نور البيان في ضعف أحاديث فضائل النصف من شعبان
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا
نبي بعده، أما بعد:
فإن من أعظم الكذب أن يُنسب إلى رسول الله
-صلى الله عليه وسلم- القول الذي لم يقل؛ وذلك لأن نسبة القول إلى الرسول -صلى
الله عليه وسلم- يترتب عليها قضايا تعبدية من قول أو عمل، وربما وصل الأمر إلى دماء
وقصاص إن كان هذا القول في حد من حدود الله، وهذا كله لا يكون إلا بوحي معصوم.
يقول واثلة بن الأسقع -رضي الله عنه- :
قال نبي الله صلى الله عليه وسلم : " إن من أعظم الفرى أن يُدْعَى الرجل إلى
غير أبيه، أو يُري عينيه في المنام ما لم تريا، أو يقول: على رسول الله صلى الله
عليه وسلم ما لم يقل". [أخرجه أحمد والبخاري].
فمن باب الذب عن رسول الله -صلى الله
عليه وسلم- بنفي ما نُسب إليه ولم يصح عنه، وضعت منذ عدة سنوات بحث "الجمع
اللطيف لما اشتهر من ضعيف الحديث"، وقد ارتأيت أن أعيد النظر فيه، وأضيف إليه
بعض الفوائد التي لم أذكرها في المرة الأولى طلبًا للاختصار.
فاستوقفني طريق لحديث ضعيف ذكرته في
البحث، وهو: " إن الله تعالى ينزل ليلة النصف من شعبان إلى السماء الدنيا،
فيغفر لأكثر من عدد شعر غنم كلب ". رواه الفاكهي في أخبار مكة، من طريق
الحجاج بن أرطاة، عن مكحول، عن
كثير بن مرة الحضرمي، عن عائشة، ترفعه..
وحديث "شعر غنم كلب" هذا، إنما
مخرجه من حديث الحجاج، عن يحيى بن أبي كثير، عن عروة، عن عائشة -رضي الله عنها- .
وإنما مكحول يدور عليه حديث أخر في فضل ليلة
النصف من شعبان كنت أظن صحته عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لتصحيح أحد
العلماء له.
أقصد حديث:" إن الله يطلع في ليلة
النصف من شعبان فيغفر لجميع خلقه إلا لمشرك أو مشاحن ".
فبدأت بتتبع طرق هذا الحديث، للبحث عن
وجه الصلة بين مكحول الشامي وهذا الحديث الضعيف؟!.
والأمر كما قال "علي بن المديني" رحمه الله: "الباب إذا لم تجمع
طرقه لم يتبين خطؤه".
وقال عبد الله بن المبارك: "إذا أردت أن يصح لك الحديث فاضرب بعضه
ببعض".
وقال يحيى بن معين: "لو لم نكتب الحديث من ثلاثين وجهًا ما عقلناه".
وقال ابن حجر في شرحه على ابن الصلاح: "فالسبيل إلى معرفة سلامة الحديث من
العلة كما نقله المصنف عن الخطيب أن يجمع طرقه، فإن اتفقت رواته واستووا ظهرت
سلامته وإن اختلفوا أمكن ظهور العلة، فمدار
التعليل في الحقيقة على بيان الاختلاف". [النكت (2 / 711)].
قلت: فلما جمعت طرق الحديث توصلت إلى أنه يكاد أن يكون مخرجهما واحدا، وأن هذا
الحديث أيضا غير محفوظ؛ وإنما مخرجه عن مكحول نفسه، أو أنه دلس قائله، والذي غالب
الظن أنه كعب الأحبار كما سيأتي من قول الإمام الدارقطني ـ رحمه الله ـ .
فلما طال تتبع طرق هذا الحديث، خرج عن
مقصود بحث "الجمع اللطيف" المبني على الاختصار، فرأيت أن أفرده بالنشر،
واخراجه من صلب البحث، والاكتفاء بالإشارة فقط، والله هو الموفق والمعين.
هذا؛ وأسأل الله أن يكون هذا العمل خالصا وصوابا.
وصلى الله على محمد وعلى اله وصحبه وسلم.
وكتب
أبو صهيب
وليد بن سعد
القاهرة 11 / جمادى الأولى / 1443
16 / 12 / 2021
بداية البحث:
أخرج أحمد والترمذي وابن ماجة وغيرهم من حديث أم المؤمنين "عائشة" -رضي
الله عنها- مرفوعًا:
"إن الله تعالى ينزل ليلة النصف من
شعبان إلى السماء الدنيا، فيغفر لأكثر من عدد شعر غنم كلب".
قلت: هذا الحديث يرويه الحجاج بن أرطاة، عن يحيى بن أبي كثير، عن عروة، عن عائشة -رضي
الله عنها- .
قال
الترمذي عقبه: "حديث عائشة لا نعرفه إلا من هذا الوجه من حديث الحجاج"،
وسمعت محمدًا [يعني: البخاري]: يُضعف هذا الحديث، وقال : يحيى بن أبي كثير لم يسمع
من عروة، والحجاج بن أرطاة لم يسمع من يحيى بن أبي كثير". اهـ
قلت: فهما مدلسان وقد عنعناه ولم يصرحا بالتحديث في أي طريق آخر.
كما أرسله يحيى بن أبي كثير في شعب البيهقي.
هذا؛ والحجاج بن أرطاة فيه لين، قال فيه يعقوب بن شيبة: "واهي الحديث،
في حديثه اضطراب". ، وقال يحيى:
"ضعيف"، وتوسط فيه أبو حاتم الرازي فقال: "صدوق، يدلس عن الضعفاء يكتب حديثه، فإذا قال: حدثنا، فهو
صالح لا يرتاب في صدقه وحفظه إذا بَيَن السماع، لا يحتج بحديثه".
قلت: وللحديث متابعة أخرجها الفاكهي في أخبار
مكة عن عمرو بن هاشم أبو مالك الجنبي، قال : ثنا الحجاج بن أرطاة، عن مكحول، عن
كثير بن مرة الحضرمي، عن عائشة، فذكره.
قلت: والحجاج لم يصرح بالسماع هنا أيضًا، وإنما
عنعنه كما في الطريق الأول.
وعمرو بن هاشم أبو مالك الجنبي [الكوفي]،
قال البخاري: فيه نظر، وقال أبو حاتم: لين الحديث.
وهناك علة ثالثة، وهي: أن أبا زرعة نفى سماع
الحجاج من مكحول، فقال: " لم يسمع من مكحول شيئًا"، ووافقه العجلي في معرفة
الثقات، فقال: " يرسل عن مكحول ولم يسمع منه شيئًا".
قلت: فلا يتقوى الحديث بهذا الطريق، فالحجاج بن أرطاة لم يسمع من مكحول، كما لم
يسمع من يحيى بن أبي كثير.
فالحديث ضعيف لا تقوم به الحجة.
بيد أن ذكر مكحول الشامي في هذا الطريق يدفعنا
للنظر والتأمل في حديث أخر ورد في فضل ليلة النصف من شعبان، وهو:
"
يطلع الله تبارك وتعالى على خلقه ليلة النصف من شعبان، فيغفر لهم كلهم إلا لمشرك
أو مشاحن".
ومع أن هذا الحديث له عدة طرق، وروي عن
أكثر من صحابي، بيد أننا لا نستطيع القول بصحته، أو تحسينه بمجموع طرقه، لعلتين:
إحداهما: الاضطراب الشديد في متنه، والذي
سببه العلة الثانية: وهو أن طرق الحديث ومخارجه المختلفة لا تخلو من وضاع أو متهم
أو مدلس، أو مخلط وسيء الحفظ، مما يدفع للقول بأن الحديث غير محفوظ.
وهذا يظهر جليا إن عند جمع كلام الأئمة حول
هذا الحديث؛ لأنه لا يَحسن أن يصحح الحديث بمجموع طرقه وشواهده، ويترك كلام الأئمة
على كل حديث منهم برأسه!، فيجمع هذا ويجمع هذا، وينظر فيهما جميعا، والله أعلم.
ولأن مخارج الحديث متشعبة، ذكرت الصحابي
الذي أسند إليه الحديث، مع ذكر متن حديثه، وما في طريقه من علل، وهذا سيعطي فكرة
في النهاية عن تصور ما ذكر آنفا.
ونستأنف طرق حديث عائشة رضي الله عنها، وكلها
فيها قصة!.
الطريق الأول:
ومتنه: "إن الله تعالى ينزل ليلة النصف من
شعبان إلى السماء الدنيا فيغفر لأكثر من عدد شعر غنم كلب".
وقصته: إن عائشة -رضي الله عنها- فقدت الرسول صلى الله عليه وسلم في ليلتها،
فالتمسته فوجدته في البقيع، فذكر لها الحديث.
وهذا الحديث يرويه الحجاج بن أرطاة، عن يحيى بن أبي كثير، عن عروة، عن عائشة- رضي
الله عنها- .
وهذا
الطريق معلّ بثلاثة علل، كما مر.
الطريق
الثاني: رواه البيهقي في شعب الإيمان، ومتنه:
"
أتدرين أي ليلة هذه؟ "، قلت: الله ورسوله أعلم، قال: " هذه ليلة النصف
من شعبان، إن الله عز وجل يطلع على عباده في ليلة النصف من شعبان فيغفر
للمستغفرين، ويرحم المسترحمين، ويؤخر أهل الحقد كما هم ".
