في
ضوء نازلة فيروس كورونا (5)
حـقـيقـة
الحَـجْر الصحـي
الحمد
لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد:
فإن
عامة من يستدل بقول رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : "الطاعون رجس أرسل على
طائفة من بني إسرائيل ، أو على من كان قبلكم ، فإذا سمعتم به بأرض ، فلا تقدموا عليه
، وإذا وقع بأرض ، وأنتم بها فلا تخرجوا ، فرارا منه". [متفق عليه].
عامة
من يستدل بهذا الحديث يذهب إلى إن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ سنّ في هذا
الحديث ما يعرف في لغة الناس اليوم ب" الكرنتينا" أو "الحَجْر الصحي"، وذلك حفاظا
على سلامة الأصحاء وللحد من انتشار الوباء.
"ولكن هذا غير صحيح؛ لأن النبي ـ صلى الله عليه
وسلم ـ راعى ما هو أعم وأهم، وهو الفرار من قدر الله، قال: «لا تخرجوا منها فرارًا
منه". [انظر الشرح الممتع للعثيمين (11 / 111) ط ابن الجوزي].
وقصر
الحديث على أن المقصود منه الحد من انتشار الأوبئة، والمحافظة على سلامة الأصحاء!،
هو تفسير مادي بحت، يشبه ما عليه الغربيين.
وكيف يستقيم هذا، وهو صلى الله عليه وسلم من نهى الأصحاء من الخروج من الأرض الموبوءة بالطاعون؟، وهو مرض إنتاني وبائي معدي قتّال.
وكيف يستقيم هذا، وهو صلى الله عليه وسلم من نهى الأصحاء من الخروج من الأرض الموبوءة بالطاعون؟، وهو مرض إنتاني وبائي معدي قتّال.
وإن
كان هذا الذي ذكر آنفا يدخل في معنى الحديث، إلا أنه في المقام الأول يستهدف مسألة
عقائدية مهمة، وهي رضا العبد بقضاء الله وقدره، خيره وشره.
وهذا
ظاهر حديث رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ حيث قال : " ليس من أحد يقع الطاعون
، فيمكث في بلده صابرا محتسبا ، يعلم أنه لا يصيبه إلا ما كتب الله له ، إلا كان له
مثل أجر شهيد". [رواه البخاري].
ومفهوم الحديث: أنه لكي يحصل العبد أجر الشهادة، يتوجب عليه أن يكون معتقدا أنه لا يصيبه إلا ما كتبه الله له، مع مكثه صابرا محتسبا.
ومفهوم الحديث: أنه لكي يحصل العبد أجر الشهادة، يتوجب عليه أن يكون معتقدا أنه لا يصيبه إلا ما كتبه الله له، مع مكثه صابرا محتسبا.
فإن
صبر واحتسب ورضا بقضاء الله، نال أجر الشهادة ـ وإن لم يقتله الطاعون ـ .
فالحديث
في المقام الأول يعتني بمعتقد المسلم وإيمانه، مع فوائد أخرى ذكرها العلماء، منها:
ـ توقى
المكاره قبل وقوعها، والتسليم لأمر الله وقدره إذا وقعت المصائب والبلايا ، وهذا كقول
رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : "
لا تمنوا لقاء العدو ، وسلوا الله العافية ، فإذا لقيتموهم فاصبروا ". [متفق
عليه].
ـ إن
نهي رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن الدخول في الأرض الموبوءة أو الخروج منها
صيانة لمعتقد المسلم، وأسكن لنفسه، وأقطع لوساوس الشيطان، حتى لا يقول الداخل:
دخلت فهلكت، أو يقول الخارج: خرجت فنجوت، وإنما نجا من لم يجى أجله ، ومات من جاء أجله".
[إكمال المعلم شرح صحيح مسلم للقاضي عياض (كتاب السلام / باب:
الطاعون والطيرة والكهانة)].
ـ خروج الأقوياء كسر لقلوب الضعفاء عن الخروج، ولئلا تضيع المرضى
بعدم من يتفقدهم، والموتى بعدم من يجهزهم، فالمسلمون لحمة واحدة. [أحكام
القرآن لابن العربي (1 / 304 :305)].
وهذه قضية أخلاقية لا تجدها عند غيرهم، حتى عند
من يتشدقون بالإنسانية من هؤلاء الغربيين، فقد ظهر كذبهم وزيف حضارتهم في هذه
النازلة، فقد نُقل أنه هرب القائمون على دار للعجائز في أسبانيا، وتركوا النزلاء
يواجهون الموت، حتى تعفنت الجثث، وأن بعض أبناء بريطانيا تركوا آباءهم وأمهاتهم في
المشفى، ورفضوا رؤيتهم قبل الموت خوفا من العدوى!، فضلا عن ما أعلنت عنه
"أيرلندا" تلميحا من العمل بنظرية "سوبر مان" لفريدريك نيتشه،
وفيها: التخلص من العجائز والمرضى والضعفاء، من أجل إخراج جيل قوي معافى!،
ولعل لنفس السبب أعلنت مؤخرًا بعض الولايات في أمريكا عدم معالجة مرضى متلازمة داون والشلل الدماغي والتوحد وإعطاء الأولوية للأسوياء في العلاج من فيروس كورونا.
ـ إن البلاء إذا نزل إنما يقصد به أهل البقعة، لا البقعة نفسها، فمن أراد الله
إنزال البلاء به فهو واقع به ولا محالة فأينما توجه يدركه، كما في تعالى : {أَلَمْ تَرَ
إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ
لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ
وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ} .[البقرة : 234].
قال
ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ : كانوا أربعة آلاف ، خرجوا فرارا من الطاعون ، وقالوا
: نأتي أرضا ليس بها موت . فقال لهم الله : موتوا فماتوا فمر بهم نبي ، فسأل الله أن
يحييهم فأحياهم ، فهم الذين قال الله عز وجل : وهم ألوف حذر الموت " . [رواه
الحاكم (3045) وقال: " هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ، ولم يخرجاه"].
وقد ذكر "المدائني": "أنه وقع الطاعون بمصر في ولاية "عبد العزيز بن مروان" إياها فخرج هاربا منه، فنزل قرية من قرى الصعيد يقال لها سكر، فقدم عليه حين نزلها رسول لعبد الملك فقال له "عبد العزيز": ما اسمك؟ قال: "طالب بن مدرك"، فقال: "أوه ما أراني راجعا إلى الفسطاط أبدا، فمات في تلك القرية". [التمهيد لابن عبد البر].
ـ إلى غير ذلك مما ذكره علماؤنا من المفسرين وشراح الحديث.
فالخلاصة:
إن الحجر
الصحي مع قيام مقتضاه، جائز في الشريعة, بل قد يكون من باب الوجوب، بيد أن قصر
مفهومه أنه خاصا بالحفاظ على سلامة الأصحاء، والحد من انتشار الوباء، هو مسلك مادي
لا يعرفه الإسلام، بل حقيقة الحجر الصحي يدخل فيها كل ما مر ذكره.
والله
أعلم.
وصلى
الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
وكتب
أبو صهيب وليد بن سعد
القاهرة 4 / شعبان / 1441هـ
القاهرة 4 / شعبان / 1441هـ
27 / 3 / 2020م
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق