الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده،
أما بعد:
فإن أهل الأهواء والبدع قومٌ ضربت عليهم الذلة، ولو مُكِّنوا لمسخوا الملة.
ولذا، فإن سهام أهل السنة والأثر لهم بالمرصاد، وهي سهامٌ لا تترك من أصول أهل البدع
شيئًا إلا جعلته كالرميم.
وللمبتدعة حيلٌ وطرقٌ يَتحصنون بها لصدِّ هذه السهام أو تفاديها.
فمن ذلك: أنهم تارةً يَبتدعون شعاراتٍ عريضة وعباراتٍ موهمة، يَبثونها بين
الناس كأنها أثرٌ محفوظ، والعمل بها تمسكٌ بصلب الدين! وغرضهم الوحيد منها: أن يُدافع
عنهم عوام المسلمين، وعن بدعهم بهذه العبارات والشعارات دون تفكير أو روية.
ومن تلك الشعارات والعبارات قولهم:
"إذا حَكَمْتَ حُوكِمْتَ، وإذا دعوتَ أُجِرْتَ!".
وقولهم: "نُصحِّح ولا نُجرح!".
وقولهم: "نَبني ولا نَهدم!".
وقولهم: "لمصلحة من إسقاط الرموز؟!".
وبالطبع القاعدة الذهبية الماسونية الإخوانية:"نَجتمع فيما اتَفقنا
عليه، ويَعذر بعضنا بعضًا فيما اختلفنا فيه!".
فهذه حيلة، ولهم حيل أخرى، منها:
إلصاق تهمةٍ بأهل السنة الخُلَّص بنسبتهم إلى شخصٍ سوى النبي -صلى الله
عليه وسلم-، ليظن السامع أن هؤلاء جماعةٌ يتحمسون لقول شيخهم، ويقاتلون على شخصه، كسائر
الفرق الضالة.
وقديمًا، سموا أهل السنة: "حنابلة" نسبة إلى الإمام أحمد بن
حنبل، و"بربهارية" نسبة إلى الإمام البربهاري صاحب "شرح السنة"،
وقالوا: "وهابية" نسبة إلى الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب، رحمهم الله
جميعًا.
ومن حيلهم أيضًا: إحياء بدعةٍ عقائدية
يَتناولونها بالتأليف والتصنيف حتى يُقال: ومن أعلم الناس بها منهم؟! ثم يبدؤون برمي
أهل السنة بهذه البدعة!
ومن أشهر الأمثلة في العصر الحديث على ذلك، رميهم أهل الحديث والأثر ببدعة
الإرجاء!، فقد انبعث أشقاهم، المدعو "محمد قطب"، منظّر جماعة الإخوان
المسلمين، الذي أرسله أخوه "سيد قطب" إلى أرض الحجاز ليُعِدَّ هذه البلاد لغزو الفكر
الإخواني الخارجي.
فكان من خطة "محمد قطب" للنيل من الدعوة السلفية، وإفساد دعوة التوحيد،
أن تناول بدعة الإرجاء بالتصنيف والتأليف، وأزاح عنها غبار الزمان ليحييها مرة أخرى، كما تجده
في كتبه:"الصحوة الإسلامية"، و"التفسير الإسلامي للتاريخ"، و"واقعنا
المعاصر".
بل لم يكتفِ بذلك، فوسوس لأحد طلابه ممن له قبولٌ في العالم السني السلفي،
وحالُه يخفى على كثير من الخلق (1)، فأخرج كتابه المشهور: "ظاهرة الإرجاء"!
فكان أول سهمٍ أطلقه القوم، مُلطخًا بتهمة الإرجاء، من نصيب شيخ المحدثين
في العصر الحديث، وأحد أئمة السنة، العلامة الشيخ "ناصر الدين الألباني" -رحمه الله-.
وللأسف الشديد، كان لهم
ما أرادوا، واشتهرت هذه الفرية بأن الشيخ ناصر يميل إلى الإرجاء! أو أنه وافق المرجئة!، حتى وصل الأمر إلى أن سُئل عن هذه الفرية فقيه الزمان، العلامة العثيمين -رحمه الله- فردَّ بمقولته المشهورة: "قائل هذا الكلام إما أنه لا يَعرف الإرجاء، وإما أنه
لا يَعرف الألباني". اهـ
قلت: وهذه الحيلة، رمي المبتدعة أهل السنة والأثر بالبدعة لتنفير الناس
عنهم، سنةٌ قديمة.
قال أبو محمد عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي، سمعت أبي يقول: "وعلامة أهل البدع الوقيعة في أهل الأثر، وعلامة الزنادقة تسميتهم أهل
السنة حشوية يريدون إبطال الآثار، وعلامة الجهمية تسميتهم أهل السنة مشبهة!، وعلامة القدرية تسميتهم أهل الأثر مجبرة!، وعلامة المرجئة تسميتهم أهل السنة مخالفة وَنُقْصَانِيَّة!، وعلامة الرافضة تسميتهم أهل السنة ناصبة!، ولا يلحق أهل السنة إلا اسم واحد، ويَستحيل أن تجمعهم هذه الأسماء"(2).
قلت: والذي يَدفع المبتدع إلى هذا الفعل هو نقمته
على أهل السنة لكونهم على السنة؛ لأن وجود الشريف بين اللصوص يَفضحهم، كما أن وجود العفيفة
بين البغايا يفضحهن.
وفي الأثر عن عثمان بن عفان-رضي الله عنه- أنه قال:"ودت
الزانية لو زانَتِ النساء جميعًا".
فالمبتدعة يرمون أهل السنة بالبدعة لتتساوى الرؤوس، وهيهات!، فالسنة نور
وهيبة يُحسد عليها صاحبها، وكأن للمبتدعة في هذا الشأن لهم نصيبًا في قول الله تعالى: ﴿وَدَّ كَثِيرٌ
مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا
مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ﴾ [البقرة:
109].
وتُعد جماعة الإخوان المسلمين، ومن لَفَّ
لفَّها، صاحبة الراية في العصر الحديث في نبذ أهل الحديث والأثر بالفظائع، فتارةً يصفونهم
بالجمود والرجعية، أو أنهم يسكنون كوكبًا آخر، لجهلهم بالواقع! وتارة أخرى يَنعتونهم
بأنهم "علماء حيض ونفاس".
ولهم في ذلك سلف، ولكل قوم وارث.
ففي "الاعتصام" للشاطبي (2 /239): "عن إسماعيل بن عُلية،
قال: حدثني اليَسَع، قال: تكلم واصل بن عطاء يومًا -يعني المعتزلي-، فقال عمرو بن عبيد:
ألا تسمعون؟ ما كلام الحسن وابن سيرين -عندما تسمعون- إلا خرقة حيض ملقاة.
وروى أن زعيمًا من زعماء أهل البدعة كان يريد تفضيل الكلام على الفقه،
فكان يقول: "إن علم الشافعي وأبي حنيفة جملته لا يخرج من سراويل امرأة!".
قال الشاطبي -رحمه الله- معقبًا: "هذا كلام هؤلاء الزائغين، قاتلهم
الله".اهـ
هذا، وقد تسرب إلى مفردات
المبتدعة في زماننا، وظهر على ألسنة العوام قولهم عن أهل السنة الخُلَّص:أنهم
"جامية"! نسبة إلى الشيخ المحدِّث "محمد أمان الجامي" -رحمه الله- المدرس بقسم
الحديث بالجامعة الإسلامية.
وقولهم: "مدخلية"! نسبة إلى الشيخ المحدِّث "ربيع بن
هادي المدخلي" -حفظه الله_(3)، رئيس قسم السنة بالجامعة الإسلامية بالمدينة النبوية سابقًا.
وأوضح دليل على أن تلقيب أهل السنة بـ"الجامية" و"المدخلية"، أنها حيلة شيطانية وفرية إخوانية، أن هؤلاء المبتدعة بثوها بين الناس
لتنفير الناس من علم الشيخين ومن سار على دربهما، تحقيقًا لغرضهم الذي بيَّناه آنفًا،
"اتقاء سهام هؤلاء العلماء التي لا تذر مبتدعًا ضالًا إلا أصابته".
فإن للشيخين جهدًا معلومًا في التحذير من أهل البدع، من درويش وحركيين وحزبيين وغيرهم، فضلاً عن اهتمامهما ببسط مسائل الاعتقاد شرحًا وتأليفًا.
وهذا من أشد الأسلحة
على المبتدعة، لأن الناس إذا ظهرت فيهم السنة، ماتت البدعة، وهؤلاء المبتدعة كالطفيليات،
تتغذى على غيرها،فلو تداوى الناس بالسنة، لتعافوا من البدعة، ولماتت البدعة وأهلها.
فالمسألة عند المبتدع قضية حياة أو موت.