وقصته: "إن عائشة قالت: قام رسول
الله صلى الله عليه وسلم من الليل يصلي فأطال السجود حتى ظننت أنه قد قبض، فلما
رأيت ذلك قمت حتى حركت إبهامه فتحرك، فرجعت، فلما رفع رأسه من السجود، وفرغ من
صلاته، قال: " يا عائشة أو يا حميراء ظننت أن النبي خاس بك؟ "، قلت: لا
والله يا رسول الله ولكني ظننت أنك قبضت لطول سجودك ، فذكر الحديث...".
قال الأزهري :" قوله: قد خاس بك، يقال
للرجل إذا غدر بصاحبه فلم يؤته حقه قد خاس به".
قلت: هذا الحديث يرويه معاوية بن صالح، عن
العلاء بن الحارث، عن عائشة.
قال البيهقي في الشعب بعد اخراج الحديث: "
هذا مرسل جيد، ويحتمل أن يكون العلاء بن الحارث أخذه من مكحول والله أعلم، وقد روي
في هذا الباب أحاديث مناكير، رواتها قوم مجهولون، قد ذكرنا في كتاب الدعوات منها
حديثين ".
قلت: والعلاء بن الحارث الحضرمي الدمشقي
من أصحاب مكحول وهو: "ثقة تغير عقله"، كما قال أبو داود ونقله الذهبي.
هذا؛ والعلاء بينه وبين عائشة رضي الله عنها مفاوز، فبينه وبينها في حديث النهي عن
صوم السبت عند النسائي أربع رواة، هم: داود
بن عبيد الله، عن خالد بن معدان، عن عبد الله بن بسر، عن أخته الصماء، عن عائشة،
فتأمل!
وللحديث علة أخرى وهي: أبو عبيد الله ابن
أخي ابن وهب، وهو:"بحشل" أحمد بن عبد الرحمن بن وهب بن مسلم القرشي أبو
عبيد الله المصري.
قال
الذهبي في الكاشف: " قال أبو حاتم: خلط ثم رجع، وقال ابن عدى: رأيت شيوخ
المصريين مجمعين على ضعفه، وكل ما أنكروا عليه فمحتمل لعل عمه خصه به".
قال ابن حجر في التقريب: "صدوق تغير بآخرة".
وعليه: فالحديث ضعيف مرسل لا تقوم به حجة، مع مخالفته للمتن السابق وقصة البقيع.
الطريق الثالث:
رواه الطبراني في الدعاء، والدارقطني في النزول، والبيهقي في الشعب، من حديث:
"عمرو
بن هاشم البيروتي، عن ابن أبي كريمة، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة...
ومتنه: " ... ليلة
النصف من شعبان، ينزل الله عز وجل إلى السماء الدنيا فيغفر لعباده إلا لمشرك
ومشاحن".
وقصته: "إن عائشة قالت : كانت ليلة النصف من شعبان ليلتي، وبات رسول الله صلى
الله عليه وسلم عندي، فلما كان في جوف
الليل فقدته، فأخذني ما يأخذ النساء من الغيرة، فتلفعت بمرطي، ... وطلبته
في حجر نسائه فلم أجده، فانصرفت إلى حجرتي، فإذا به [ك] الثوب الساقط على وجه
الأرض ساجدًا وهو يقول في سجوده :
"
سجد لله سوادي وخيالي وآمن بك فؤادي، هذه يدي وما جنيته بها على نفسي، يا عظيم
رجاء لكل عظيم، اغفر الذنب العظيم، سجد وجهي للذي خلقه وشق سمعه وبصره، ثم رفع
رأسه فعاد ساجدًا، فقال : أعوذ برضاك من سخطك، وبعفوك من عقابك، وبك منك، أنت كما
أثنيت على نفسك، أقول كما قال أخي داود عليه السلام: أعفر وجهي في التراب لسيدي
وحق له أن يسجد ، ثم رفع رأسه فقال : اللهم ارزقني قلبا تقيًا من السوء نقيًا، لا
كافرا، ولا شقيا؛ ثم انصرف، فدخل معي في الخميلة، ولي نفس عالي، فقال : ما هذا
النفس؟ فأخبرته . فطفق يمسح بيده على ركبتي، ويقول : " ويح هاتين الركبتين ما
لقيتا هذه الليلة، فذكره.."
قلت: وهشام بن عمرو البيروتي، قال فيه ابن وارة ومحمد بن مسلم: "ليس
بذاك"، وقال ابن حجر في التقريب: "صدوق يخطئ".
وسليمان بن أبي كريمة الشامي، قال أبو
حاتم في الجرح والتعديل (1466): "محمد بن سليمان بن أبي كريمة عن هشام بن
عروة " ضعيف الحديث" .
وقال
العقيلي في الضعفاء رقم( 627): "يحدث
بمناكير، ولا يتابع على كثير من حديثه منها".
وقال الذهبي في الميزان رقم (3502): سليمان بن أبى كريمة، شامي "ضعفه أبو
حاتم، وقال ابن عدى: عامة أحاديثه مناكير". اهـ
وقال
ابن حجر في الأمالي المطلقة ص/ 121: "سليمان بن أبي كريمة فيه مقال".
والحديث ضعفه ابن الجوزي في العلل
المتناهية رقم (917): وأعله بسليمان هذا، وذكر قول ابن عدي فيه أن أحاديثه مناكير،
وكذا ضعفه ابن الملقن في البدر المنير.
قلت: فالحديث منكر لا تقوم به حجة، مع
مخالفته لقصة البقيع والمتن.
إلا أن الدارقطني ذكر متابعة لهذا الطريق عقب إيراده للحديث، فقال: حدثنا أبو عبيد
الله القاسم بن إسماعيل ، أنا عبد الله بن أبي عبد الله الشيباني، أنا محمد بن
عبادة، أنا حاتم بن إسماعيل، عن نضر بن كثير، عن يحيى بن سعيد، عن عروة، عن عائشة...
قلت: والراوي عن عروة هنا، هو يحيى بن سعيد بن
قيس الأنصاري قاضي المدينة، ثقة ثبت كبير الشأن.
يروي عنه "النضر بن كثير أبو سهل السعدي" -مولى آل حسن- ذكرها أبي الشيخ
في أخلاق النبي، قال أحمد: "ضعيف الحديث، وقال البخاري وأبو حاتم والدارقطني:
"فيه نظر"، وقال ابن حبان: "يروي الموضوعات عن الثقات لا يجوز الاحتجاج به
بحال" .
وعليه: فلا يصح مثل هذا الطريق في
المتابعة، بل أكاد أكون على يقين أن هذا المتن سرق وركب من حديثين في صحيح مسلم،
والله أعلم.
الطريق الرابع:
وقد أخرج هذا المتن بزيادة ونقص البيهقي في
فضائل الأوقات، والدعوات الكبرى من حديث أنس بن مالك يحدث به عن عائشة،
ثم قال في الدعوات بَعده: " في هذا الإسناد بعض من يُجهل وكذلك فيما قبله،
وإذا انضم أحدهما إلى الآخر أخذا
بعض القوة والله أعلم".!!
قلت: يقصد حديث النضر بن كثير السابق
الذي أخرجه الدارقطني في المتابعة، وقد ظهر أن ضعف الحديث لم يكن بسب الجهالة فقط،
ولكن لأن النضر لا يجوز الاحتجاج به لأنه يروي الموضوعات عن الثقات كما قال ابن
حبان.
وأما سند البيهقي الذي معنا هنا، ففيه
علة أقوى من الجهالة، وهي: أن فيه: "سعيد بن عبد الكريم الواسطي"، قال
ابن الجوزي في"الضعفاء والمتروكين (1415)": "سعيد بن عبد الكريم،
روى عنه أبو بكر بن عياش، قال الأزدي: متروك". اهـ
وبه
أعلّ الحديث في [العلل المتناهية (918)]، فقال: "وهذا الطريق لا يصح".
ووفقه على هذا الذهبي في المغني في الضعفاء،
وفي ميزانه (3232)، وذكر الحديث الذي معنا، وكذا فعل ابن حجر في [لسان الميزان
(131)].
كما حكم عليه الزيلعي بالوضع في تخريج
أحاديث الكشاف [(3 / 263) ط. ابن خزيمة]
فقال : "قال ابن دحْيَة في العلم
المَشهُور: "هذا حديث مَوضُوع؛ وإِبرَاهيم بن إِسحَاق هذَا من ولد حنظَلَة
الغسيل، قال فيه ابن حبَان: يقلب الأخبَار ويسرق الحَديث، وشَيخه وهب: أكذب
النَّاس، وسَعيد مَترُوك، وليس فِي ليلة النصف من شعبَان حَدِيث يَصح ذكره أهل
التعدِيل والتجرِيح". اهـ
وعليه: فضعف هذا الطريق أشد من سابقه، وزاد فيه
واضعه قوله:
"
يا حميراء، أما تعلمين أن هذه الليلة ليلة النصف من شعبان؟ إن لله في هذه الليلة
عتقاء من النار بقدر شعر غنم كلب " قلت : يا رسول الله، وما بال شعر غنم كلب؟
قال : " لم يكن في العرب قبيلة قوم أكبر غنمًا منهم، لا أقول ستة نفر: مدمن
خمر، ولا عاق لوالديه، ولا مصر على زنا، ولا مصارم، ولا مضرب، ولا قتات".
قلت: وهذا كله من الكذب البين على رسول
الله صلى الله عليه وسلم.
الطريق الخامس:
وقريبا من حديث أنس هذا، كُذِّب أيضا على
أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه- بحديث أخرجه البيهقي في الشعب، وفيه أن أبا سعيد
الخدري، دخل على عائشة، فقالت له عائشة : "يا أبا سعيد حدثني بشيء سمعته من
رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحدثك بما رأيته يصنع، قال أبو سعيد: كان رسول
الله صلى الله عليه وسلم إذا خرج إلى صلاة الصبح، قال : "اللهم املأ سمعي نورًا،
وبصري نورًا، ومن بين يدي نورًا ، ومن خلفي نورًا، وعن يميني نورًا، وعن شمالي نورًا"
فحدثته عائشة بقصة أنها فقدت الرسول صلى
الله عليه وسلم، فخرجت تطلبه لما أخذتها الغيرة، فوجدته بالبقيع، فقال لها:
"هذه الليلة ليلة النصف من شعبان ولله فيها عتقاء من النار بعدد شعور غنم
كلب، لا ينظر الله فيها إلى مشرك، ولا إلى مشاحن، ولا إلى قاطع رحم، ولا إلى مسبل،
ولا إلى عاق لوالديه، ولا إلى مدمن خمر". الحديث.
قال البيهقي بعده: " هذا إسناد ضعيف وروي
من وجه آخر ".
تنبيه:
قبل النظر في إسناد الحديث، ننبه أن
الدعاء الذي ذُكر في هذا الحديث من أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقوله وهو
خارج إلى صلاة الصبح.
أن هذا الدعاء كان يقوله الرسول صلى الله
عليه وسلم في سجوده في قيام الليل، وليس في الخروج لصلاة الفجر، كما رواه البخاري
ومسلم من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
ولفظه: " اللهم اجعل في قلبي نورا،
وفي بصري نورا، وفي سمعي نورا، وعن يميني نورا، وعن يساري نورا، وفوقي نورا، وتحتي
نورا، وأمامي نورا، وخلفي نورا، واجعل لي نورا".
ولكن مع شديد الأسف أن هذه السنة الصحيحة
استبدلت بما جاء في هذا الحديث الموضوع، بل كثير من الناس لم يجعلها في صلاة الصبح
فقط، بل جعلها سنة في الطريق للمسجد، وإنا لله وإنا إليه راجعون.
وأما إسناد الحديث، ففيه عدة علل:
فالحديث رواه أبو العباس محمد بن يعقوب،
قال: حدثنا محمد بن عيسى بن حيان المدائني، حدثنا سلام بن سليمان، أخبرنا سلام
الطويل، عن وهيب المكي، عن أبي رهم، أن أبا سعيد الخدري
فالعلة الأولى، هي : "محمد بن عيسى
بن حبان المدائني" المعروف "بـابن السكين".
قال ابن حجر في اللسان: قال الدارقطني:
"ضعيف متروك"، وقال الحاكم:
"متروك"، وقال: " حدث عن مشايخه بما لا يتابع عليه، وسمعت من يحكي أنه كان
مغفلًا لم يكن يدري ما الحديث؟". وقال اللالكائي: "ضعيف ".
والثانية: "سلام بن سليمان بن سوار
الثقفي مولاهم أبو العباس المدائني الضرير".
قال أبو حاتم: "ليس بالقوي"، وقال
ابن عدي: " هو عندي منكر الحديث"، وقال العقيلي: "لا
يتابع على حديثه"، وقال الذهبي في الكاشف: "له مناكير".
والثالثة: سلّام الطويل التميمي السعدي
أبو أيوب المدائني.
قال
أحمد بن حنبل: "روى أحاديث منكرة"، وقال البخاري: "يتكلمون فيه .
وقال في موضع آخر : "تركوه"، وقال أبو حاتم: "ضعيف الحديث تركوه"،
وقال النسائي: "متروك"، وقال عبد الرحمن بن يوسف بن خراش: "
متروك . وقال في موضع آخر :
كذاب".
الطريق السادس:
وروى ابن الجوزي في العلل المتناهية
(919)، حديثًا من رواية سعيد بن الصلت عن
عطاء بن عجلان عن عبد الله بن أبي
مليكة عن عائشة، ومتنه:
" هذه ليلة يعتق الله فيها من النار أكثر من عدد شعر غنم كلب، ويطلع الله
فيها إلى أهل الأرض فيغفر فيها لمن يشاء، إلا أنه لا يغفر لمشرك ولا لمشاحن وتلك
ليلة النصف من شعبان".
قال عَقِبه: "تفرد به عطاء بن
عجلان، قال يحيى: "ليس بشيء، كذاب كان يوضع له الحديث فيحدث به". وقال
الرازي: "متروك الحديث"، وقال ابن حبان: "يروي الموضوعات عن الثقات
لا يَحل كتب حديثه إلا على جهة الاعتبار".
الطريق السابع:
وبهذا يتبقى طريق أخير لروايات عائشة رضي الله
عنها أخرجه أبو بكر الإسماعيلي في مسند شيوخه مختصرًا (71)، من طريق
مطرف بن طريف الحارثي، عن الشعبي،
عن عروة، عن عائشة:
ومتنه: " إن الله ينزل في النصف من
شعبان إلى السماء الدنيا، فيعتق من النار عدد معزى كلب -أو قال : شعر معزى كلب-
وينزل أرزاق السنة، ويكتب للحاج، ولا يترك أحدا إلا غفر له، إلا قاطع رحم، أو
مشركا، أو مشاحنا ".
قلت: وهذا الحديث لا يقل ضعفا من سابقيه.
ففيه: " عبد الرحمن بن محمد بن عبيد الله العرزمي"، قال أبو حاتم:
"ليس بالقوي، وضعفه الدارقطني".
يرويه عنه: "عباد بن أحمد بن عبد
الرحمن العرزمي"، قال الدارقطني: "متروك".
هذا، وقد روي أحاديث آخر عن عائشة مرفوعة
وموقوفة، أعرضت عنها لأن أسانيدها لا تَقل ظلمة عن هذه، فمدارها على الوضاعين
والمجاهيل، والله المستعان.
الصحابي الثاني:
كما يروى الحديث عن أبي بكر رضي الله عنه
مرفوعًا، ومتنه:
" إذا كان ليلة النصف من شعبان ينزل الله تبارك وتعالى إلى سماء الدنيا فيغفر
لعباده إلا ما كان من مشرك أو مشاحن لأخيه".
أخرجه: ابن أبي عاصم في السنة، وابن أبي الدنيا في فضائل رمضان، والدارمي في الرد
على الجهمية، وابن خزيمة في التوحيد، وابن بطة في الإبانة، والبزار، والدارقطني في
النزول، والعقيلي في الضعفاء،وغيرهم.
جميعًا من طريق: عبد الله بن وهب، عن عمرو بن الحارث، عن عبد الملك بن عبد الملك،
عن مصعب بن أبي ذئب، عن القاسم بن محمد، عن أبيه، أو عن عمه ، عن جده أبي بكر،
مرفوعا:
قلت: تفرد به : عبد الملك بن عبد الملك
هذا
ومع
ذلك اضطرب المتن عليه واختلف، فجاء مرة كما في هذه الرواية:
"
فيغفر [لعباده] إلا ما كان من مشرك أو مشاحن [لأخيه]. وهذه عند البزار وحده، تفرد
بلفظة : "لأخيه"
لأن الدارمي رواه في الرد على الجهمية:
" فيغفر [لكل نفس] إلا مشرك بالله ومشاحن".
وشارك الفاكهي في أخبار مكة الدارمي في
لفظة: [لكل نفس]، إلا أن تتمة الحديث عنده: " إلا لإنسان في قلبه شحناء أو
مشرك بالله".
وجاء بلفظ: " فيغفر [لكل شيء] إلا
رجل مشرك أو في [قلبه شحناء]". وهذه عن البيهقي في الشعب.
وعنده أيضًا والدارقطني في النزول: " [لكل
نفس] إلا [إنسانا] في قلبه شحناء أو مشركا بالله".
شاركهم في هذه الرواية ابن أبي عاصم في السنة،
إلا أنه قال: "أو مشرك بالله عز وجل".
وفي رواية الدارقطني: [أو شِرك بالله عز
وجل]، بدلا من "مشركا بالله".
وفي رواية أخرى للدارقطني: " فيغفر
فيها [لكل بشر] ما خلا[ كافرا] أو رجلا في قلبه شحناء"، وشاركه فيها ابن بطة
في الإبانة، واللالكائي في شرح أصول الاعتقاد .
ورواه أبو نعيم في أخبار اصبهان، وفي
طبقات المحدثين: "فيغفر لكل بشر ما خلا [مشركا] بدلا من [كافرا]".
قلت:
لعل أحدهم يذهب إلى أن هذا الاختلاف محتمل، فهو من تصرف الرواة إذ يرونه بالمعنى.
قلت: يتبقى العلة الأصلية وهي أن الحديث كما مر تفرد به "عبد الملك بن عبد
الملك"، قال البيهقي: "وهو من ولد ابن حميد"، قال البزار: "
ليس بمعروف".
