتان؛ يقال: جنب وجنب وأجنب وأجنبي إذا لم يكن بينهما قرابة، وجمعه أجانب. وقيل: على تقدير حذف المضاف، أي والجار ذي الجنب أي ذي الناحية(3).
فالجار الجنب هو : الجار البعيد وهو قول ابن عباس ومجاهد (4).
    وقالوا { وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى}: هو الجار الذي تربطك به قرابة ورحم، أو الذي بينك و بينه نسب.فالجيران ثلاثة: جار له ثلاثة حقوق. وجار له حقان، وجار له حق واحد.
  •  فأما الجار الذي له ثلاثة حقوق: فالجار المسلم القريب، له حق الجوار، وحق القرابة، وحق الإسلام.
  • والجار الذي له حقان: فهو الجار المسلم، فله حق الإسلام، وحق الجوار.
  •  والجار الذي له حق واحد: هو الكافر له حق الجوار (5).
فحق الجوار يكون لكل جار، سواء كان مسلماً أو كافراً، وسواء كان طائعاً أو عاصياً.
    فهذا عبد الله بن عمرو بن العاص ـ رضي الله عنهما ـ أمر بشاة فذبحت، فقال لقيمه: أهديت لجارنا اليهودي منها شيئاً؛ فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " مازال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه".[أخرجه أبو داود وغيره، وهو صحيح، وأصل الحديث متفق علي صحته].
    
     وعن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره ، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه ، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت".[متفق عليه].

    وعند مسلم من حديث أبي شريح الخزاعي ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليحسن إلى جاره".


     وعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " والله لا يؤمن ، والله لا يؤمن ، والله لا يؤمن " قيل : ومن يا رسول الله ؟ قال : " الذي لا يأمن جاره بوايقه". [متفق عليه].
وفي رواية مسلم: " لا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه" ، يعني: ظلمه وشروره.

     وعن عائشة رضي الله عنها ، قلت : يا رسول الله ، إن لي جارين فإلى أيهما أهدي ؟ قال : " إلى أقربهما منك بابا".[رواه البخاري].

    وفي البخاري، أن أبا رافع (6)، ساوم سعد بن مالك بيتا بأربع مائة مثقال ، وقال : لولا أني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : " الجار أحق بصقبه " ما أعطيتك.

  
    وعند أحمد في المسند، والترمذي في جامعه ، من حديث عبد الله بن عمرو قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" خير الأصحاب عند الله خيرهم لصاحبه ، وخير الجيران عند الله خيرهم لجاره ". [قال الترمذي : هذا حديث حسن غريب، وصححه الشيخ الألباني في الأدب المفرد].


     وعن أبي هريرة رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " يا نساء المسلمات ، لا تحقرن جارةٌ لجارتها ، ولو فِرْسِنَ شاة ". [متفق على صحته].

   ومعنى "ولو فِرْسِنَ شاة " ، قال زيد : " الظلف"، وهو عظم قليل اللحم، وهو خف البعير، والمعنى أن تهدي المسلمة جارتها، وإن كانت الهدية مما لا يُلتفت الناس إليه، ولا تأهبه له. كما في حديث أبي ذر في صحيح مسلم، قال : إن خليلي صلى الله عليه وسلم أوصاني : " إذا طبخت مرقا فأكثر ماءه ، ثم انظر أهل بيت من جيرانك ، فأصبهم منها بمعروف".

     وعن أبي هريرة ، رضي الله عنه قال : قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم : : إن فلانة تصوم النهار وتقوم الليل وتؤذي جيرانها بلسانها فقال : " لا خير فيها هي في النار " ، قيل : فإن فلانة تصلي المكتوبة وتصوم رمضان وتتصدق بأثوار من أقط ولا تؤذي أحدا بلسانها قال : " هي في الجنة " .[أخرجه أحمد، والحاكم وصححه، ووافقه الذهبي في التلخيص].