ولا يعلم الطعن في الشيخين إلا من نهج منهج المبتدعة، أما عند العلماء،
فلا يُعرفان إلا بأطيب الثناء.
فقد قال الشيخ
عبد العزيز بن باز -رحمه الله-:"الشيخ محمد أمان: معروفٌ لديَّ بالعلم والفضل وحسن العقيدة، والنشاط
في الدعوة إلى الله سبحانه، والتحذير من البدع والخرافات(4)، غفر الله له، وأسكنه فسيح
جناته، وأصلح ذريته وجمعنا وإياكم وإياه في دار كرامته إنه سميع قريب".اهـ
وقال فضيلة الشيخ الدكتور صالح بن فوزان الفوزان:"الشيخ "محمد أمان" كما عرفته: إن المتعلمين وحملة الشهادات العليا
المتنوعة كثيرون، ولكن قليل منهم من يُستفيد من علمه ويُستفاد منه، والشيخ "محمد أمان
الجامي" هو من تلك القلة النادرة من العلماء الذين سخَّروا علمهم وجهدهم في نفع المسلمين،
وتوجيههم بالدعوة إلى الله على بصيرة من خلال تدريسه في الجامعة الإسلامية، وفي المسجد
النبوي الشريف، وفي جولاته في الأقطار الإسلامية الخارجية، وتجواله في المملكة لإلقاء
الدروس والمحاضرات في مختلف المناطق، يدعو إلى التوحيد، وينشر العقيدة الصحيحة، ويوجِّه
شباب الأمة إلى منهج السلف الصالح، ويحذِّرهم من المبادئ الهدامة والدعوات المضللة.
ومن لم يعرفه شخصيًا فليعرفه من خلال كتبه المفيدة، وأشرطته العديدة التي تتضمن فيضًا
مما يحمله من علم غزير ونفع كثير".(5)
وقال فضيلة الشيخ عبد المحسن بن حمد العباد-حفظه
الله-: "عرفتُ الشيخ "محمد أمان بن علي الجامي" طالبًا في معهد الرياض العلمي،
ثم مدرِّسًا بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة في المرحلة الثانوية، ثم في المرحلة
الجامعية.
عرفته حسن العقيدة سليم الاتجاه، وله عناية في بيان العقيدة على مذهب السلف،
والتحذير من البدع وذلك في دروسه ومحاضراته وكتاباته، غفر الله له ورحمه وأجزل له المثوبة".
اهـ
وأما الشيخ ربيع المدخلي-حفظه الله-:
فقد قال فيه العلامة الألباني -رحمه الله-: "إن حامل راية الجرح والتعديل
اليوم في العصر الحاضر، وبحق: هو أخونا الدكتور ربيع؛ والذين يردُّون عليه لا يردون
عليه بعلم أبدًا، والعلم معه..."(6).
وقال العلامة ابن باز -رحمه الله-: "وإخواننا المشايخ المعروفون في
المدينة ليس عندنا فيهم شك، هم أهل العقيدة الطيبة، ومن أهل السنة والجماعة، مثل الشيخ "محمد أمان بن علي"، ومثل "الشيخ ربيع بن هادي"، أو مثل الشيخ "صالح بن سعد السحيمي"، ومثل
الشيخ "محمد بن هادي"، كلهم معروفون لدينا بالاستقامة والعلم والعقيدة الطيبة". (7)
قلت: وثناء العلماء على الشيخين "الجامي" و"المدخلي" كثير،
يستطيع أن يقف عليه كل منصف بسهولة.
ويبقى أمرٌ يُلبِّس به المبتدعة على عوام أهل السنة، وهو قولهم: إن الشيخين
خلطا بين الجرح والتعديل الذي هو في رواة الحديث، وبين التحذير من بعض الدعاة وطلبة
العلم.
فنقول: إن أهل العلم اتفقوا على
وجوب الرد على المخالف، والتحذير من كل مخالف للسنة، ولم يشترطوا أن يكون المخالف من
أهل الحديث، بل يكفي أن يكون ممن يتكلم في دين الله، فيضل بكلامه خلقًا.
فنجد الإمام المبجل "أحمد بن حنبل"-رحمه الله-، ردَّ على الجهمية، وكتب الإمام "الدارمي" في الرد على بشر المريسي، وما اشتهر شيخ الإسلام "ابن تيمية" إلا بالرد على أهل البدعة؛
بل كان يَرد على من يفتي بغير علم، وكان شديد الإنكار عليهم.
قال ابن القيم -رحمه الله-: "وكان شيخنا، أي: ابن تيمية، شديد الإنكار
على هؤلاء، فسمعته يقول: قال لي بعض هؤلاء: أجعلت مُحتسبًا على الفتوى؟ فقلت له: يكون
على الخبازين والطباخين مُحتسب، ولا يكون على الفتوى مُحتسب؟!"(8).
هذا، وقد بيَّن الإمام ابن بطة(9) الحكمة من وجوب الرد على المخالف، فقال: "أنا أذكر طرفًا من أسمائهم وشيئًا
من صفاتهم؛ لأن لهم كتبًا قد انتشرت ومقالات قد ظهرت، لا يعرفها الغرُّ من الناس ولا
النشء من الأحداث، تخفى معانيها على أكثر من يقرؤها.
فلعل الحدث يقع إليه الكتاب لرجل
من أهل هذه المقالات، قد ابتدأ الكتاب بحمد الله والثناء عليه والإطناب في الصلاة على
النبي -صلى الله عليه وسلم-، ثم أتبع ذلك بدقيق كفره وخفي اختراعه وشرِّه، فيظن الحدث
الذي لا علم له، والأعجمي الغُمْر من الناس أن الواضع لذلك الكتاب عالم من العلماء
أو فقيه من الفقهاء، ولعله يعتقد في هذه ما يراه فيها عبدة الأوثان ومن بارز الله ووالى
الشيطان". اهـ
قلت: فهذا ما كان عليه سلف هذه الأمة: التحذير من أهل البدع والأهواء، وكل من
تصدر للكلام في دين الله بغير علم، وهي سنةٌ في الأمة قائمة إلى يوم الدين.
والخلاصة:
إن تسمية أهل السنة بـ"الجامية" أو "المدخلية"(10)
ليست إلا أسلوبًا يستخدمه المبتدعة من قديم لصرف الناس عن الحق الذي عليه أهل السنة،
وتنابزٌ بالألقاب سيسألون عنه يوم القيامة.
هذا فضلاً عن قول "سيد قطب" بوحدة الوجود، وخلق القرآن،
والإلحاد في أسماء الله وصفاته، والقول بما كان عليه الجهمية والمعتزلة في الإيمان،
ومدحه للنصرانية واليهودية والاشتراكية، وزعمه أن دين الإسلام خليط من كل هذا.
فالشيخ "ربيع المدخلي" -رحمه الله-، له أكثر من كتاب كشف
فيه هذا الضلال من كتابات "سيد قطب"، وطالب أخاه "محمد قطب" منذ أكثر من ثلاثين سنة بحذف
هذا الضلال من كتبه، لكن المشبوه رفض.
هذا، والله هو المسؤول أن يرزقنا الهدى المستقيم والدين القويم، وأن يسلمنا
من الهوى والفهم العقيم.
والله وحده هو الهادي والموفق للصواب.
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
جمع وترتيب: أبو صهيب وليد بن سعد
الإثنين 16/شوال/1433هـ
03/سبتمبر/2012
الهامش: ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) :الخارجي سفر الحوالي.
(2): شرح أصول الاعتقاد للالكائي، حديث: 285.
(3): وقد توفي الشيخ "ربيع بن هادي المدخلي" -رحمه الله- يوم الأربعاء
14 محرم 1447هـ، الموافق 9 يوليو 2025م، بعد هذا المقال بنحو ثلاثة عشر عامًا، غفر
الله له وأسكنه فسيح جناته.
(4): سبحان الله!، يمدحه العلماء بما يذمه به أهل البدعة، فتأمل!.
(5): في كتابه المؤرخ 3/3/1418هـ.
(6): من شريط بعنوان "الموازنات" برقم (86) من تسجيلات طيبة بالمدينة
النبوية، وانظر مدارك النظر ص/293 ط. التاسعة.
(7): من شريط توضيح البيان؛ وانظر المدارك ص/377.
(8): إعلام الموقعين عن رب العالمين (4 / 167)، ط / الكتب العلمية.
(9): في الشرح والإبانة، ص/348.
(10): وكذلك تسميتهم:"رسلانية"! نسبة للشيخ المحدث محمد سعيد رسلان -حفظه الله- ، أو ما سيحدثوه بعدُ.
أحسن الله إليكم
ردحذفجزاكم الله خيراً، وبارك الله فيكم
ردحذف