وكذلك حكم عليه بالجهالة أبو حاتم الرازي، فقد قال في [الجرح والتعديل/ رقم :1418]
بعد أن ذكر هذا الإسناد:"
لا يعرف منهم إلا القاسم بن
محمد".
وقال البخاري في تاريخه (1379): "في حديثه نظر "
ونبه العقيلي في الضعفاء (984) أن البخاري يعني هذا الحديث.
وقال فيه ابن حبان في المجروحين (737 ):
"منكر الحديث جدا، يروي مالا يتابع عليه، فالأولى في أمره ترك ما انفرد به من
الأخبار".
وقال
ابن عدي في الكامل (1460): " وعبد الملك بن عبد الملك معروف بهذا الحديث، ولا يرويه
عنه غير عمرو بن الحارث، وهو حديث منكر بهذا الإسناد".
وقال الدارقطني في رواية البرقاني عنه:
"مدني، متروك".
وذكر البزار علة أخرى للحديث، فقال بعده:
"وهذه الأحاديث التي ذكرت عن محمد بن أبي بكر، عن أبيه في بعض أسانيدها ضعف،
وهي عندي والله أعلم مما لم يسمعها محمد بن أبي بكر من أبيه لصغره، ولكن حدّث بها
قوم من أهل العلم، فذكرنا، وبينا العلة فيها".
قلت: فهذا الطريق ضعفه كما مر:
"البخاري، وابن حبان، والدارقطني، والبزار، والعقيلي، وابن عدي،
وغيرهم".
وقال ابن الجوزي في العلل المتناهية رقم:
(916): " هذا حديث لا يصح ولا يثبت، قال ابن حبان: عبد الملك يروي
ما لا يتابع عليه".
قلت: ومع هذا فليس علة هذا الحديث عبد
الملك هذا وحده، بل لم يَسلم أيضا باقي رجال الإسناد، ففيهم المجهول، والضعيف،
والكذاب
ك" علي بن قرين" في طريق أبي نعيم الأصبهاني. اهـ
الصحابي الثالث:
ويروى الحديث عن أمير المؤمنين علي بن
أبي طالب رضي الله عنه، يرفعه، ومتنه: " إذا كانت ليلة النصف من شعبان ،
فقوموا ليلها وصوموا نهارها، فإن الله ينزل فيها لغروب الشمس إلى سماء الدنيا،
فيقول : ألا من مستغفر لي فأغفر له، ألا مسترزق فأرزقه، ألا مبتلى فأعافيه ألا كذا
ألا كذا، حتى يطلع الفجر".
رواه الفاكهي في تاريخ مكة، وابن ماجة،
وابن بشران في أماليه، والبيهقي في الشعب وفضائل الأوقات، جميعا من طريق:
عبد الرزاق : أنبأنا ابن أبي سبرة، عن إبراهيم بن محمد، عن معاوية بن عبد الله بن
جعفر، عن أبيه، عن علي بن أبي طالب.
قلت: تفرد بهذا الطريق أبو بكر بن عبد
الله بن محمد بن أبي سبرة القرشي.
قال أحمد بن حنبل: "ليس بشيء كان يَضع
الحديث ويَكذب"، وقال ابن معين: " ليس حديثه بشيء"، وقال البخاري:
"منكر الحديث"، وقال النسائي: "متروك الحديث"، وقال ابن عدي:
"عامة ما يرويه غير محفوظ وهو في جملة من يَضع الحديث".
وقال ابن حبان: " كان ممن يروي الموضوعات
عن الثقات لا يجوز الاحتجاج به"، وقال الحاكم أبو عبد الله: "يروي
الموضوعات عن الأثبات مثل هشام بن عروة وغيره". [انظر تهذيب التهذيب لابن حجر
رقم: 138].
واكتفى الذهبي في الكاشف (6525) بقوله:
" متروك".
كما
يُروىَ حديثا أخر عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه في ليلة النصف من
شعبان، ومتنه:
" قال علي : رأيت رسول الله صلى
الله عليه وسلم ليلة النصف من شعبان قام فصلى أربع عشرة ركعة، ثم جلس بعد الفراغ،
فقرأ بأم القرآن أربع عشرة مرة، وقل هو الله أحد أربع عشرة مرة، وقل أعوذ برب
الفلق أربع عشرة مرة، وقل أعوذ برب الناس أربع عشرة مرة، وآية الكرسي مرة، ولقد
جاءكم رسول من أنفسكم الآية، فلما فرغ من صلاته، سألته عما رأيت من صنيعه، قال :
" من صنع مثل الذي رأيت كان له كعشرين حجة مبرورة، وصيام عشرين سنة مقبولة،
فإن أصبح في ذلك اليوم صائما كان له كصيام سنتين سنة ماضية، وسنة مستقبلة ".
قلت: أخرجه البيهقي في الشعب من طريق
عثمان بن سعيد بن كثير، عن محمد بن المهاجر، عن الحكم بن عتيبة، عن إبراهيم، قال :
قال علي: وذكره.
قال البيهقي بعده: "قال الإمام أحمد : " يشبه أن يكون هذا الحديث
موضوعا، وهو منكر، وفي الرواية قبل عثمان بن سعيد مجهولون، والله أعلم ".
كما روي أحاديث أخرى عن علي -رضي الله
عنه- فيها هيئات للصلاة مخترعة في ليلة النصف من شعبان أعرضنا عن ذكرها لأنها تدور
أيضًا على الكذبة الوضاعين.
الصحابي الرابع:
وروي الحديث عن معاذ بن جبل -رضي الله عنه-، مرفوعا، ومتنه:
"يطلع الله إلى خلقه في ليلة النصف من شعبان فيغفر لجميع خلقه إلا لمشرك أو
مشاحن".
رواه ابن أبي عاصم في السنة، وابن حبان،
والطبراني في الكبير والأوسط وفي مسند الشاميين، والدارقطني في النزول، والبيهقي
في الشعب وفضائل الأوقات، وأبو نعيم في الحلية.
من طريق أبي خليد عتبة بن حماد، عن
الأوزاعي، وابن ثوبان، عن أبيه، عن مكحول، عن مالك بن يخامر، عن معاذ بن جبل.
قلت: قال الطبراني في الأوسط: " لم يرو هذا الحديث عن الأوزاعي، وابن ثوبان
إلا أبو خليد عتبة بن حماد ، تفرد به عن الأوزاعي : هشام بن خالد ". اهـ
قال أبو حاتم الرازي: "هذا حديث
منكر بهذا الإسناد، ولم يرو بهذا الإسناد عن أبي خُليد ولا أدري من أين جاء
به؟"!. [علل الحديث لابن أبي حاتم (2012)].
وقال الدارقطني في العلل الواردة (970)
على طريق مكحول هذا، وطريقه الثاني، الذي يرويه مكحول عن خالد بن معدان ، عن كثير
بن مرة الحضرمي، عن معاذ بن جبل، قال: "كلاهما غير محفوظ"، وبعد أن بين
الاختلاف في رواية مكحول، قال: "والحديث غير ثابت".
قلت: وهذه المرة الرابعة التي يرجع فيها الحديث
إلى مكحول، فانتبه!.
ولقد لخص الإمام الدارقطني -رحمه الله- ، هذا الاضطراب والاختلاف في حديث مكحول،
بقوله كما في النزول (66):
"اختلف
على مكحول في إسناد هذا الحديث :
فقال أبو خليد: عن الأوزاعي، عن
مكحول، وعن ابن ثوبان، عن مالك بن يخامر، عن معاذ .
وقال المحاربي : عن الأحوص بن حكيم، عن المهاصر بن حبيب، عن مكحول عن أبي
ثعلبة الخشني .
وقال الحجاج بن أرطاة : عن مكحول،
عن كثير بن مرة عن النبي صلى الله عليه وسلم .
وقال الفريابي: عن أبي ثوبان عن
أبيه، عن مكحول، عن خالد بن معدان، عن كثير بن مرة من قوله .
وقال زيد بن أبي أنيسة : عن جنادة
بن أبي خالد، عن مكحول، عن أبي إدريس الخولاني [من] قوله .
وقال هشام بن الغار: عن مكحول، عن
عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم .
وقال عتبة بن أبي حكيم : عن مكحول بهذا مرسلا عن النبي صلى الله عليه وسلم
.
وقال : برد بن سنان عن مكحول أراه عن كعب الأحبار.
الصحابي الخامس:
قلت: ورواية أبي ثعلبة الخشني -رضي الله
عنه- التي ذكرها الدارقطني في كلامه السابق، أخرجها ابن قانع في معجم الصحابة،
والطبراني في الكبير، والدارقطني في النزول، والبيهقي في الصغرى، وفضائل الأوقات،
واللالكائي في شرح أصول الاعتقاد .
ومتن الحديث : "إن الله عز
وجل يطلع إلى عباده ليلة النصف من شعبان، فيغفر للمؤمنين، ويملي للكافرين، ويدع
أهل الحقد بحقدهم حتى يدعوه".
قلت: ومدار الحديث عندهم على:
"أحوص بن حكيم بن عمير العنسي الحمصي".
قال أحمد: حديثه لا يساوي شيئا،
وقال يحيى: ليس بشيء، وقال أبو حاتم الرازي: "الأحوص بن حكيم ليس بقوى، منكر
الحديث"، وقال النسائي: "ليس بثقة".
وقال ابن الجوزي في العلل رقم (920):
"
هذا حديث لا يصح، قال أحمد بن حنبل: "الأحوص لا
يروى حديثه"، وقال يحيى: "ليس بشيء"، وقال الدارقطني: "منكر
الحديث" وقال: والحديث مضطرب غير ثابت".
الصحابي السادس:
وروي الحديث عن عبد الله بن عمرو -رضي
الله عنهما-
أخرجه أحمد في المسند وأبو الحسن الخلال في المجالس العشرة
من حديث ابن لهيعة، قال: حدثنا حيي بن عبد الله، عن أبي عبد الرحمن الحبلي ، عن
عبد الله بن عمرو ، يرفعه:
ومتنه: "يطلع الله عز وجل
إلى خلقه ليلة النصف من شعبان فيغفر لعباده إلا لاثنين : مشاحن، وقاتل نفس".
قلت:
وله علتان:
الأولى: " عبد الله بن لهيعة بن عقبة المصري" -رحمه الله- ،
قال الذهبي في الكاشف: "والعمل على تضعيف حديثه" .
الثانية: الراوي عنه هو : "حيي بن
عبد الله بن شريح الحبلي المصري".
قال أحمد: "أحاديثه مناكير"، وقال
البخاري: "فيه نظر"، وقال النسائي: "ليس بالقوي"، وقال ابن
حجر: "صدوق يهم".
الصحابي السابع:
وروي عن أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه-
ومتنه:
"إن الله ليطلع في ليلة النصف من شعبان فيغفر لجميع خلقه إلا لمشرك أو
مشاحن".
رواه ابن ماجة، والبيهقي في فضائل الأوقات، والالكائي في شرح أصول الاعتقاد
من طريق ابن لهيعة، عن الضحاك بن أيمن،
عن الضحاك بن عبد الرحمن بن عرزب، عن أبي موسى الأشعري .
قلت: وابن لهيعة ضعيف كما مر.
والضحاك بن أيمن، قال ابن حجر في التقريب: مجهول.
إلا أن ابن ماجة والبيهقي ذكروا له متابعة، عن ابن لهيعة، عن الزبير بن سليم، عن
الضحاك بن عبد الرحمن، عن أبيه ، قال : سمعت أبا موسى.
قلت: و" الزبير بن سليم"، مجهول أيضا كما قال ابن حجر.
مع ظهور اضطراب الضحاك بن عبد الرحمن في هذا الطريق، فإنه رواه عن أبي موسى بواسطة
بخلاف الطريق الأول.
وعليه: فلا تقوم الحجة من هذا الطريق أيضا.
الصحابي الثامن:
وروي
عن أبي أمامة الباهلي -رضي الله عنه-، ومتنه:
"يهبط الله عز وجل إلى سماء الدنيا
إلى عباده في ليلة النصف من شعبان، فيطلع إليهم، فيغفر لكل مؤمن ومؤمنة، وكل مسلم
ومسلمة، إلا كافرا أو كافرة، أو مشركا أو مشركة، أو رجلا بينه وبين أخيه مشاحنة،
ويدع أهل الحقد لحقدهم ".
رواه أبو الحسن الخلال في المجالس العشرة، من حديث عبد العزيز بن موسى، عن سيف بن
محمد الثوري، عن الأحوص بن حكيم، عن أبي أمامة الباهلي .
قلت: و "سيف بن محمد الثوري" =
هو ابن أخت سفيان الثوري.
قال
عبد الله بن أحمد بن حنبل، عن أبيه: "لا يُكتب حديثه ليس بشىء، كان يضع
الحديث"، وقال يحيى:" كان كذابا"، وقال النسائي: " ليس بثقة
ولا مأمون، متروك".
والأحوص بن حكيم مر حاله في حديث أبي ثعلبة الخشني -رضي الله عنه- ، وأنه منكر
الحديث.
وقد جاءت متابعة لهذا الحديث من
طريق: "محمد بن عبدٍ بن عامر
السمرقندي".
قال الدارقطني: "كان يَكذب ويَضع
الحديث"، وقال ابن حجر في اللسان: "معروف بوضع الحديث".
الصحابي التاسع:
ويروى عن عثمان بن أبي العاص -رضي الله عنه-،
ومتنه:
" إذا كان ليلة النصف من شعبان، نادى مناد : هل من مستغفر فأغفر له، هل من
سائل فأعطيه ؟ فلا يسأل الله عز وجل أحد شيئا إلا أعطاه ، إلا زانية بفرجها أو
مشرك".
رواه الخرائطي في مساوئ الأخلاق،
والبيهقي في الشعب وفضائل الأوقات، وأبو الحسن الخلال في المجالس العشرة.
قلت:
وهذا الحديث مُعلّ بثلاثة علل:
الأولى: فيه: "جامع بن صبيح" ،
قال ابن حجر في اللسان: " ذكره عبد الغني بن سعيد في المشتبه، وقال:
"ضعيف".
والثانية: أنه من حديث الحسن البصري وقد
عنعنه، وهو مدلس. والثالثة: إن الحسن لم يسمع من عثمان بن أبي العاص- رضي الله عنه-
قال الحاكم في المستدرك بعد حديث " وُقِّتَ للنساء في نفاسهن أربعين يوما
": " فإن سلم هذا الإسناد من أبي بلال، فإنه مرسل صحيح، فإن الحسن لم
يسمع من عثمان بن أبي العاص". اهـ
الصحابي العاشر:
ويروى عن عوف بن مالك الأشجعي -رضي
الله عنه-، ومتنه:
" يطلع الله تبارك وتعالى على خلقه ليلة النصف من شعبان، فيغفر لهم كلهم إلا
لمشرك أو مشاحن".
رواه البزار من حديث عبد الله بن لهيعة، عن عبد الرحمن بن زياد بن أنعم، عن عبادة
بن نسي، عن كثير بن مرة، عن عوف رضي الله عنه، يرفعه:
قلت: يروي هذا الحديث عن ابن لهيعة، عبد
الرحمن بن زياد بن أنعم، وهو الأفريقي
قال أحمد: "ليس بشيء، وقال مرة:
منكر الحديث"، وقال عبد الرحمن بن مهدي : "أما الأفريقي فما ينبغي أن
يروى عنه حديث"، وقال عبد الرحمن بن أبي حاتم : "سألت أبي وأبا زرعة عن
الأفريقي وابن لهيعة أيها أحبُّ إليكما؟ قالا : جميعًا ضعيفين"، وضعفه ابن
معين والنسائي والترمذي والذهبي وابن حجر، وحسن حاله جماعة.
وجاء متابعة لهذا الحديث من حديث
محمد بن سعيد الأسدي المصلوب، وهو كذاب كان يضع الحديث، قتله أبو جعفر المنصور على
الزندقة.
وهذا يدفعنا لقول كلمة مهمة في عبد الله بن لهيعة-رحمه الله- ، وهي أنه مع ضعف
حفظه، أنه وصف بالتدليس كما في أسماء المدلسين للسيوطي (29)، وهذا واضح جدا لمن
وقف على ترجمة الرجل، وقد ذكر ابن عدي في الكامل (977) أحاديث كثيرة مخرجها من ابن
لهيعة ولا يتابع عليها.
قلت: فهو يتفرد بأحاديث لا يُتابع
عليها لأنها غير محفوظة، وقد جلى الأمر ابن حبان -رحمه الله- بقوله: " سبرت أخبار ابن لهيعة فرأيته يدلس عن أقوام ضعفاء على أقوام ثقات قد رآهم،
ثم كان لا يُبالي ما دُفع إليه قرأه سواء كان من حديثه أو لم يكن من حديثه؛ فوجب
التنكب عن رواية المتقدمين عنه قبل احتراق كتبه لما فيها من الأخبار المدلسة عن
المتروكين، ووجب ترك الاحتجاج برواية المتأخرين بعد احتراق كتبه لما فيها مما ليس
من حديثه". [الضعفاء والمتروكين (2096) لا بن الجوزي].
قلت: فرواية ابن لهيعة مردودة قبل
حرق كتبه وبعدها؛ إذ كان يدلس عن ضعفاء كما قال ابن حبان، ويدلس أيضا عن كذابين
كما سيأتي..
قيل لعبد الرحمن بن مهدي: تحمل عن عبد
الله بن يزيد القصير عن بن لهيعة؟ قال عبد الرحمن: لا أحمل عن بن لهيعة قليلا ولا
كثيرا، ثم قال عبد الرحمن: كتب إلي بن لهيعة كتابا فيه ثنا عمرو بن شعيب قال عبد
الرحمن: فقرأته على بن المبارك فأخرج إلي بن المبارك من كتابه عن بن لهيعة فإذا
حدثني إسحاق بن أبي فروة عن عمرو بن شعيب". [الكامل في الضعفاء (977)].
قلت: و إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة القرشي هذا، قال فيه ابن معين:
"كذاب"، وقال أبو حاتم وأبو زرعة والنسائي والدارقطني والزرقاني وابن
حجر: متروك.
فهذا حال من كان يدلسه ابن لهيعة، فانتبه!
والشاهد من هذا البيان أن مدار الحديث
عاد مرة أخرى إلى الكذابين والمتروكين.
هذا؛ وعن عمد أعرضت عن ذكر طرق أخرى
للحديث، وآثار موقوفة على جماعة من الصحابة في فضل ليلة النصف من شعبان؛ إذ أنها
تدور في المنتهى على وضاع أو ضعيف.
كحديث أبي الدرداء -رضي الله عنه- مثلا: يدور على "جراح بن المنهال الجزري أبو العطوف".
قال ابن حجر في اللسان: "قال البخاري ومسلم: "منكر الحديث"، وقال
النسائي والدارقطني: "متروك"، وقال ابن حبان:"كان يكذب في الحديث
ويشرب الخمر". اهـ
خلاصة البحث:
وبهذا نكون وصلنا إلى نهاية البحث، والذي
خلاصته:
أن أحاديث فضل ليلة النصف من شعبان وردت من طرق متعددة عن جمع من الأصحاب -رضي
الله عنهم-.
ذكرنا في البحث منهم اثني عشر صحابيا، منهم اثنان دخل حديثهما في حديث أم المؤمنين
عائشة -رضي الله عنها-، أعني حديث "أنس بن مالك"، وحديث "أبي موسى
الأشعري".
فصار الأمر إلى عشرة، وبيان طرقهم على النحو الأتي:
1 ـ حديث عائشة -رضي الله عنها-، وهو الحديث العمدة، له سبعة طرق:
الطريق الأول:
فيه: الحجاج بن أرطاة ويحيى بن أبي
كثير ومكحول الشامي = وثالثتهم مدلس، وقد عنعنوه.
الطريق الثاني:
فيه: العلاء بن الحارث = يحدث عن
عائشة، وقد ولد بعد موتها!، ونبه البيهقي أنه ربما أخذه من شيخه مكحول الشامي.
وفيه: بحشل أبو عبيد الله = مجمع على ضعفه
من أهل بلده.
الطريق الثالث:
فيه: سليمان بن أبي كريمة الشامي = يحدث
بمناكير، ولا يتابع على كثير من حديثه".
وتابعه على حديثه: النضر بن كثير السعدي = "يروي الموضوعات عن الثقات لا يجوز الاحتجاج به
بحال".
الطريق الرابع:
فيه: إبراهيم بن إسحاق = "يقلب الأخبار ويسرق الحَديث".
وفيه: سعيد بن عبد الكريم = "متروك".
الطريق الخامس:
فيه: محمد بن عيسى المدائني، المعروف "بـابن السكين" ="ضعيف
متروك".
وفيه: سلّام بن سليمان المدائني الضرير = "منكر الحديث لا يتابع على
حديثه".
وفيه: سلام الطويل المدائني = " متروك كذاب".
الطريق
السادس:
فيه: عطاء بن عجلان = "كذاب كان يُوضع له الحديث فيحدث به".
الطريق
السابع:
فيه: عباد بن أحمد العرزمي = "متروك".
2 ـ طريق أبي بكر الصديق- رضي الله عنه-
:
تفرد به: عبد الملك بن عبد الملك ="منكر الحديث جدًا، يروي مالا يتابع
عليه".
3ـ طريق علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-
.
تفرد به: أبو بكر بن عبد الله بن أبي سبرة
= "كان يَضع الحديث ويَكذب، وعامة ما يرويه غير محفوظ".
4 ـ طريق معاذ بن جبل -رضي الله
عنه- .
عاد مرة أخرى الحديث إلى مكحول الشامي = وهو مدلس، ولم يصرح بالتحديث، فضلًا عن
اضطرابه الشديد، فالحديث رفعه مرة، وأرسله مرة ، وأوقفه في الثالثة، وفي الرابعة
جعله من قول كعب الأحبار.
5 ـ حديث أبي ثعلبة الخشني -رضي الله
عنه-.
فيه: الأحوص بن حكيم = "ليس بثقة .. منكر الحديث".
6 ـ حديث عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله
عنهما- .
فيه: عبد الله بن لهيعة = "ضعيف وصف بالتدليس وقد عنعنه".
وفيه: حيي بن عبد الله الحبلي = " ليس بالقوي .. أحاديثه مناكير".
7 ـ حديث أبي موسى الأشعري -رضي الله
عنه- .
فيه: عبد الله بن لهيعة = "ضعيف الحديث".
وفيه: الضحاك بن أيمن = "مجهول".
وتابعه: الزبير بن سليم = "مجهول".
8 ـ حديث إبي أمامة الباهلي- رضي الله عنه- .
فيه: سيف بن محمد الثوري = "كان كذابًا، كان يضع الحديث".
وتابعه: محمد بن عبدٍ بن عامر السمرقندي = "معروف بوضع الحديث".
9 ـ حديث عثمان بن أبي
العاص -رضي الله عنه- .
فيه: جامع بن صبيح = ضعيف.
وتفرد به الحسن البصري، وهو مدلس، ولم
يصرح بالتحديث.
وله علة أخرى، وهي: أن الحسن لم يسمع من عثمان بن العاص كما قال الحاكم
النيسابوري.
10ـ حديث عوف بن مالك الأشجعي -رضي الله
عنه- .
فيه: ابن لهيعة = والعمل على تضعيف حديثه.
وفيه: عبد الرحمن بن زياد الأفريقي = "ليس بشيء، منكر الحديث".
وتابعه: محمد بن سعيد المصلوب = "كذاب كان يَضع الحديث".
قلت:
وبهذا يتضح أنه لا يصلح بحال القول بأن
هذا الحديث يتقوى بمجموع طرقه، أو أن يكون أصله محفوظًا.
إذ مدار طرقه على (18) من الوضاعين ومنكري
الحديث، و(5) مدلسين، منهم (3) يروي بعضهم عن بعض هذا الحديث وقد ثبت عدم سماعهم
من بعض، وسادس ضعيف، ووصف بالتدليس وقد عنعنه، و (2) مجاهيل لا يعرف حالهم، ولعلهم
لم يُخلقوا أصلا!.
هذا؛
والذي ترجح لي في نهاية هذا البحث، أن هذا الحديث غير محفوظ، وأن مخرجه من مكحول
الشامي، لأمور منها:
1ـ أن حديث فضائل نصف شعبان كان يعرف عند
المتقدمين، بحديث مكحول!.
أخرج ابن وضاح أن عبد الرحمن بن زيد بن
أسلم , قال : " لم أدرك أحدًا من مشيختنا ولا فقهائنا يلتفتون إلى ليلة النصف
من شعبان, ولم ندرك أحدًا منهم يذكر حديث مكحول, ولا يرى لها فضلًا على ما سواها
من الليالي " . قال ابن أبي زيد : " والفقهاء لم يكونوا يصنعون ذلك
". [البدع والنهي عنها (ص / 92)].
2 ـ رجح الدارقطني- كما مر- أن اضطراب حديث
"أبي خليد عتبة بن حماد، والمحاربي، والحجاج بن أرطاة، والفريابي، وزيد بن
أبي أُنَيْسة، وهشام الغار، وعتبة بن أبي حكيم، وبرد بن سنان" راجع لاضطراب
مكحول فيه.
3 ـ ولما روى البيهقي الحديث من رواية
العلاء بن الحارث عن عائشة، بَين أنه مُرسل، ثم قال: "يحتمل أن يكون العلاء
بن الحارث أخذه من مكحول والله أعلم" اهـ،
قلت:
ومعلوم أن مكحولًا كان شيخ العلاء.
4 ـ وقال البيهقي بعد أن روى حديث معاذ
بن جبل -رضي الله عنه- : " وقد روينا هذا من أوجه، وفي ذلك دلالة على أن للحديث أصلًا
من حديث مكحول".
5 ـ ذكر البيهقي في فضائل الأعمال الحديث
موقوفًا على مكحول كما في رواية الحسن بن الحسن, عن مكحول.
6 ـ قال ابن الجوزي في العلل المتناهية بعد أن
ذكر حديث أبي هريرة في فضل ليلة النصف من شعبان-وهو من جملة ما أعرضنا عن ذكره في
بحثا هذا- قال: "
وهذا لا يصح وفيه مجاهيل، قال
الدارقطني: وقد روي من حديث معاذ ومن حديث عائشة: وقيل: إنه من قول مكحول، والحديث
غير ثابت".
قلت: فمخرج الحديث مكحول الشامي؛ ولكنه
عندي أخذه من كعب الأحبار.
فأصل الحديث هو كعب الأحبار، وبيان ذلك:
1ـ أسند مكحول الحديث إليه كما في النزول
للدارقطني.
2ـ إن مكحولًا كان معروفًا بالأخذ من كعب، فقد صَاحَبَه وحدث عنه، كما عند ابن
عساكر في تاريخه (2 / 330) أن كعبًا أصطحب مكحولًا إلى جبل قاسيون في الشام، وأمره
أن يجتهد في الدعاء في هذا الموضع لأنه وجد فيه ألواح "شيث بن آدم"!.
2ـ وأخرج أبو القاسم إسحاق بن سنين
الختلي في كتابه [الديباج، (ص / 93) دار البشائر ط. الأولى].
عن مكحول، عن كعب الأحبار، قال: "قرأت في التوراة مكتوب: أربع آياتٍ خطها
الله بيمينه: من أصبح حزينًا على الدنيا أصبح ساخطًا على ربه، ومن شكا مصيبة نزلت
به فإنما يشكو ربه ...".
3 ـ وعند ابن تمام في فوائده (1591) [وفيه رجل لم
يسم]، نقل مكحول أن كعبًا
قال له : "أن بِطَرَسُوس من قبور الأنبياء عشرة".
4ـ كما حدث عنه أنه قال: "
أربعة أنبياء اليوم، اثنان في
الدنيا، واثنان في السماء؛ فأما اللذان في الدنيا فإلياس والخضر، وأما اللذان في
السماء فعيسى وإدريس عليهما السلام". [تاريخ دمشق ( 9 / 207)].
5 ـ وحدث عنه أنه قال: "كان بين موسى وعيسى ستمائة سنة". [السابق ( 1 / 30)].
6 ـ
كما حدث عنه أنه قال: " إن عيسى ابن مريم كان يأكل الشعير، ويمشي على رجليه ولا
يركب الدواب، ولا يسكن البيوت، ولا يستصبح السراج، ولا يلبس الكرسف [يعني: القطن]، ولم يمس النساء، ولم يمس الطيب، ولم يمزج شرابه بشيء قط،
ولم يبرده، ولم يدهن رأسه قط، ولم يقرب رأسه ولحيته غسول قط!، ولم يجعل بين الأرض
وبين جلده شيئًا قط إلا لباسه، ...". [السابق (47 / 417)].
7 ـ وأخرج أبو نعيم في الحلية حديث مكحول
عن كعب الأحبار في وصية لقمان لابنه، والتي أولها: " يا بني كن أخرس عاقلًا
ولا تكن نطوقًا جاهلًا، ولأن يسيل لعابك على صدرك وأنت كاف اللسان عما لا يعنيك،
أجمل بك وأحسن من أن تجلس إلى قوم فتنطق بما لا يعنيك، ...". [حلية الأولياء ( 6 / 6 ) ].
8 ـ وأورد ابن الجوزي وصية أخرى للقمان
يرويها مكحول عن كعب الأحبار، تقول: " يا بني، إن الدنيا بحر عري، وقد هلك
فيه عالم كثير، فإن استطعت أن تجعل سفينتك
فيها الإيمان بالله، وشراعها التوكل على اللَّهِ، وزادك فيها التقوى، فإن نجوت
فبرحمة اللَّهِ، وإن هلكت فبذنوبك". [تنوير الغبش في فضل السودان والحبش ص / 102].
فالشاهد من هذا النقول أن مكحولًا لم
يحدث عن كعب الأحبار بأحاديث مرفوعة فقط، بل حدث عنه بأحاديث موقوفة عليه من كلامه
ووعظه، كما عند أبي نعيم في الحلية، كقول كعب: "تجد الرجل مستكثرًا من أنواع
أعمال البر، ويبلغ صنائع المعروف، ويكابد سهر الليل، وظمأ الهواجر، ولعله لا يساوي
في ذلك كله عند ربه جيفة حمار". اهـ
وكما نقل فعله كما في أخبار مكة للأزرقي من أن
كعب الأحبار كان يحمل من ماء زمزم إلى الشام.
وحدث أيضًا عنه بإسرائيليات كالتي ذكرت
آنفًا، وإن كانت بعض النكارة كخبر ترك عيسى -عليه السلام-.
وعليه: فالحديث الذي أسنده مكحول إلى كعب
الأحبار كما في النزول للدارقطني، هو في الأساس من قول كعب الأحبار يرويه عن أهل
الكتاب في الغالب.
يُظهر ذلك ما ذكره ابن الجوزي في
التبصرة مطولًا، واختصره ابن رجب في لطائف المعارف (ص/ 138)، وعبد الغني النابلسي في فضائل الشهور والأيام (ص / 41)، يقول كعب: "إن الله تعالى يبعث ليلة النصف من
شعبان جبريل عليه السلام إلى الجنة، فيأمرها أن تتزين، ويقول: إن الله تعالى قد
اعتق في ليلتك هذه عدد نجوم السماء، وعدد أيام الدنيا ولياليها، وعدد ورق الشجر،
وزنة الجبال، وعدد الرمال ...".
قلت: فهي هي نفس المبالغات التي ذكرت في الحديث
الذي معنا، والتي جعلت الضعفاء يجتمعون عليه لسنتهم في رواية الفضائل التي فيها
الأجر العظيم مع العمل القليل.
ولعله يُفهم في ضوء ما ذُكر قول ابن رجب
الحنبلي -رحمه الله- في ليلة النصف من شعبان: "كان التابعون من أهل الشام
كخالد بن معدان، ومكحول، ولقمان بن عامر، وغيرهم يعظمونها ويجتهدون فيها في
العبادة، وعنهم أخذ الناس فضلها وتعظيمها!، وقد قيل أنه بلغهم في ذلك آثار
إسرائيلية". [لطائف
المعارف ( ص/ 137)].
قلت: فمنشأ هذا الحديث -والله أعلم- من
قول كعب الأحبار، أخذه عنه مكحول، ثم تلقفه بعدُ الكذبة الوضاعون، وركبوا له
أسانيد، وكل منهم استحسن لفظة وقصة ثم نسبها إلى واحد من الصحابة -رضي الله عنهم-
يرفعها إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ، ثم حملها عنهم الضعفاء، وأهل الغفلة
ممن كان يُلقن أحدهم فيتلقن، أو من المدلسين الذين دلسوا مخرجه حتى لا يُعرف.
ولله در الإمام ابن العربي المالكي فقد
قال في عارضة الأحوذي (3/275) : " وليس في ليلة النصف من شعبان حديث يساوي سماعه
" . اهـ
وقال في تفسيره (4 / 117): "وليس في ليلة النصف من شعبان حديث يُعوَّل عليه،
لا في فضلها ولا في نَسخ الآجال فيها، فلا تلتفتوا إليها".
هذا؛ ولم يكن ابن العربي وحده مَن ضعف
أحاديث فضل النصف من شعبان، بل وافقه على هذا جمع من العلماء والحفاظ.
وقد مر في ثنايا البحث تضعيف أئمة الحديث
لبعض هذه الأحاديث كالبخاري وأبو حاتم والدارقطني والبيهقي وغيرهم، ومنهم من ضعفها
جملة، كما ذكر الزيلعي قول الحافظ ابن دحية -رحمه الله: "وليس في ليلة النصف
من شعبان حَدِيث يَصح ذكره أهل التعدِيل والتجرِيح".
وتتمة كلامه -رحمه الله -: "
فتحفظوا عباد الله من مفتر يروي لكم حديثًا يسوقه في مَعرِض الخير؛ واستعمالُ
الخير ينبغي أن يكون مشروعًا من الرسول صلى الله عليه وسلم، فإذا صح أنه كذِبٌ خرج
من المشروعية، وكان مستعملُه من خَدَمة الشيطان، لاستعماله حديثًا على رسول الله
صلى الله عليه وسلم لم يُنزل الله به من سلطان".
هذا؛ وقد أعلّ ابن الجوزي في العلل المتناهية كل الروايات التي ذكرت في الباب،
ونقل بعد حديث عائشة عند الترمذي قول الإمام الدارقطني: "قد روى من وجوه،
وإسناده مضطرب غير ثابت". اهـ
وضعف ابن القيم أحاديث أحياء ليلها كما في المنار المنيف (ص / 99).
وكذا ضعف الذهبي منها (8) أحاديث، وذلك
لما ذكرها مقرونة بجرح رواتها كما تجد ذلك في ميزان الاعتدال تحت رقم:
(3232 ، 5228، 6546 ، 7605 ، 8312 ، 9057 ، 9081
، 10024 ).
وقال في حديث أنس: " فقبح الله من وضعه،
ففيه من الكذب والإفك ما لا يوصف"!.
وقال الشوكاني -رحمه الله- في الفوائد المجموعة
(ص / 51)، بعد أن ضعف وحكم بالوضع على سبعة أحاديث في فضل النصف
من شعبان، قال:"وقد اغتر بهذا الحديث جماعة من الفقهاء كصاحب الإحياء وغيره،
وكذا من المفسرين، وقد رويت صلاة هذه الليلة أعني ليلة النصف من شعبان على أنحاء
مختلفة كلها باطلة موضوعة، ولا ينافي هذا رواية الترمذي من حديث عائشة لذهابه صلى
الله عليه وسلم إلى البقيع ونزول الرب ليلة النصف إلى سماء الدنيا وأنه يغفر لأكثر
من عدة شعر غنم كلب؛ فإن الكلام إنما هو في هذه الصلاة الموضوعة في هذه الليلة،
على أن حديث عائشة هذا فيه ضعيف وانقطاع، كما أن حديث علي الذي تقدم ذكره في قيام
ليلها لا ينافي كون هذه الصلاة موضوعة على ما فيه من الضعف حسبما ذكرناه".
قلت: وضعف أيضًا جملة منها في تحفة الذاكرين (ص 217 : 218).
وقال الشيخ العلامة عبد العزيز بن باز -رحمه
الله- : "وبعض الناس يحتفل بليلة النصف من شعبان ويعمل فيها أعمالًا يتقرب
بها، وربما أحيا ليلها أو صام نهارها يزعم أن هذا قربة، فهذا لا أصل له، والأحاديث
فيه غير صحيحة، بل هو من البدع". [مجموع فتاوى الشيخ ( 8 / 26) ].