 
      وعند أبي داود في سننه من حديث أبي هريرة ، قال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يشكو جاره ، فقال : " اذهب فاصبر " فأتاه مرتين أو ثلاثا ، فقال : " اذهب فاطرح متاعك في الطريق " فطرح متاعه في الطريق ، فجعل الناس يسألونه فيخبرهم خبره ، فجعل الناس يلعنونه : فعل الله به ، وفعل ، وفعل ، فجاء إليه جاره فقال له : ارجع لا ترى مني شيئا تكرهه".


      وقد عظم الرسول صلى الله عليه وسلم أمر الزنا، وشنع على فاعله، فلما جاء إلى الزنا بحليلة الجار ، جعله أعظم، وذلك لأن الفاعل انتهك حرمتين؛ حرمة الفرج المحرم، وحرمة الجار، فكان التغليظ أشد.

فعن عبد الله بن مسعود : قال رجل : يا رسول الله ، أي الذنب أكبر عند الله ؟ قال : " أن تدعو لله ندا وهو خلقك " قال : ثم أي ؟ قال : " ثم أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك " قال : ثم أي ؟ قال : " ثم أن تزاني بحليلة جارك ". [رواه البخاري].

   فالجار في الإسلام حرمته عظيمة، فلا يُكَلم إلا بالحسنى، ولا يَسمع إلا الطيب من القول، ويُحسن إليه، ولا يؤذى ولو بالصوت المرتفع، ولو كان المسموع قرآناً، فضلاً عن أن يكون غناءً !، فربما كان مريضاً أو نائماً، فإنه يتحرز من أذيته على أي وجه كان.


     ولعل أقبح ما يؤذى به الجار في زماننا هذا هو: وضع القاذورات والأوساخ أمام بيته أو في طريقه أو بجوار سيارته.

    وقد جعل الرسول صلى الله عليه وسلم إزاحة الأذى من طريق المسلمين من الإيمان فقال: " الإيمان بضع وسبعون - أو بضع وستون - شعبة ، فأفضلها قول لا إله إلا الله ، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق ، والحياء شعبة من الإيمان ". [رواه مسلم].

     وعن أبي برزة الأسلمي قال : قلت : يا رسول الله ، دلني على عمل يدخلني الجنة ، قال : " أمط الأذى عن طريق الناس ".[رواه البخاري في الأدب المفرد، وصححه الألباني].


      وعنده أيضاً من حديث أبي هريرة رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " مر رجل مسلم بشوك في الطريق ، فقال : لأميطن هذا الشوك ، لا يضر رجلا مسلما ، فغفر له".[وصححه الشيخ].


     قلت: فإذا كان رفع الأذى من طريق الناس من الإيمان، ومن الأعمال التي تستجلب المغفرة، ويُثاب صاحبها بدخول الجنة، فما بالك في عدم إلقاء الأذى في الطريق من الأساس؟
     وإن كان إلقاء الأذى في طريق المسلمين مما يأثم به العبد، وهو عمل مستقبح، فهو في حق الجار أشد أثماً وقبحاً، لما للجار من حق بيناه أنفاً.
وصلى الله على محمد وعلى اله وصحبه وسلم
وكتب
أبو صهيب وليد بن سعد
القاهرة 1 ذو القعدة 1434
8 / 9 / 2013


الهوامش ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1): تفسير ابن كثير .
(2): ينسب هذا القول إلى الزهري ـ رحمه الله ـ .
(3): تفسير القرطبي (5 / 183 )، دار عالم الكتب
(4): تفسير الماوردي (1 / 485 )
(5): تفسير القرطبي (5 / 184 ).
(6): أبو رافع القبطي مولى النبي صلى الله عليه وسلم يقال : اسمه إبراهيم ويقال : أسلم ويقال : ثابت ويقال : هرمز.
ومعنى الحديث: أن الجار أولى بالشفعة لقربه.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق