إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الجمعة، 28 يوليو 2023

أين اختفت خطب النبي صلى الله عليه وسلم؟

 

أين اختفت خطب النبي صلى الله عليه وسلم؟  

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد:
  فإنه مازال المنافقون يبثون سمومهم في جموع المسلمين ..  لتشكيكهم في دينهم المعصوم، وذلك من خلال الطعن في ثوابته، بطرح شبهات ساقطة تُصور أنها من البحث العلمي.
ومن ذلك طرحهم سؤالًا منذ سنوات لم يُلقي العلماء له بالًا لسذاجته وسطحيته.
بيد أنهم أخذوا يدندنون حوله في برامجهم، ويطرحونه بأساليب وطرق مختلفة حتى أصبح بمنزلة الشبهة التي يتوجب عدم السكوت عليها.

 وأصبح الجواب عليه اليوم مما ينبغي على طلبة العلم، إذ وجد له في بعض النفوس مسلكًا.
وهذا السؤال هو: أين اختفت خطب النبي صلى الله عليه وسلم؟
والجواب: إنه وإن كان ظاهر هذا السؤال مشروعًا، إلا أننا نسبناه للمنافقين للأسلوب والطريقة التي طرح بها، فهم يسألون هذا السؤال كأنه سؤال تعجيزي ليس جوابًا.
وأيضًا: طريقة صياغة السؤال، فلو كان مسلم مسترشدًا جال بخاطره هذا السؤال، وأراد معرفة الجواب؛ لقال مثلًا: أين أجد خطب النبي صلى الله عليه وسلم؟ أو هل هناك كتاب جمع فيه خطب الرسول صلى الله عليه وسلم؟ أو ما هو قريب من هذا الأسلوب الذي يستخدمه الباحث عن الحق.
أما طرح السؤال بأسلوب تحدي أو أنه تعجيزي، مع استدراك السائل أنه من المفترض أن يكون هناك أكثر من 500 خطبة، أين ذهبت؟ وأين اختفت؟ ولماذا البخاري تعمد عدم نقلها... إلى غير ذلك.
فهذا مما نستدل به على نفاق القوم، والله عز وجل دلنا عليهم بقوله: 
{وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِى لَحْنِ القول}. [محمد : 30]

فضلًا عن معرفتنا بأشخاص من يطرح مثل هذه الأسئلة في الفضائيات، فهم على أحسن تقدير من أولياء الشياطين الذي يبثون وحيهم في الناس.
فالله عز وجل لما أنزل تحريم الميتة، قال المشركون للصحابة يجادلونهم: "أما ما قتلتم بأيديكم فتأكلونه, وأما ما قتل الله فلا تأكلونه؟"
قال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: " فنزلت هذه الآية: {وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم }. [ رواه أبو داود والحاكم، وصححه، ولم يصب من ضعف الحديث لأنه من رواية سماك بن حرب عن عكرمة، وروايته عن عكرمة مضطربة، لكن وافقه عبد الله بن أبي نجيح، والحكم بن أبان العدني، وهما ثقتان، فالحق فيما ذهب إليه الحاكم رحمه الله].

فهم من أولياء الشيطان الناطقون بلسانه..
ومع ذلك يتبقى السؤال مطروحًا..
والجواب عليه ميسور بحول الله وقوته.
ولكن ينبغي أن يوضح أولًا هيئة خطبة النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن بعض الناس تظن أن خطبته كانت قريبة من خطب ابن نباتة يُتكلف فيها السجع والقصص، أو من خطب الأوقاف في هذا العصر، أنها خطبة موسمية تتكلم عن الهجرة في بداية السنة الهجرية، وتتكلم عن غزوة بدر في نصف رمضان، وتتكلم عن فضائل يوم عاشوراء في شهر المحرم، وهكذا ...؛ والحق أن بعض هذا من البدع المحدثة.

أو أنه كان يتخللها هذا الحشو من الشعر والسجع، أو الدندنة حول السياسة، والتحسر على غلاء المعيشة .
فدع عنك هذا التصور الباطل، وتأمل كيف كانت خطبته صلى الله عليه وسلم حتى تعلم جواب السؤال؟


  أولًا: الرسول صلى الله عليه وسلم أوتي جوامع الكلم، فينطق بالكلمات القليلة التي تحمل المعاني العظيمة، فهو مؤيد بالوحي، فلا يقاس بغيره صلى الله عليه وسلم.

  ثانيًا: أن خطبته صلى الله عليه وسلم كانت قصيرة، ليست كخطب الناس اليوم، وهذا ما ترك عليه أصحابه من بعده.
فعند مسلم في صحيحه في كتاب الجمعة: "باب تخفيف الصلاة والخطبة".
عن أبي وائل شقيق بن سلمة قال: خطبنا عمار ـ بن ياسر ـ ، فأوجز وأبلغ ، فلما نزل قلنا: يا أبا اليقظان لقد أبلغت وأوجزت، فلو كنت تنفست، فقال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يقول : " إن طول صلاة الرجل، وقصر خطبته، مئنة من فقهه، فأطيلوا الصلاة، واقصروا الخطبة، وإن من البيان سحرًا".
قلت: فلم يكن من سنته صلى الله عليه وسلم قصر الخطبة وحسب، بل أمر بذلك، وبَين أن ذلك علامة على فقه الخطيب.

  ثالثًا: أنه صلى الله عليه وسلم كان يخطب في عرب، نزل القرآن بلسانهم، فيسمعون الكلمة فيعرفون معناها، وما يراد بها، وما وراءها، فلم يكونوا أهل عجمة كحال الناس اليوم، ولكن كان يكفيهم في الخطبة الكلمات اليسيرة،
فكان يكفيهم في وعظهم مثل قوله صلى الله عليه وسلم: " ليس الغنى عن كثرة العرض، ولكن الغنى غنى النفس ".
[رواه البخاري ومسلم].

بيد أن الناس لا يصلح معهم مثل هذا اليوم؛ ولكن لابد من ضرب أمثلة، وذكر قصة توضح المعنى عن بعض السلف، وربما الاستعانة ببعض الشعر .. ومع ذلك لن يصلوا إلى ما فهمه الصحابة من تلك الجملة القصيرة.
 

  رابعًا: نقل لنا الصحابة عليهم الرضوان طريقة النبي وهيئته صلى الله عليه وسلم في الخطبة، مع بعض الألفاظ التي كان يحافظ عليها في خطبه.
 يقول جابر بن عبد الله رضي الله عنه، قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خطب احمرت عيناه، وعلا صوته، واشتد غضبه، حتى كأنه منذر جيش يقول : " صبحكم ومساكم " ، ويقول: " بعثت أنا والساعة كهاتين "، ويقرن بين إصبعيه السبابة، والوسطى، ويقول: " أما بعد، فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدى هدى محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة " ثم يقول : " أنا أولى بكل مؤمن من نفسه، من ترك مالًا فلأهله ، ومن ترك دينًا أو ضياعًا فإلي وعلي" . [رواه مسلم].

  خامسًا: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعظ الصحابة ويخطب فيهم بالقرآن، فهل يريد أصحاب الشبهة أن تنقل لنا الأحاديث ما وجد في كتاب الله؟!
تقول أم هشام بنت حارثة بن النعمان  رضي الله عنها: " لقد كان تنورنا وتنور رسول الله صلى الله عليه وسلم واحدًا، سنتين أو سنة وبعض سنة، وما أخذت {ق والقرآن المجيد}، إلا عن لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقرؤها كل يوم جمعة على المنبر، إذا خطب الناس". [رواه مسلم].
وفي رواية عنده أيضًا: "ما حفظت {ق} ، إلا من فيّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يخطب بها كل جمعة ".

قلت: فتأمل يرحمك الله في قولها: "يخطب بها كل جمعة"، وقولها: "سنتين أو سنة وبعض سنة"، لتعلم تهافت القوم وأنهم يطالبون بالكشف عن عدد كذا وكذا خطبة أين اختفت؟   

وروى ابن خزيمة وابن حبان في صحيحهما عن أبي سعيد الخدري ، أنه قال : " خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما فقرأ {ص} فلما مر بالسجدة نزل فسجد، وسجدنا معه، وقرأ بها مرة أخرى، فلما بلغ السجدة تيسرنا للسجود، فلما رآنا قال : " إنما هي توبة نبي، ولكني أراكم قد استعددتم للسجود " ، فنزل وسجد وسجدنا".
قال الحاكم في المستدرك: "وهذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ، فأما السجود في {ص} فقد أخرجه البخاري ، وإنما الغرض في إخراجه هكذا في كتاب الجمعة أن الإمام إذا قرأ السجدة يوم الجمعة على المنبر فمن السنة أن ينزل فيسجد". اهـ

قلت: وأصبحت الخطبة بالقرآن سنة ماضية في الأمة من بعده، فعن ربيعة بن عبد الله بن الهدير التيمي ، قال: إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، قرأ يوم الجمعة على المنبر بسورة النحل حتى إذا جاء السجدة نزل، فسجد وسجد الناس حتى إذا كانت الجمعة القابلة قرأ بها، حتى إذا جاء السجدة، قال : " يا أيها الناس إنا نمر بالسجود، فمن سجد، فقد أصاب ومن لم يسجد، فلا إثم عليه ولم يسجد عمر رضي الله عنه". [رواه البخاري].
قلت: فهذا عمر رضي الله عنه يخطب بالقرآن جمعة بعد جمعة، فتأمل!.

  سادسًا: كل حديث قال فيه الصحابي: سمعت رسول الله، أو قال فيه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، يحتمل أن يكون سمعه من الرسول صلى الله عليه وسلم على المنبر، فليس هناك مانع من ذلك، وليس شرطًا أن يُبين أنه سمعه من النبي وهو على المنبر؛ إذ لا فائدة تعود على المستمع من هذا.
فالصحابي ينقل الفائدة والمضمون وحسب.
ولا يليق بعاقل أن يطالب الصحابي كلما ذكر حديثًا أن يقول: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صعد المنبر واثنى على الله بما هو أهله، ثم يذكر خطبة الحاجة وما فيها من آيات، ثم يذكر حديثًا فيه كلمات يسيرة.
فإن هذا فيه مشقة شديدة وعنت على المتكلم والمتلقي، وإنما يذكر الصحابي موطن الشاهد لأنه هو المهم للمستمع.
فإن كان هناك فائدة في ذكر المنبر وأن هذا الكلام قاله الرسول صلى الله عليه وسلم في خطبته، فنجد الصحابي يذكره، كما في حديث: " إني لست أخشى عليكم أن تشركوا بعدي، ولكني أخشى عليكم الدنيا أن تنافسوا فيها، وتقتتلوا، فتهلكوا، كما هلك من كان قبلكم". [رواه البخاري ومسلم].
فراوي الحديث "عقبة بن عامر الجهني" رضي الله عنه، ذكر أن هذا كان على المنبر لفائدة، فقال: "صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على قتلى أحد بعد ثماني سنين، كالمودع للأحياء والأموات، ثم طلع المنبر، ثم ذكر الحديث، ثم قال: " فكانت آخر ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر".

وتأمل أنه رضي الله عنه لم ينقل لنا إلا هذا القدر من الخطبة، مع أنه يحتمل أن يكون أمرهم بأمور آخر، مثل تقوى الله، والتراحم فيما بينهم؛ إلا أن الصحابي هنا نقل ما اختصت به هذه الخطبة ولم تتكرر في خطب أخرى.
وهذا موجود في دنيا الناس .. يخرج الناس من الخطبة فتثني على هذا القصة التي ذكرها الخطيب، أو هذه الآية التي ذكر تفسيرها، فهل هذا الخطيب لم يذكر في خطبته إلا هذه الآية وتلك القصة؟!
بالطبع لا، ولكن ضيق الأفق وفسق التصور بفعل بأهله مثل ذلك.
هذا، وربما ذكر الصحابي مجمل الخطبة، مع تركيزه على الفائدة التي أراد نقلها لمن بعده، كصنيع عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، قال : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وهو على المنبر، وذكر الصدقة، والتعفف، والمسألة : " اليد العليا خير من اليد السفلى، فاليد العليا : هي المنفقة، والسفلى : هي السائلة ". [رواه البخاري].
هذا الحديث رواه ابن عمر على هذا النحو، فلما رواه حكيم بن حزام، قال فيه: " اليد العليا خير من اليد السفلى، وابدأ بمن تعول، وخير الصدقة عن ظهر غنى، ومن يستعفف يعفه الله، ومن يستغن يغنه الله". [رواه البخاري].
وهناك رواية لحكيم أطول من هذه، بيد أنه في الحديثين لم يذكر أنها كانت في خطبة جمعة، لما مر ذكره أنه ليس هناك فائدة من ذكر ذلك، ولكن المهم هو نص كلام الرسول صلى الله عليه وسلم.

  سابعًا: كما أنه يستدل بأن جملة كبيرة من الأحاديث قالها الرسول صلى الله عليه وسلم على المنبر من غير ذكر من الصحابي لهذا، كهذه الأحاديث التي تبدأ بقوله: " أيها الناس" ، أو " ما بال أقوام يقولون: كذا أو يفعلون كذا".
فهذا الظاهر منه أنه قاله الرسول صلى الله عليه وسلم في جمع من الناس.
وأحيانًا تأتي بعض طرق الحديث فيذكر الصحابي أن هذا كان على المنبر، كما في حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، قالت: قال النبي صلى الله عليه وسلم: " ما بال أقوام يشترطون شروطًا ليست في كتاب الله، من اشترط شرطًا ليس في كتاب الله فليس له، وإن اشترط مائة شرط ". [رواه البخاري ومسلم].

في رواية سفيان الثوري، أنها قالت: " فصعد رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر، ثم ذكرت الحديث".
هذا الحديث رواه الإمام مالك من غير ذكر للمنبر.
فهذا إمامان من أئمة الحديث اتفقا على لفظ الحديث ونقلاه بحروفه.. أحدهما ذكر أن هذا كان في خطبة والآخر لم يذكر.
فهل هناك فائدة ضاعت على أهل الإسلام بعدم ذكر أن هذا الحديث كان في خطبة؟
أم أن المهم هو أن ينقل لنا ما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم بتمامه؟!
 

  ثامنًا: ومع ذلك فقد نقل لنا الصحابة بعض الخطب كاملة، لتعلقها بحكم عام كحديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه في وصف حجة الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو حديث طويل، نقله بتمامه الإمام مسلم في صحيحه، ومع أن جمع كبير من الصحابة نقل بعض ما ذكره جابر في حديثه؛ إلا أن جابرًا رضي الله عنه رأى مصلحة في نقل هذا الحدث بتمامه.
وكذا حديث الجساسة، وهو حديث طويل أيضًا ذكره الإمام مسلم بتمامه في صحيحه، وفيه أن فاطمة بنت قيس رضي الله عنها قالت: " صعد رسول الله صلى الله عليه وسلم المنبر، فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال : " أنذركم الدجال، فإنه لم يكن نبي قبلي إلا وقد أنذره أمته، ثم ذكر قصة تميمًا الداري وأنه رأى الدجال موثق بقيود على جزيرة، ورأى على هذه الجزيرة هذه الدابة التي ستكلم الناس يوم القيامة المعروفة بالجساسة". الحديث

قلت: فلم يكن هناك تقصير من الصحابة رضي الله عنهم، أو من أئمة الحديث من بعدهم في تبليغ السنة، حتى يُقال أين اختفت خطب النبي، ولماذا لم ينقلها البخاري ومسلم؟
فهؤلاء المنافقون لا تعنيهم هذه الخطب أو غيرها؛ وإنما هي شبه تُلقى على المسلمين للتشكيك في دينهم، من أُناس يحملون أسماء إسلامية والله أعلم بأسمائهم الحقيقية.

  تاسعًا: جاء في أحاديث كثيرة عرضًا من غير قصد أن هذا الحديث قاله النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر، وذلك لأنه أصبح لهذا الحديث قصة، فمن تمام الفائدة ذكر القصة كاملة لتعلق أحكام تترتب عليها فيما بعد.
كحديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه ، أنه قال : جاء سليك الغطفاني يوم الجمعة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قاعد على المنبر، فقعد سليك قبل أن يصلي، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : " أركعت ركعتين ؟ " قال : لا ، قال : " قم فاركعهما". [رواه مسلم].

وفي رواية: " وتجوز فيهما".
وحديث عبد الله بن عباس رضي الله عنه ، قال : "بينا النبي صلى الله عليه وسلم يخطب، إذا هو برجل قائم، فسأل عنه فقالوا : أبو إسرائيل ، نذر أن يقوم ولا يقعد، ولا يستظل، ولا يتكلم، ويصوم . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "مُرْهُ فليتكلم وليستظل وليقعد، وليتم صومه". [رواه البخاري].

وحديث أبي بكرة نفيع بن الحارث الثقفي رضي الله عنه، قال: "أخرج النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم الحسن، فصعد به على المنبر، فقال : " ابني هذا سيد، ولعل الله أن يصلح به بين فئتين من المسلمين" . [رواه البخاري].

وحديث أنس بن مالك رضي الله عنه، قال : أصابت الناس سنة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فبينا النبي صلى الله عليه وسلم يخطب في يوم جمعة قام أعرابي، فقال يا رسول الله: هلك المال وجاع العيال، فادع الله لنا، فرفع يديه وما نرى في السماء قزعة، فوالذي نفسي بيده، ما وضعها حتى ثار السحاب أمثال الجبال، ثم لم ينزل عن منبره حتى رأيت المطر يتحادر على لحيته صلى الله عليه وسلم، فمطرنا يومنا ذلك، ومن الغد وبعد الغد، والذي يليه، حتى الجمعة الأخرى، وقام ذلك الأعرابي - أو قال: غيره - فقال: يا رسول الله، تهدم البناء وغرق المال، فادع الله لنا، فرفع يديه فقال :

"اللهم حوالينا ولا علينا" فما يشير بيده إلى ناحية من السحاب إلا انفرجت، وصارت المدينة مثل الجوبة، وسال الوادي قناة شهرًا، ولم يجئ أحد من ناحية إلا حدث بالجود". [رواه البخاري ومسلم].

قلت: فذكر المنبر وأن هذا الحديث كان في خطبة جمعة، كان لأن فيه قصة، تتضمن أحكامًا شرعية خاصة بهيئة خطبة الجمعة، من جواز سؤال الخطيب لبعض المأمومين، أو العكس، أو الدعاء على المنبر، وعدم ترك سنة تحية المسجد والخطيب يخطب، وهكذا.

  عاشرًا: صحت جملة كبيرة من الأحاديث التي صرح فيها الصحابة أنهم سمعوها من رسول الله صلى الله عليه وسلم في خطبته أو من على المنبر، أذكر بعضًا منها، تبركًا وتذكيرًا بكلام الرسول صلى الله عليه وسلم وليس من باب التعليل أو الشك ، فأهل السنة بحول الله وقوته من أهل الثبات واليقين.
ولا أذكر فيهم إلا ما أخرجه البخاري أو مسلم كما فعلت في باقي  البحث، لأن هؤلاء الزنادقة المنافقون يريدون بصنيعهم هذا تشويه الصحيحين والطعن في صاحبيه، بزعم أنهم ضيعوا واخفوا خطب النبي صلى الله عليه وسلم، واحتفظوا بأحاديث أخرى.
 فنسأل الله أن يعامل هؤلاء الزنادقة بعدله، هم وكل من يكيد بأهل الإسلام.
 

  1ـ أخرج البخاري ومسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما، أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يخطب على المنبر يقول: " اقتلوا الحيات، واقتلوا ذا الطفيتين والأبتَرَ، فإنهما يطمسان البصَرَ، ويستسقطان الحَبَل، قال عبد الله: فبينا أنا أطارد حية لأقتلها، فناداني أبو لبابة: لا تقتلها، فقلت : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمر بقتل الحيات قال: إنه نهى بعد ذلك عن ذوات البيوت، وهي العوامر".
وفي رواية: " قال عبد الله بن عمر: " فلبثت لا أترك حية أراها إلا قتلته"، فبينا أنا أطارد حية يومًا، من ذوات البيوت، مر بي زيد بن الخطاب، أو أبو لبابة، وأنا أطاردها ، فقال : مهلًا، يا عبد الله فقلت : " إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بقتلهن "، قال : " إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نهى عن ذوات البيوت". الحديث.
قلت: أبو لبابة هو: رفاعة بن عبد المنذر الأنصاري، شهد بدرًا.
والأبْتَرَ: نوع من الحيات، قصير الذنب.
ويطمسان البصر: يذهبان به بقدر الله تعالى.
ويستسقطان الحَبَل: تسقط الحبلى ولدها إذا رأتهما خوفًا وجزعًا.
وذوات البيوت: الحيات التي تعيش في البيوت، فهذه تستأذن ثلاثة أيام، لأنها من الممكن أن تكون من الجن المسلم، فإن لم تخرج بعد ثلاثة تُقتل، فهي من الجن الكافر، والله أعلم.

  2 ـ عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: " إن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبنا، فبَين لنا سنتنا وعلمنا صلاتنا . فقال : " إذا صليتم فأقيموا صفوفكم ثم ليؤمكم أحدكم ، فإذا كبر فكبروا ، وإذ قال غير المغضوب عليهم ولا الضالين، فقولوا : آمين، يجبكم الله فإذا كبر وركع فكبروا واركعوا، فإن الإمام يركع قبلكم، ويرفع قبلكم "، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " فتلك بتلك وإذا قال : سمع الله لمن حمده . فقولوا : اللهم ربنا لك الحمد يسمع الله لكم ، فإن الله تبارك وتعالى ، قال على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم : سمع الله لمن حمده وإذا كبر وسجد فكبروا واسجدوا فإن الإمام يسجد قبلكم ويرفع قبلكم " فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " فتلك بتلك ، وإذا كان عند القعدة فليكن من أول قول أحدكم : التحيات الطيبات الصلوات لله السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته ، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين ، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله". [رواه مسلم].

  3 ـ عن أبي سعيد الخدري، قال: خطب النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: " إن الله خير عبدًا بين الدنيا وبين ما عنده فاختار ما عند الله " ، فبكى أبو بكر الصديق رضي الله عنه ، فقلت في نفسي ما يبكي هذا الشيخ ؟ إن يكن الله خير عبدًا بين الدنيا وبين ما عنده، فاختار ما عند الله، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو العبد، وكان أبو بكر أعلمنا، قال: " يا أبا بكر لا تبك، إن أمَنَ الناس علي في صحبته وماله أبو بكر، ولو كنت متخذًا خليلًا من أمتي لاتخذت أبا بكر، ولكن أخوة الإسلام ومودته ، لا يبقين في المسجد باب إلا سُدَّ، إلا بابُ أبي بكر" . [رواه البخاري ومسلم].

  4 ـ وعن الحكم بن ميناء، أن عبد الله بن عمر ، وأبا هريرة حدثاه ، أنهما سمعا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يقول على أعواد منبره : " لينتهين أقوام عن ودعهم الجمعات، أو ليختمن الله على قلوبهم، ثم ليكونن من الغافلين". [رواه مسلم].

   5 ـ عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال : خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال : " أيها الناس قد فرض الله عليكم الحج، فحجوا "، فقال رجل: أكل عام يا رسول الله ؟ فسكت حتى قالها ثلاثًا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لو قلت : نعم لوجبت ، ولما استطعتم " ، ثم قال :

" ذروني ما تركتكم ، فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم ، فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم ، وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه". [رواه مسلم].

  6 ـ  عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو قائم على المنبر، يقول : " إنما بقاؤكم فيما سلف قبلكم من الأمم ، كما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس ، أعطي أهل التوراة التوراة ، فعملوا بها حتى انتصف النهار ثم عجزوا ، فأعطوا قيراطًا قيراطًا ، ثم أعطي أهل الإنجيل الإنجيل ، فعملوا به حتى صلاة العصر ثم عجزوا ، فأعطوا قيراطًا قيراطًا ، ثم أعطيتم القرآن ، فعملتم به حتى غروب الشمس ، فأعطيتم قيراطين قيراطين ، قال أهل التوراة : ربنا هؤلاء أقل عملًا وأكثر أجرًا ؟ قال : هل ظلمتكم من أجركم من شيء ؟ قالوا : لا ، فقال : فذلك فضلي أوتيه من أشاء". [رواه البخاري].

  7 ـ عن ابن عباس رضي الله عنهما ، قال : خطب النبي صلى الله عليه وسلم فقال : " إنكم محشورون إلى الله حفاة عراة غرلا ، كما بدأنا أول خلق نعيده، وعدًا علينا إنا كنا فاعلين، ثم إن أول من يكسى يوم القيامة إبراهيم، ألا إنه يجاء برجال من أمتي ، فيؤخذ بهم ذات الشمال، فأقول : يا رب أصحابي، فيقال : لا تدري ما أحدثوا بعدك ، فأقول كما قال العبد الصالح : وكنت عليهم شهيدًا ، ما دمت فيهم إلى قوله شهيد فيقال : إن هؤلاء لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم ". [رواه البخاري].

  8 ـ عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: وهو على المنبر: " ألا إن الفتنة ها هنا يشير إلى المشرق من حيث يطلع قرن الشيطان ". [رواه البخاري ومسلم].

   9 ـ عن ابن عباس رضي الله عنهما ، يقول : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يخطب يقول : " لا يخلون رجل بامرأة إلا ومعها ذو محرم ، ولا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم " ، فقام رجل ، فقال : يا رسول الله ، إن امرأتي خرجت حاجة، وإني اكتتبت في غزوة كذا وكذا، قال : " انطلق فحج مع امرأتك ". [ رواه البخاري ومسلم، واللفظ له].


  10 ـ وقال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: "خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي مات فيه ...
وفي رواية: " صعد النبي صلى الله عليه وسلم المنبر ، وكان آخر مجلس جلسه متعطفًا ملحفة على منكبيه، قد عصب رأسه بعصابة دسمة ، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال : " أما بعد: أيها الناس، فإن الناس يكثرون، وتقل الأنصار حتى يكونوا كالملح في الطعام، فمن ولي منكم أمرًا يضر فيه أحدًا، أو ينفعه، فليقبل من محسنهم، ويتجاوز عن مسيئهم". [ رواه البخاري].

قلت: فتلك عشرة أحاديث كاملة، سبقها عشر أوجه في رد هذه الشبهة.

 تحاشيت البسط فيها حتى لا اثقل على المسلمين، وأكن خالفت هدي الأولين في الاقتصار على المضمون وما فيه نفع.
أما هؤلاء الزنادقة فلا يعبأ بهم فالخزي ملازمهم في الدنيا قبل الآخرة، وكل شبهاتهم مردودة بأقل عناء وإن ظنوا أنها أسئلة تعجيزية.

فقد قام أحد هؤلاء في معرض الكتاب يريد الطعن في القرآن، مع أنه يعرف في الإعلام بالمفكر الإسلامي!، فقال: يخطيء من يقول أن الله ذكر كل شيء في القرآن، فقام له أحد الشباب، فقال له: بل هذا صحيح، فالله ذكر كل شيء في القرآن، فقال هذا الزنديق: يعني صلعتي ده مذكورة في القرآن؟ وأشار إلى رأسه.
فقال الشاب: نعم مذكورة، قال الله تعالى: {والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه، والذي خبث لا يخرج إلا نكدا}، فبهت الذي ...
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

وكتب
أبو صهيب وليد بن سعد
القاهرة 10 / محرم / 1445
28 / 7 / 2023

 

 

الخميس، 16 مارس 2023

الحكمة من الزلازل

الحكمة من الزلازل


الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد:

فإن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ذكر أن من علامات الساعة ظهور الفتن وكثرة الزلازل، فقال:

  " لا تقوم الساعة حتى يقبض العلم ، وتكثر الزلازل، ويتقارب الزمان، وتظهر الفتن ، ويكثر الهرج، حتى يكثر فيكم المال فيفيض". (1)

والهرج: هو القتل بلسان الحبشة.

ويقول الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ: " بين يدي الساعة مَوْتَانٌ شديدٌ، وبَعدهُ سَنواتُ الزلازل"(2).

 والمَوْتَان بوزن البطلان، ويقصد به: الموت الكثير الوقوع.

قلت: فكثرة الزلازل من علامات يوم القيامة، فهي نذير وتذكير للناس في الدنيا بالزلزلة الكبرى = زلزلة يوم القيامة.

  يقول الله تعالى: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ }. [سورة الحج: 1 ].

  وقال عز وجل: { إِذَا رُجَّتِ الأرْضُ رَجًّا، وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا، فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا }. [ الواقعة : 4 : 6 ].

  وقوله سبحانه: { وَحُمِلَتِ الأرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً، فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ }. [ الحاقة: 14 : 15 ].

  وقال سبحانه: { يَوْمَ تَرْجُفُ الأرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلا }. [المزمل : 14].

وقال : { يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ، تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ }. [النازعات : 6: 7 ].

  فيوم القيامة تتزلزل الأرض وتنشق وتُخرج الموتى من قبورهم، وتلقي ما فيها من الكنوز بوحي من ربها.

  كما في قوله تعالى: { إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا، وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا، وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا، يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا، بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا}. [ الزلزلة: 1 : 5 ].

وقوله: { وَإِذَا الأرْضُ مُدَّتْ، وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ، وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ }.[ الانشقاق: 3 : 5 ] .

  { وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا }: يعني استمعت لربها، فالأذن هو الاستماع، وحق لها أن تستمع له وتطيعه.

    فجعل الله ـ عز وجل ـ هذه الزلازل التي يجدها الناس في الدنيا تذكيرًا لهم بالزلزلة الكبرى.

   كما أنها تخويفًا لهم من شديد عقابه، وأنه لا يقف أمام بأسه شيء.

    إذ أن الزلازل آية من آيات وحدانيته سبحانه، الدالة على قوته وعظيم ملكه، وأنه هو وحده من بيده ملكوت السموات والأرض، حتى لا يغتر البشر بما أتاهم الله من علم.

   فالعالم الغربي اليوم وصل من العلوم الدنيوية ما لم تصل إليه أمة من الأمم السابقة، وحاز من التقدم العلمي ما يتبجح به، مثل التنبؤ ببعض الظواهر قبل حدوثها كالأعاصير والأمطار، ولكنهم لا يستطيعون مع ذلك.. التنبؤ بالزلازل والهزات الأرضية، وغاية ما توصلوا إليه هو مقياس هذه الهزة وتحديد موقعها بعد أن تقع.

  ولو فتح الله برحمته عليهم بالعلم في المستقبل، واستطاعوا التنبؤ بهذه الزلازل قبل وقوعها، فلن يستطيعوا مع ذلك مواجهتها .. إذ هي من جند الله الذي ليس للبشر سبيل في مواجهته والتصدي له .

   بيد أنه يُخشى على بلاد المسلمين تسلط هؤلاء الغربيين على وسائل الإعلام، فيتسرب إلى ألسنتنا بعضًا من إلحادهم، إذ يأبي عليهم كفرهم أن تُنسب هذا الظواهر من الزلازل والأعاصير والبراكين إلى خالقها سبحانه، ولكن ينسبوها إلى الطبيعة، فيقولون: كوارث طبيعية أو غضب الطبيعة؛ كأن الطبيعة هي التي خلقتهم وأنشأتهم؟!.

    بل يُصرّون على تهوين شدة هذه العقوبات بأن تسمى بأسماء يألفها الناس ، حتى لا يكون له وقع فيما بعد في نفوسهم، فيطلقون عليها "تسونامي، وكاترينا، وساندي" وغير ذلك من الأسماء، كأنها حيوانات أليفة!!.

   ومع شديد الأسف أن هذه النظرة المادية أصبحت عند قطاع كبير من المسلمين ؛ إذ أصبحوا يرون أن هذه الآيات من الزلازل والأعاصير وغيرهما، أنها من الظواهر الطبيعية، وأنها ليست من جند الله الذي يُعذب به العصاة وأهل الشرك حتى يعودوا إليه ويتوبون.

  مع أنه سبحانه قد بَين في القرآن أنه عذب وأهلك أممًا سابقة بمثل هذه الآيات..

  فقال سبحانه: {وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ}، وقال: {وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ}.

وقال تعالى: { وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ }.[الشعراء : 173].

 وقال عز وجل:{ فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ }. [ العنكبوت : 40 ].

 فأنزل الله تعالى عقابه بهؤلاء الكفرة.. بالريح والمطر والغرق، وابتلاع الأرض لهم.

فذكر سبحانه أنه خسف بقارون الأرض..

  والخسف: هو تغييب الأرض ما على ظهرها، فانخسفَ الشيء أي: غاب في باطن الأرض، ومنه خُسوف القمر أي : غياب ضَوْئه.

قال الله تعالى: { فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ }. [ القصص : 81 ] .

   والزلازل من جملة هذه الآيات التي يأخذ الله بها على أيدي العصاة ويخوفهم بها حتى يعودوا إليه ويتوبوا، كما يعذب بها من كفر وألحد من عباده.

   ومن عظيم فقه الإمام البخاري  ـ رحمه الله ـ أنه بوب لحديث  " لا تقوم الساعة حتى يقبض العلم ، وتكثر الزلازل ..."= باب ما قيل في الزلازل والآيات.

كأنه يشير إلى قوله تعالى: {وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا}. [الإسراء: 59].

   فـ لله عز وجل حكمة بالغة من تخويف الناس بإرسال هذه الآيات، حتى يحثهم على ترك الذنوب والمعاصي، والمسارعة إلى التوبة ورد المظالم، وتذكيرهم بقدرته عليهم.

قال سبحانه: { وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا }. [الروم: 24].

    هذا؛ وقد بينت سنة الرسول صلى الله عليه وسلم ما يجب على المسلم عند نزول هذه الآيات..

  فعند مسلم في صحيحه، والبخاري في الأدب المفرد من حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، قالت : كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا عصفت الريح ، قال : " اللهم إني أسألك خيرها، وخير ما فيها، وخير ما أرسلت به، وأعوذ بك من شرها، وشر ما فيها، وشر ما أرسلت به "، قالت : وإذا تَخَيَّلت السماء، تغير لونه، وخرج ودخل، وأقبل وأدبر، فإذا مطرت، سُري عنه، فعرفت ذلك في وجهه، قالت: فسألته، فقال: " لعله، يا عائشة كما قال قوم عاد:{ فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا}. الحديث.

ومعنى " تَخَيَّلت السماء ": تهيأت للمطر، فأغامت ورعدت وبرقت.

  وعن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: " كانت الريح الشديدة إذا هبت عرف ذلك في وجه النبي صلى الله عليه وسلم".(3)

    وعن أبي هريرة رضي الله عنه، أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: " الريح من روح الله ، تأتي بالرحمة، وتأتي بالعذاب، فلا تسبوها، وسلوا الله من خيرها، وعوذوا بالله من شرها". (4)

    وكان " عبد الله بن الزبير " إذا سمع الرعد ترك الحديث وقال : "سبحان الذي يسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته، ثم يقول : إن هذا لوعيد شديد لأهل الأرض".(5)

     وفي صحيح البخاري ومسلم، أن الشمس خسفت يوم موت إبراهيم ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت الناس: إن الشمس خسفت لموته، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته، ولكن الله تعالى يخوف بهما عباده".

  زاد مسلم: " فإذا رأيتم كسوفًا، فاذكروا الله حتى ينجليا ".

   وفي رواية عند البخاري: " إنهما آيتان من آيات الله لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتموهما فافزعوا إلى الصلاة".

  فالواجب على المسلم عند رؤية هذه الآيات الربانية الفزع إلى الصلاة (6)، والمسارعة بالتوبة والانابة، لأنها ما نزلت إلا عقوبة من الله تعالى لمن عصاه وخالف أمره.

  أخرج ابن أبي شيبة في مصنفه بسند صحيح عن صفية ابنة أبي عبيد الثقفية ـ زوج عبد الله بن عمر ـ  قالت : "زلزلت الأرض على عهد عمر حتى اصَطَفقتْ السُّرَرُ ، فوافق ذلك عبد الله بن عمر وهو يصلي فلم يدر، قال : فخطب عمر الناس، فقال : " لئن عادت لأخرجن من بين ظهرانيكم ".

  وعند ابن أبي الدنيا في العقوبات أنه قال: " أيها الناس ، ما كانت هذه الزلزلة إلا عن شيء أحدثتموه ، والذي نفسي بيده لئن عادت لا أساكنكم فيها أبدًا ".

   وقد قال أنس بن مالك لعائشة رضي الله عنها : حدثينا يا أم المؤمنين عن الزلزلة ، فقالت : "يا أنس  ... إن  المرأة إذا خلعت ثيابها في غير بيت زوجها هتكت ما بينها وبين الله من حجاب، فإن تطيبت لغير زوجها كان عليها نار وشنار، فإذا استفحلوا في الزنا، وشربوا الخمور مع هذا، وضربوا المعازف، غار الله في سمائه، فقال : تزلزلي بهم، فإن تابوا ونزعوا وإلا هدمها الله عليهم"، فقال أنس: عقوبة لهم؟ قالت : " بل رحمة وبركة وموعظة للمؤمنين، ونكالًا وسخطة وعذابًا على الكافرين ". (7)

  وقال جعفر بن برقان : " كتب إلينا عمر بن عبد العزيز : " أما بعد ، فإن هذا الرجف شيء يعاقب الله تعالى به العباد... ، فمن كان عنده شيء فليصدق ، قال الله عز وجل : { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى }. (8)

فهذا الآيات من الزلازل والأعاصير تنزل بالناس بما أصابوا من المعاصي والآثام.

قال الله تعالى: { وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ }. [الشورى: 30].

وقال سبحانه: { مَّآ أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ الله وَمَآ أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ }. [ النساء : 79 ] .

  فالمصائب والبلايا والفتن تنزل بالناس بسبب شؤم معاصيهم ومخالفتهم لأوامر الله تعالى، فإذا نزلت شملتهم فلم تميز بينهم، فتشمل الصغير والكبير، والغني والفقير، والقوي والضعيف.

  قالت أم المؤمنين "زينب بنت جحش" رضي الله عنها: " يا رسول الله : أنهلك وفينا الصالحون ؟ قال : " نعم إذا كثر الخبث". [متفق عليه].

  ومن فقه الإمام البخاري عليه الرحمة أنه افتتح كتاب الفتن من صحيحه والذي جمع فيه جملة من أحاديث  الرسول صلى الله عليه وسلم في السمع والطاعة لولاة الأمور والتحذير من الخروج عليهم، افتتحه بقوله تعالى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}، كأنه ينبه أن الفتنة التي تنشأ من مخالفة هذا الأصل لن تتوقف عند من خالفها وخاض فيها وحسب، بل تشمل غيره من الأبرياء، والله أعلم.

   وهذا هو قدر الله تعالى بهذه الأمة، أنها لحمة واحدة .. وجسد واحد، إذا أخذت بأسباب النجاة فازت ونصرها الله، وإلا كان الخسران والدمار.

    يقول الرسول صلى الله عليه وسلمكما عند البخاري في صحيحه: "مثل القائم على حدود الله والواقع فيها، كمثل قوم استهموا على سفينة، فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم، فقالوا : لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقا ولم نؤذ من فوقنا، فإن يتركوهم وما أرادوا = هلكوا جميعًا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا، ونجوا جميعًا ".

     وعند البخاري أيضًا من حديث عائشة رضي الله عنها، قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يغزو جيش الكعبة ، فإذا كانوا ببيداء من الأرض، يخسف بأولهم وآخرهم"

قالت : قلت : يا رسول الله، كيف يخسف بأولهم وآخرهم، وفيهم أسواقهم، ومن ليس منهم؟ قال : " يخسف بأولهم وآخرهم، ثم يبعثون على نياتهم ". الحديث.

  فالفتن والبلايا إذا نزلت عمت ولم تميز، إلا أن الله لا يُظلم عنده أحدا.

    كما أن هذه الفتن تمحص الناس وتبين معادنهم، وقد شاهد الناس في زلزل سوريا الأخير.. هذه المرأة التي أبت أن تخرج من تحت الأنقاض إلا أن يأتوا لها بحجاب تستتر به، فرفضت أن تخرج سافرة في هذا الموقف الرهيب.

وهذه الفتاة الصغيرة التي لعلها لم تبلغ العاشرة بعد، والتي عندما سئلت بعد أن أخرجوها ما أكثر ما أحزنكِ؟

    قالت: أنها لم تصل هذه المدة، مع التزمها بالصلاة على الرسول صلى الله عليه وسلم طوال فترة حسبها تحت الانقاض.

  هذا؛ ولا يتصور أنه يستطيع المرء ترتيب مثل هذه الصورة ليظهر بين الناس أنه من أهل الاستقامة والصلاح ؛ لأنه عند الموت والفزع لا يستطيع الإنسان التفكير إلا في النجاة والخلاص من هذا الهلاك الذي يحيط به. 

  بيد أن ما ظهر في مثل هذه الحالات، إنما هو تثبيت من الله تعالى لمن التزم شرعه قبل هذه المحنة.

  يقول الله تعالى: { يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} .[إبراهيم: 27].

  فالمرأة المحافظة على حجابها يسترها الله في الدنيا قبل الآخرة، وكذا من يحافظ على صلاته يحفظه الله بها، وقد نصح رسول الله صلى الله عليه وسلم لابن عباس فقال: " احفظ الله يحفظك". [رواه أحمد والترمذي بسند حسن].

فالخلاصة:

  فـإن  لله عز وجل حكمة بالغة في كل ما خلق، وقد يعجز كثير من الخلق عن فهم  وإدراك هذه الحكمة؛ لأنه ربما تكمن الرحمة فيما ظاهره العذاب .. كما في آية الزلازل .

    فإن الزلازل ظاهرها الفساد والدمار ، وباطنها الرحمة، إذ أنها تذكيرا من الله سبحانه لعباده بالزلزلة الكبرى، زلزلة يوم القيامة .. حتى لا يغفلوا عنها وتغرهم الحياة الدنيا عن هذا اليوم العصيب وما سيترتب بعده من خلود في نار أو جنة.

  كما أن فيها تخويفا وترهيبا لعباده العصاة حتى يرجعوا ويتوبوا إليه، وتذكيرا لمن كفر بالله وألحد أنه  لا يقف أمام بأسه شيء، وأنه لو أرد أهلكهم كما أهلك أمما ممن قبلهم ، وساعتئذ لن تنفعهم علومهم الدنيوية.

   وفيها أنها من البلاء الذي ينزله الله بعباده بسبب ذنوبهم، وأن هذا البلاء وتلك العقوبة إذ نزلت بالناس شملتهم وعمتهم ولم تفرق بينهم، فعليهم المسارعة بالتوبة والإنابة لأنه ما نزل بلاء إلا بذنب.. وما رفع إلا بتوبة.

فنسأل الله أن يتوب علينا وعلى جميع المسلمين، وأن يرفع عنا البلاء ، ولا يؤخذنا بما فعل السفهاء منا.

وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

وكتب

أبو صهيب وليد بن سعد

القاهرة 26 / رجب / 1444 هـ

17 / 2 / 2023 م

الهامش ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 (1): رواه البخاري.

(2): رواه ابن حبان في صحيحه، والحاكم في المستدرك، وقال: صحيح على شرط الشيخين ، ولم يخرجاه؛ وقال الذهبي في مختصره: لم يخرجا لأرطاة وهو ثبت، والخبر من غرائب الصحاح، وصححه الشيخ الألباني.

(3): رواه البخاري.

(4): صحيح، رواه أبو عوانة في مستخرجه، وابن حبان في صحيحه، والحاكم في المستدرك، وأحمد في المسند، والبخاري في الأدب المفرد، ورجاله ثقات رجال الصحيح، خلا ثابت بن قيس الأنصاري الزرقي، فإنه ثقة مشهور، وثقه النسائي.

 فائدة: ثابت بن قيس هذا تفرد بالرواية عنه الزهري، وليس له إلا هذا الحديث الفرد فيما أعلم، فهو في عرف من اشترط رفع الجهالة برواية اثنين  = مجهول، ومع ذلك وثقه النسائي، وقال ابن مندة: مشهور من أهل المدينة، وأخرج حديثه ابن حبان في صحيحه، فقضية اشتراط رفع الجهالة برواية اثنين عن الراوي أو توهين حديثه لم تكن بهذه الصورة عند المتقدمين ، فانتبه!.

(5): رواه مالك في الموطأ بسند صحيح، والبخاري في الأدب المفرد بسند حسن.

(6): الثابت في السنة أن الصلاة عند كسوف الشمس أو القمر، أما الزلازل والأعاصير وغيرها من الآيات لم يثبت فيها صلاة، والله أعلم.

(7): رواه نعيم بن حماد في الفتن، وعنه ابن أبي الدنيا في العقوبات، والحاكم في المستدرك، وقال: " هذا حديث صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه"!!، وليس كما قال ـ عفا الله عنا وعنه ـ ، فإنه تفرد به بقية بن الوليد الحمصي ، عن يزيد بن عبد الله الجهمي، و"بقية" وإن كان ثقة، إلا أن حديثه يُرد أن حدث عن المجاهيل، ويزيد هذا منهم.

 ويستأنس بحديثه هنا من باب قول سفيان بن عيينة: "لا تسمعوا من بقية ما كان في سُنة، و اسمعوا منه ما كان في ثواب وغيره". والله أعلم.

(8): رواه ابن أبي الدنيا في العقوبات، وأبو نعيم في الحلية بسند حسن.


الاثنين، 12 ديسمبر 2022

حصان مونديال قطر!

 حصان مونديال قطر!

 الحمد لله وحده،  والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد:

  فإن الذي جعل من قصة حصان طروادة أسطورة تروى عبر العصور، هو أنه = كيف استطاع الإغريق خرق حصار مدينة طروادة الحصينة،  والذي دام عشر سنوات من خلال بناء حصان خشبي ضخم بُني في ثلاثة أيام فقط، وضعوا بداخله بعض الجنود الذين فتحوا أبواب المدينة بالليل لجيشهم بعد أن عبروا أسوار المدينة المحصنة داخل حصانهم الخشبي؟!

  وأصبحت بعدُ قصة حصان طروادة من التكتيك العسكري لغزو المدن المحصنة..

  وهذا عينه ما فعلته الصهيونية العالمية من خلال مونديال قطر، فقد استطاعت من خلال حصان المونديال اختراق حصن منيع في ديار المسلمين.

  فاليهود في الغرب الملحد استغرقوا ما يزيد عن خمسين سنة لإخراج قضية الشواذ والمخنثين بهذه الصورة التي يروج  لها اليوم، واستغرقوا أزيد من ذلك للوصول لما يُسمى بالتحول الجنسي، والذي هو حلقة من نظريتهم الملحدة النشوء والارتقاء والمعروفة بنظرية التطور لداروين.

  فالصهيونية في أمريكا منذ زمن بعيد وهي تقاتل لإخراج قضية الشواذ والمخنثين إلى السطح وأن تكون قضية رأي عام!، حتى وقعت حادثة في عام 1969 م، استغلوها إعلاميا لجعل هؤلاء المخنثين من أصحاب الحقوق التي يكفلها القانون ويُقاتل عليها، ومن ذلك الوقت بدأت تخرج في توقيت هذه الحادثة من كل عام مسيرة لهم .. ترفع شعارهم ويجتمع معهم  فيها من يؤيدهم  من الساسة والمشاهير!.

  وصورة هذه المسيرات معروفة مشهورة اليوم ..يُسلط عليها الإعلام عندما تملئ بعض ميادين تركيا وبعض العواصم الأوربية.

  وربما يَتعجب البعض كيف استغرقت هذه المسألة كل هذا الوقت في أمريكا وهي دولة منحلة يغلب على  أهلها الفسق والمجون؟

  والحق أن أمريكا بخلاف ما يُروج له، فهي دولة أغلب شعبها متدين ومتعصب لديانتها البروتستانتية، بخلاف أوربة التي يغلب عليها الإلحاد اليوم، ولهذا لم يستغرق الأمر في أوربة كل هذا الوقت الذي استغرقه في أمريكا.

  وقد أصبح القانون في أغلب الدول الأوربية وبعض الولايات الأمريكية يعترف بحقوق المخنثين، وزواج الشواذ جنسيًا، كزواج الرجل بالرجل والمرأة بالمرأة، بل الزواج بالحيوانات، ونكاح المحارم. 

  وقد استطاعوا من خلال الهوس بنظرية التطور تغليف ما يعرف بالتحول الجنسي بغلاف علمي وطبي، وأنه يوجد أُناس لم يَكتمل خلقهم!، و حدث  لهم خلل جيني !، فجعلهم ذكورا في أجساد نساء!، أو نساء في أجساد رجال!.

  فيأتي دور العلم هنا لتصحيح هذا الخلل، ويكمل ويتم هذا التطور، فيقطع قضيب هذه الأنثى التي وجدت نفسها محبوسة داخل جسد رجل، ويخيط مهبل هذا الرجل الذي وجد نفسه محبوسا داخل جسد أثنى كما يبتر ثديه!!.

  وأما التحرش بالأطفال فقد أصبح موضة قديمة؛ إذ ثبت عندهم علميا أن الأطفال وحتى الرضع منهم يستمتعون بالجنس، وأصبح تدريس الجنس وثقافة مجتمع المخنثين والشواذ من مقررات الدراسة الابتدائية في بعض مدارسهم.

  وكل هذا الذي ذكر آنفًا من هذه القذارة والالحاد .. كانت الدول الإسلامية في عافية منه، ولم يكن شيئا من ذلك موضع نقاش حتى من أشد الإعلامين فجورا، إذ أن النظرة الإسلامية لمن يعمل عمل قوم لوط  في ديار الإسلام معروفة، جعلت المخنث من هؤلاء يعيش محبوسا في جلده ـ إن لم يُقدم على الانتحار من شدة غربته واشمئزاز الناس منه ـ .

  حتى هذه الكلمة التي يطلقها العوام عليه جعلته لا يُصرح بحقيقته عند أقرب الناس إليه، وبهذا تَكَونّ هذا الحصن المنيع الذي ذُكر في أول المقال، والذي تعرف الصهيونية العالمية أنها لن تستطيع اختراقه إلا من خلال حصان طروادة جديد.

فجاءت فكرة المونديال والذي رُتب له بدهاء، وأن الغرب معترض على إقامة هذه المسابقة في دول مسلمة تحرم الخمر والشذوذ الجنسي  وهذا المجون الغربي.

  وهذه أول الخدعة، فاليهود تعلم جيدا أن كل فكرة تطرح وليس لها معارض .. نسبة نجاحها وانتشارها ضعيف، بخلاف الفكرة التي تجد معارضة قوية، فهذه تنتشر في وقت أسرع  ويكون لها شعبية ، ويَظهر من يتدين بها ويدافع عنها.

  فالرأسمالية لم تكن لتفرض نفسها على العالم إلا بعد صنع الاشتراكية ودخولها في صراع معها، ثم بيان تهافت الاشتراكية أمام النظام الرأسمالي، وهكذا هي حيلة اليهود دائما..

  فاليهود هنا تعلم جيدا أن قضية الاعتراف بالشواذ والمخنثين  تجد رفضا ونفرة من مجرد طرحها في بلاد المسلمين، فما بالك إن صورت هذا القضية أن الغرب يحاول  فرضها بالقوة على بلاد الإسلام من خلال هذا المونديال. هنا نجد الجماهير التي تخشى من دخول وتسلل هذه الأفكار إلى ديارهم يقاومون بشراسة رد هذا الهجوم. وهو عين ما تريده اليهود!؛ إذ جعل هذا الهجوم من جماهير المسلمين التي تتابع هذا الحدث تُخرج هذه الفكرة من حيز الطرح إلى حيز الواقع المسلم به، وأصبح  الكلام على المخنثين والسحاقيات مادة حوارية تُعقد لها البرامج التلفزيونية، والمناقشات العلمية التي يأتي فيها بالأطباء والمتخصصين ممن يستقون معرفتهم من نظريات الغرب الملحد. (1)

  وأصبح ذكر الشاذ والمتحول جنسيًا يتكرر على الأسماع مما يرفع عنه النكارة مع مرور الوقت.

  وكل ذلك يحفزه في اللاوعي عند الجماهير الغاضبة أدوات اليهود الإعلامية في بلاد المسلمين، وأخص بالذكر هنا قناة الجزيرة القطرية، إذ تصور في هذه المرحلة تعنت الغرب في فرض هذا الأمر على الدول الإسلامية، وأن رؤساء هذه الدول لم تصرح بشيء يدفع هذا العار ، أو التبرؤ من هذه الأجندة الماجنة، بخلاف دولتهم التي نصرت الحق بمنع شعار المثليين من الظهور في المونديال!!، والذي هو في الأصل حصان طروادة الذي أدخل به اليهود هذه القضية خلف أسوار المسلمين.

  وبهذا يُضرب أكثر من عصفور بحجر واحد، فيُصور أن قضية  المخنثين واقع قائم لا مرية فيه في بلاد الإسلام، كما يُغذى دين الخوارج بالتهييج على الحكومات الإسلامية وأنها ترضى بالدياثة ومخططات الأعداء، وهذا كله يدفع هذه الشعوب المغيبة للخروج على دولتهم وتخريبها بأيدهم، ليفوز اليهود من هذا الخراب في المنتهى من خلال الاستحواذ على هذه البلاد اقتصاديا بسبب الفوضى، ثم التسلط عليها عسكريا بعد حين، والله وحده المستعان.

  ثم لن تطول المدة وستبدأ هذه القناة بتحويل هذه القضية من  الدفاع والنقد، إلى التأكيد والرضى بها، بل والدفاع عنها والاحتفال بأهلها، كما تفعل في قنواتها الناطقة باللغة الانجليزية الآن.

  فقناة الجزيرة بلس، تنقل دائما أخبار المخنثين والمتحولين جنسيا ومسيرات الشواذ وتحتفل بمناسباتهم، وكل ذلك بزعم وسطية الإسلام وهدم التشدد وقبول الاخر!.

  أما في قنواتها الناطقة بالعربية فهي الآن في طور جعل هذه القضية قضية رأي عام  لتكون حديث الساعة، وأنه ينبغي علينا مواجهة الواقع وعدم الهروب من الحقيقة، وأن الدول المتقدمة هي من تفعل ذلك، وأما نحن في دول العالم الثالث لا نفلح في المواجهة ولكننا نهرب من الواقع بالإنكار ودس الرأس في الرمال، إلى اخر هذه النغمة المعروفة والتي لا تخفى على الفطن اللبيب.

فالخلاصة:

  أننا كنا في عافية من مجرد طرح ونقاش هذه القذارة والالحاد قبل هذا المونديال القطري .

  وأصبح الآن حتمًا على من أتاه الله العلم أن يبين  حكم الإسلام في من يفعل فعل قوم لوط، وأن الصحابة والفقهاء من بعدهم اتفقوا على قتل اللوطي، كما أن الإسلام لعن الرجل الذي يتشبه بالنساء،  فما بالك بالرجل أن يرضى أن يوطئ كما توطئ النساء؟

  وكَشف أن ما يروج له الغرب بأن هذا خلل في جينات الإنسان تجعله يُقدم على هذا الفعل، ويشتهي موطن الخراءة، أن كل ذلك دجل وتدليس وتلاعب بالعلم.

  فهم أول من كشفوا أن مرض الإيدز بدأ بأن مَكن أحد هؤلاء الشواذ نفسه من قرد في أدغال أفريقيا لما لم يجد في هذه الأرض من يرضى أن ينكحه!، وكان هذا المرض قبل هذه الحادثة منتشرا في عالم الحيوان ، ثم كسرت الحلقة بفاحشة هذا المخنث وبدأ هذا المرض يغزو عالم البشر ويكون من أكثر الأمراض فتكا إذ أنه يقضى على المناعة.

  فهذا كان منهم قديمًا، ثم تغير الكلام في التسعينات، فقالوا: إن الشذوذ  مرض نفسي، وأن الذي يفعل هذه الفعلة الشاذة يحتاج إلى علاج نفسي ودعم.

  والآن تغير الكلام وأصبح الأمر على ما هو مشاهد ومعلوم.

والأمر لله من قبل ومن بعد، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وصلى اللهم على محمد واله وصحبه وسلم. 

وكتب
أبو صهيب وليد بن سعد
القاهرة 12 / جماد أول / 1444 هـ

6 / 12 / 2022 م

هامش ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1): نائب وزير الصحة الأمريكي الحالي في حكومة بايدن رجل متحول لأنثى اسمه  "راشيل ليفين"، وكان قائمًا أو قائمة ( لا أدري .. إن البقرة تشابه علينا) على أبحاث جائحة كورونا، فتأمل!. 


الاثنين، 3 أكتوبر 2022

فتنة العافية!

 


فتنة العافية!


الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد:

  فإنه ربما تجد الواحد منا بسبب هذا البرد القارص يتذكر حال أهلنا في سوريا، ويتأثر بما حل بهم، وما يعانون في مخيماتهم من البرد والمطر وندرة الطعام و...

     ثم تمضي حالة التأثر هذه.. بأن ينتبه أنه ليس بيده شيء!، فيدعو لهم - إن تذكر ! - ، ويدعو على من هيجيهم على الثورة وتخريب وطنهم، ثم يقبل على حاله!.

   كثير منا ذلك الرجل ..

بيد أن الرجل المشرد الذي يعيش قريبا من شارعنا، لا يختلف حاله عن هؤلاء، وربما كان أحوج منهم، لأنه لا يجد من يعتني به، مع ما يغلب على هذه الصنف من الناس من ضعف العقل وعدم الوعي.

  والمرء لا يتصور كيف يتأقلم هؤلاء مع العيش على الأرصفة وتحت الكباري مع الكلاب الضالة وقطاع الطريق؟.

   وكيف يقضي أحدهم حاجته، ومنهم نساء عجائز؟!

   أمور تجعل ما يعانيه غالب هؤلاء من ضعف العقل وعدم الوعي منحة ربانية تستحق الشكر.

  فمن يستطيع أن يعتني بمثل هؤلاء ، فلا يتأخر..

فربما كان غاية النعيم عند الواحد منهم وجبة ساخنة، أو بطانية تصرف عنه شيئا من البرد، أو ملابس ثقيلة، أو فرش ينام عليه، أو حتى من يواسيه بكلمة طيبة أو ابتسامه تذهب عنه بعض ما يعاني!.

   ولعل الحكمة من وجود هؤلاء بيننا، وعلى مرأى منا، أن نتذكر عظيم فضل الله علينا، وما تفضل به علينا من العقل والعافية والستر.

  ونسأله سبحانه أن لا نفتن بما متعنا به في الدنيا، فندخل في عموم قوله :

  {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا}.

              وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

 

وكتب

أبو صهيب وليد بن سعد.

القاهرة ٨ / جمادى الآخرة  / ١٤٤٢ هـ
21/ 1 / 2021


الجمعة، 3 يونيو 2022

التبيان في معنى قول النبي أن الإبل خلقت من الشيطان!


 التبيان في معنى قول

 النبي أن الإبل خلقت من الشيطان!

 

    الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد:



   فإنه قد كَثر سؤالي أخيرًا عن معنى قول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " أن الإبل خلقت من الشياطين".

   قلت: والذي ينبغي على الباحث قبل النظر في قول العلماء في شرح هذا الحرف المُشْكل، التأكد من صحة الحديث أولًا.

 وأصل هذه اللفظة وردت في نهي النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن الصلاة في مبارك الأبل.

    والمبارك: جمع مبرك، وهو الموضع الذي تبرك فيه الإبل قريبًا من الماء بعد أن تشرب.
   وأصل الحديث في صحيح مسلم، وفيه: أن " جابر بن سمرة ـ رضي الله عنه ـ قال: سأل رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم أأتوضأ من لحوم الغنم ؟ قال : " إن شئت فتوضأ ، وإن شئت فلا توضأ " قال أتوضأ من لحوم الإبل؟ قال : " نعم فتوضأ من لحوم الإبل " قال : أصلي في مرابض الغنم ؟ قال : " نعم " قال : أصلي في مبارك الإبل ؟ قال : " لا ". الحديث.

  وقد روى هذا الحديث جمع من الأصحاب رضي الله عنهم ، بلفظ مختصر، وهو : " صلوا في مرابض الغنم ، ولا تصلوا في أعطان الإبل".

  وشارك جابر بن سمرة في روايته: "عبد الله بن عمر، وأبو هريرة، وأنس بن مالك، والبراء بن عازب، وسبرة بن معبد الجهني ، وعبد الله بن مغفل ، رضي الله عنهم جميعًا، كما قال الترمذي الإمام في جامعه.

  إلا أن هذه اللفظة موضوع البحث لم تأت إلا في حديث عبد الله بن مغفل وحده.

   وحديثه عند أحمد في مسنده وابن حبان في صحيحه، وابن ماجة في سننه، وغيرهم .. بسند ظاهره الضعف، إذ أنه من رواية الحسن البصري عن عبد الله بن مغفل رضى الله عنه، والحسن مدلس وقد عنعنه، إلا أن سماعه من عبد الله بن مغفل صحيح كما قال الإمام أحمد ـ رحمه الله ـ .

   وعند ابن حبان في صحيحه والطبراني في الأوسط أن أبا سفيان بن العلاء، سأل الحسن عن من حدثك أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : ( لولا أن الكلاب أمة من الأمم لأمرت بقتلها ؟ ) فقال : عبد الله بن المغفل والله الذي لا إله إلا الله حدثني في هذا المسجد وأومأ إلى مسجد الجامع.

   قلت: وحديث "لولا أن الكلاب أمة من الأمم ..." جاء في صحيح ابن حبان ومسند الروياني بسند صحيح أن الحسن ضم إليه حديث النهي عن الصلاة في مبارك الإبل.

  فشبهة الانقطاع والتدليس ممتنعة هنا؛ وقد رواه عن الحسن خمسة عشر رجلا  كما قال ابن عبد البر ، وذكره ابن رجب في فتح الباري ( 2 / 420).

 ومع أن ما بين أيدينا من المصادر ليس فيها هذا العدد من الرواة، إلا أن هذه اللفظة اضطربت في حديثهم ..

   فرواه أحمد وعبْدِ بن حُميد في مسنده والبيهقي في الكبرى عن قتادة بدون هذه الزيادة، وروى الحديث النسائي في الكبرى عن أشعث بن عبد الملك الحمراني بدونها أيضا.

  وسند عبْدِ بن حُميد والنسائي والبيهقي صحيح، وحديث أحمد حسن إن شاء الله.

  ورواه بهذه الزيادة ابن أبي شيبة في مصنفه، وعنه ابن ماجة وابن حبان من حديث يونس بن عبيد، وسنده صحيح.

   وفي رواية لأحمد بسند حسن من طريق عبيد الله بن طلحة الخزاعي، فيها : "فإنها من الجن خلقت، ألا ترون عيونها وهبابها إذا نفرت ؟".

هذا، وجاء بألفاظ أخرى ضربت عليها لضعف سندها.

  وقد تراجع الشيخ الألباني ـ رحمه الله ـ عن تصحيح هذه اللفظة كما في ضعيف موارد الظمآن " 25 / 335 " - وتخريج " حقيقة الصيام ص 47".

   بيد أنه صح الحديث بلفظ قريب من حديث البراء بن عازب ، قال : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصلاة في مبارك الإبل ؟ فقال : " لا تصلوا في مبارك الإبل فإنها من الشياطين". رواه أحمد وأبو داود بسند صحيح.