وقال: "ومن البدع التي أحدثها بعض
الناس: بدعة الاحتفال بليلة النصف من شعبان, وتخصيص يومها بالصيام, وليس على ذلك
دليل يجوز الاعتماد عليه, وقد ورد في فضلها أحاديث ضعيفة لا يجوز الاعتماد عليها,
أما ما ورد في فضل الصلاة فيها, فكله موضوع, كما نبه على ذلك كثير من أهل العلم,
وسيأتي ذكر بعض كلامهم إن شاء الله . وورد فيها أيضًا آثار عن بعض السلف من أهل
الشام وغيرهم, والذي أجمع عليه جمهور العلماء أن الاحتفال بها بدعة, وأن الأحاديث
الواردة في فضلها كلها ضعيفة, وبعضها موضوع, وممن نبه على ذلك الحافظ ابن رجب , في
كتابه لطائف المعارف وغيره, والأحاديث الضعيفة إنما يعمل بها في العبادات التي قد
ثبت أصلها بأدلة صحيحة, أما الاحتفال بليلة النصف من شعبان, فليس له أصل صحيح حتى
يستأنس له بالأحاديث الضعيفة". [المصدر السابق ( 1 / 187)].
وقال العلامة العثيمين -رحمه الله- في تفسيره
لسورة القدر: "وليلة النصف من شعبان كليلة النصف من رجب، وجمادى، وربيع،
وصفر، ومحرم وغيرهن من الشهور لا تختص بشيء، حتى ما ورد في فضل القيام فيها فهو
أحاديث ضعيفة لا تقوم بها حجة، وكذلك ما ورد من تخصيص يومها وهو يوم النصف من
شعبان بصيام فإنها أحاديث ضعيفة لا تقوم بها حجة، لكن بعض العلماء -رحمهم الله-
يتساهلون في ذكر الأحاديث الضعيفة فيما يتعلق بالفضائل: فضائل الأعمال، أو الشهور،
أو الأماكن وهذا أمر لا ينبغي، وذلك لأنك إذا سقت الأحاديث الضعيفة في فضل شيء ما،
فإن السامع سوف يعتقد أن ذلك صحيح، وينسبه إلى الرسول عليه الصلاة والسلام وهذا
شيء كبير، فالمهم أن يوم النصف من شعبان وليلة النصف من شعبان لا يختصان بشيء دون
سائر الشهور، فليلة النصف لا تختص بفضل قيام، وليلة النصف ليست ليلة القدر، ويوم
النصف لا يختص بصيام، نعم شهر شعبان ثبتت السنة بأن النبي صلى الله عليه وسلّم
يكثر الصيام فيه حتى لا يفطر منه إلا قليلًا، وما سوى ذلك مما يتعلق بصيامه لم
يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا ما لسائر الشهور كفضل صوم ثلاثة أيام من كل
شهر، وأن تكون في الثالث عشر، والرابع عشر، والخامس عشر، وهي أيام البيض".
اهـ
وقال -رحمه الله- في اللقاء (115) من لقاءات الباب المفتوح:
"الصحيح
أن جميع ما ورد في فضل ليلة النصف من شعبان ضعيف لا تقوم به حجة, ومنها أشياء
موضوعة, ولم يُعرف عن الصحابة أنهم كانوا يعظمونها, ولا أنهم كانوا يخصونها بعمل,
ولا يخصون يوم النصف بصيام, وأكثر من كانوا يعظمونها أهل الشام -التابعون ليس
الصحابة- والتابعون في الحجاز أنكروا عليهم أيضًا, قالوا: لا يمكن أن نعظم شيئًا
بدون دليل صحيح.
فالصواب: أن ليلة النصف من شعبان كغيرها من
الليالي، لا تخص بقيام, ولا يوم النصف بصيام, لكن من كان يقوم كل ليلة, فلا نقول:
لا تقم ليلة النصف, ومن كان يصوم أيام البيض لا نقول: لا تصم أيام النصف, إنما
نقول: لا تخص ليلها بقيام ولا نهارها بصيام". اهـ
قلت: وكذلك ضعف روايات فضل النصف من شعبان
شيخنا المحدث "علي حشيش" -حفظه الله- في سلسة تحذير الداعية من القصص
الواهية.
هذا؛ ولعل الحامل على إخراج بعض العلماء لهذه
الأحاديث مع علمهم بضعفها، أنها تشتمل على صفة النزول للرب -عز وجل- ، وهي صفة
أنكرها أعداء السنة من الجهمية ومن لف لفهم.
وقد أحسن الحافظ العقيلي-رحمه الله- في
بيان ضعف هذه الأحاديث، وبيان أن في الصحيح غنية عنها، فقال:
"وفى النزول في ليلة النصف من شعبان
أحاديث فيها لين، والرواية في النزول في كل ليلة أحاديث ثابتة صحاح، فليلة النصف
من شعبان داخلة فيها إن شاء الله". [الضعفاء الكبير (3/29) ].
وقد نقل البيهقي في الكبرى قول الحاكم
النيسابوري: " سمعت أبا محمد أحمد بن عبد الله المزني يقول : "حديث
النزول قد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من وجوه صحيحة، وورد في التنزيل ما
يصدقه، وهو قوله تعالى : {وجاء ربك والملك صفا صفا}، والنزول والمجيء صفتان
منفيتان عن الله تعالى من طريق الحركة والانتقال من حال إلى حال، بل هما صفتان من
صفات الله تعالى بلا تشبيه جل الله تعالى عما تقول المعطلة لصفاته، والمشبهة بها
علوا كبيرا " .
ثم قال البيهقي : وكان أبو سليمان
الخطابي -رحمه الله- يقول : "إنما يُنكر هذا وما أشبهه من الحديث من يقيس
الأمور في ذلك بما يشاهده من النزول الذي هو تدلي من أعلى إلى أسفل، وانتقال من
فوق إلى تحت وهذه صفة الأجسام والأشباح، فأما نزول من لا تستولي عليه صفات الأجسام
فإن هذه المعاني غير متوهمة فيه؛ وإنما هو خبر عن قدرته ورأفته بعباده، وعطفه
عليهم، واستجابته دعاءهم، ومغفرته لهم، يفعل ما يشاء لا يتوجه على صفاته كيفية ولا
على أفعاله كمية، سبحانه ليس كمثله شيء وهو السميع البصير". [ السنن الكبرى، حديث رقم (4840)].
والخلاصة:
إنه لم يصح في فضل النصف من شعبان شيء، وأن كل الأحاديث الواردة في الباب مخرجها
واحد، فلا تتقوى بكثرة الطرق، إذ أنه لا يخلو طريقًا منها من متهم أو كذاب أو
مجهول أو مدلس، فكثرة الطرق هنا تزيد الحديث وهنًا.
ويكون صيام نهار هذا اليوم أو قيام ليلته اعتمادًا على هذه الأحاديث الواهية يدخل
في البدع الاضافية، والله أعلم.
أما من صام يوم النصف من شعبان لأنه من الأيام القمرية، وكانت من عادته صيام هذه
الأيام الفاضلة ولم يخص هذا اليوم وحده بالصيام، فصيامه صحيح موافق للسنة بإذن
الله تعالى.
فائدة:
كما أنه لم يصح النهي عن الصيام إذا انتصف
شعبان، فحديث النهي ضعيف، حكم عليه بالشذوذ الإمام الشافعي وأحمد والبخاري وغيرهم.
فقد روى العلاء بن عبد الرحمن الحرقي، عن أبيه، عن أبي هريرة، مرفوعًا : " إذا
انتصف شعبان فلا صوم حتى يأتي رمضان".
قال
أبو داود عقبه في سننه: " وكان عبد الرحمن –يعني: ابن مهدي-، لا يحدث به، قلت
لأحمد : لم قال؟ لأنه كان عنده، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصل شعبان برمضان
، وقال : عن النبي صلى الله عليه وسلم خلافه ".
قال أبو داود : "وليس هذا عندي خلافه ، ولم
يجئ به غير العلاء ، عن أبيه ".
وقال
النسائي: "لا نعلم أحدا روى هذا الحديث غير العلاء بن عبد الرحمن".
وقال البيهقي في السنن الكبرى: " . رواه أبو داود عن قتيبة، ثم قال أبو داود
: وقال أحمد بن حنبل: هذا حديث منكر، قال : وكان عبد الرحمن لا يحدث به".
وقال ابن خزيمة في باب جماع أبواب صوم التطوع من كتاب الصيام من صحيحه:
"باب إباحة وصل صوم شعبان بصوم رمضان والدليل
على أن معنى خبر أبي هريرة , عن النبي صلى الله عليه وسلم : " إذا انتصف شعبان
فلا تصوموا حتى رمضان أي : لا توصلوا شعبان برمضان فتصوموا جميع شعبان , أو أن يوافق
ذلك صوما كان يصومه المرء قبل ذاك , فيصوم ذلك الصيام بعد النصف من شعبان , لا أنه
نهى عن الصوم إذا انتصف شعبان نهيا مطلقًا".
هذا؛ وفيما ذُكر كفاية لكل طالب حق مسترشد، ونسأل الله عز وجل بكرمه وجوده أن يرزقنا العلم الصحيح، والعمل الصالح، وأن يتوفانا على الأمر العتيق.
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.