   وليس فيه أنها "خلقت من الشياطين"، وإنما "من الشياطين".


   وعلى كُلٍ فإن من صحح الحديث بهذه اللفظة المُشكلة له تأويلات عليها تظهر أنها ليست على ظاهرها، ولعل أحسنها ما ذكره ابن حبان في صحيحه، قال:

  "ذكر خبر قد يوهم من لم يحكم صناعة الحديث أن الزجر عن الصلاة في أعطان الإبل إنما زجر لأنها من الشياطين خلقت" ؛ ثم ذكر الحديث، ثم قال: " قوله صلى الله عليه و سلم : ( فإنها خلقت من الشياطين ) أراد به أن معها الشياطين، وهكذا قوله صلى الله عليه و سلم :

( فليدرأه ما استطاع فإن أبى فليقاتله فإنه شيطان ) ثم قال في خبر صدقة بن يسار عن ابن عمر : ( فليقاتله فإن معه القرين )

   قلت: يقصد حديث مقاتلة المصلى لمن يمر بين يديه، لأن هذا المار يكون معه قرينه، وهذا القرين شيطان يقطع صلاة المسلم.

   ثم قال ـ رحمه الله ـ : "ذكر البيان بأن قوله صلى الله عليه و سلم :

( فإنها خلقت من الشياطين ) لفظة أطلقها على المجاورة لا على الحقيقة" ؛ ثم ذكر حديث حمزة بن عمرو الأسلمي قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ( على ظهر كل بعير شيطان فإذا ركبتموها فسموا الله ولا تقصروا عن حاجاتكم ). قلت: وسنده حسن.

   وقال ـ رحمه الله ـ أيضا : "ذكر خبر ثان يصرح بأن الزجر عن الصلاة في أعطان الإبل لم يكن ذلك لأجل كون الشيطان فيها"

    ثم روى عن سعيد بن يسار أنه قال: كنت أسير مع عبد الله بن عمر بطريق مكة فلما خشيت الصبح نزلت فأوترت فقال: أليس لك في رسول الله صلى الله عليه و سلم أسوة ؟ فقلت : بلى والله، قال : فإن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان يوتر على البعير". [حديث صحيح]

   ثم عقب  ـ رحمه الله ـ : "لو كان الزجر عن الصلاة في أعطان الإبل لأجل أنها خلقت من الشياطين لم يصل صلى الله عليه و سلم على البعير إذ محال أن لا تجوز الصلاة في المواضع التي قد يكون فيها الشيطان ثم تجوز الصلاة على الشيطان نفسه بل معنى قوله صلى الله عليه و سلم : ( إنها خلقت من الشياطين ) أراد به أن معها الشياطين على سبيل المجاورة والقرب". اهـ

   قلت: ومن هذا الباب أيضًا أمره ـ صلى الله عليه وسلم ـ بقتل الكلب الأسود البهيم، وقتل حيات البيوت بعد أن تنذر ثلاثة أيام، وعلل ذلك بأنها شيطان، والحديثان في صحيح مسلم.

   هذا؛ وقد أحسن أيضًا ابن قتيبة والمناوي و العظيم آبادي، وغيرهم في تأويل الحديث على وجه سائغ.
  وقد رأيت أن الشيخ "عبد المحسن العباد" جمع أقولهم وزاد عليها في شرحه على سنن أبي داود، فنكتفي بذكر قوله هنا، قال  ـ حفظه الله ـ :

    " المقصود بقوله: (فإنها من الشياطين) يعني: أن الإبل فيها شدة، وفيها غلظة، وفيها نفار، وإذا حصل منها نفور فإنها تؤذي أو تتلف من يكون حولها، ومن يكون معها في معاطنها ومباركها.

   والمعاطن هي: المبارك التي تختص بها، والتي إذا شربت الماء بركت فيها، يعني: ما حول المكان الذي تشرب منه يقال له: معاطن الإبل، فلو حصل لها شيء ينفرها فإنها تتلف من حولها، وتؤذي من حولها إذا لم تتلفه.

 ولهذا جاء التفريق بين أصحاب الإبل وأصحاب الغنم؛ لأن أصحاب الإبل عندهم الغلظة، وعندهم التكبر، كما جاء في بعض الأحاديث، وأصحاب الغنم عندهم السكينة والهدوء، والرسل الكرام عليهم الصلاة والسلام كانوا يرعون الغنم، وهي ذات سكينة وهدوء، ورعاية الإبل أو الاشتغال بالإبل فيه غلظة وفيه قوة؛ لأن فيها قوة، وفيها قسوة، فصاحبها يكون فيه شبه بها من حيث القسوة، ولهذا فإن أهل الإبل هم أهل الكبر وأهل الخيلاء، بخلاف أهل الغنم فإنهم أهل سكينة وأهل وقار، كما جاء ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. فإذاً: قوله فيها: (فإنها من الشياطين)، أي: أنها فيها من صفات الشياطين، وهي الغلظة والشدة والنفرة، وأنها تؤذي من حولها، ومنهم من يقول: إنها من الشياطين معناه: أن الذي فيه عتو وفيه قوة وفيه غلظة يقال له: شيطان، فما كان من الإبل ومن الإنس والجن والدواب وما حصل منه عتو وإيذاء وما إلى ذلك فإنه يوصف بهذا الوصف ويقال له: شيطان، فقوله: (إنها من الشياطين) يعني: أن عندها الغلظة والشدة والقسوة، وأن كل من عتا من الإنس والجن والدواب يوصف بهذا الوصف. أو أنها ذات نفار، وذات غلظة وجفوة، وأنها إذا حصل منها نفور فإنها تتلف من يكون حولها، وليس ذلك لنجاسة أرواثها وأبوالها فإن أرواثها وأبوالها طاهرة، وكل مأكول اللحم فإن روثه وبوله طاهر، والدليل على ذلك إذن الرسول صلى الله عليه وسلم للعراينين بأن يشربوا من أبوال الإبل وألبانها، فلو كانت أبوالها نجسة ما أذن لهم الرسول صلى الله عليه وسلم بالشرب من الأبوال للاستشفاء؛ لأنه لا يتداوى بحرام، كما جاءت في ذلك السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأيضاً ما جاء أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف على بعير، وأدخله المسجد، ولا يؤمن من حصول الروث منه وحصول البول منه، فهذا يدل على طهارة بوله وروثه؛ لأنه لا يعرض المسجد لأن يحصل فيه ما ينجسه بأن يدخل فيه شيئاً أبواله نجسه وأرواثه نسجه، بل الأبوال طاهرة والأرواث طاهرة". اهـ 

وقال في موضع اخر:

   " وقد أورد أبو داود رحمه الله حديث البراء بن عازب رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الصلاة في مبارك الإبل فقال: (لا تصلوا في مبارك الإبل فإنها من الشياطين). وقوله: [(فإنها من الشياطين)] المقصود من ذلك ما في الإبل من الشدة والغلظة ونفرة الطباع، وهذه الشدة والغلظة صفات من صفات الشياطين، وليس معنى ذلك أن مادتها كمادة الشياطين؛ لأن الشياطين خلقت من نار والإنس أصل مادتهم من تراب. فإذاً: ليس كونها من الشياطين بمعنى أنها خلقت من مادة الشياطين، وإنما المقصود من ذلك أنها من جملة الشياطين أو من جنس الشياطين المتمردة، والمتمرد من الإنس والجن يقال له: شيطان، فالإنس فيهم شياطين والجن فيهم شياطين، وهم المتمردون الذين عندهم الخبث وعندهم السوء وعندهم الشدة وعندهم الغلظة وعندهم الأذى.

    فإذاً: هذا هو المقصود بكونها من الشياطين، ولهذا فإنه إذا حصل منها شيء والناس حولها يصلون في معاطنها وفي مباركها فإنه يحصل لهم بسببها ما يحصل من الضرر، وكذلك لو كانت ليست في مباركها ومعاطنها فيمكن أن تأتي والناس يصلون في معاطنها ومباركها فيحصل التأثير، وعلى هذا فإن المنع من الصلاة في مبارك الإبل ليس لنجاسة أبوالها وأرواثها، فإنها طاهرة، ولكن لما جاء فيها من وصف الشدة وأنها من الشياطين، أي: فيحصل منها الأذى ويحصل منها الضرر لمن يصلي في مباركها ومعاطنها، سواء أكانت موجودة فيها أم كانت في طريقها إليها أم كانت حولها، فإنه إذا صلى فيها أحد قد تأتي إلى مباركها فيحصل لمن يصلي حولها التشويش على الأقل في صلاته إن لم يحصل له شيء من الضرر بكونها تخبطه أو يحصل له ضرر بفعلها". اهـ

 

  قلت: وهذا الذي ذكره الشيخ ممتنع في الصلاة في مرابض الغنم، فإنها حتى إن هاجت فلن يتأذى منها المصلى حال صلاته، بل في المتفق على صحته عن أنس بن مالك قال : " كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي ، قبل أن يبنى المسجد ، في مرابض الغنم".

وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

وكتب

أبو صهيب وليد بن سعد

القاهرة 3 / ذو القعدة / 1443

2 / 6 / 2022