حسم الجدال في رؤية الهلال
الحمد لله وحده ، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده ، وبعد :
فقد أعتاد المسلمون على استقبال شهر رمضان بخلافٍ وجدالٍ ، وعلى توديع شهر رمضان بخلافٍ وجدالٍ يقع فيما بينهم ، فأما الخلاف الأول فهو مسألة " رؤية الهلال " ، والخلاف الثاني في مسألة " هيئة خروج زكاة الفطر " .
فقد أعتاد المسلمون على استقبال شهر رمضان بخلافٍ وجدالٍ ، وعلى توديع شهر رمضان بخلافٍ وجدالٍ يقع فيما بينهم ، فأما الخلاف الأول فهو مسألة " رؤية الهلال " ، والخلاف الثاني في مسألة " هيئة خروج زكاة الفطر " .
وبما أننا على مشارف استقبال الشهر الكريم ، فنتعرض للخلاف الأول وهو مسألة " رؤية الهلال " .
ولعل أصل الخلاف في هذه المسألة نابع من أن الشارع علق أمر الصيام على الرؤية ، فقد قال
عز وجل : { فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } [ البقرة 185 ] ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : (( صوموا لرؤيته ، وافطروا لرؤيته ... )) [ متفق على صحته ] ؛ وقد أجمع المسلمون على أنه لا يُبدأ الصيام إلا بعد رؤية الهلال ؛ ولكن الخلاف في إذا اختلفت المطالع .
فهل إذا ظهر الهلال في بلد وجب على جميع المسلمين الصيام ، أم أن لكل بلد رؤيتها الخاصة ؟!
ومع أن الله ـ تعالى ـ منَّ علينا بحديث عند مسلم في صحيحه هو عمدة في هذه المسألة ، ولكن الخلاف مازال قائماً ، وفيه : (( أن أم الفضل بنت الحارث بعثت كريباً ـ وكان مولاً لها ـ إلى معاوية بالشام . قال : فقدمت الشام . فقضيت حاجتها . واستهل على رمضان وأنا بالشام . فرأيت الهلال ليلة الجمعة . ثم قدمت المدينة في آخر الشهر . فسألني عبد الله بن عباس ـ رضي الله عنهما . ثم ذكر الهلال فقال : متى رأيتم الهلال ؟ فقلت : رأيناه ليلة الجمعة . فقال : أنت رأيته ؟ فقلت : نعم . ورآه الناس . وصاموا وصام معاوية . فقال : لكنا رأيناه ليلة السبت . فلا نزال نصوم حتى نكمل ثلاثين . أو نراه ـ يعني : هلال شوال ـ . فقلت : أولا تكتفي برؤية معاوية وصيامه ؟ فقال : لا . هكذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ... ) [ رواه الجماعة إلا البخاري وابن ماجة ] .
وأم الفضل بنت الحارث هي امرأة العباس ، وأخت ميمونة أم المؤمنين ـ رضي الله عنهم ـ [ شرح سنن ابي داود – العباد 13 /29 ] .
قال الإمام الترمذي : حديث ابن عباسٍ حديثٌ حسنٌ صحيح غريب ، والعمل على هذا الحديث عند أهل العلم أن لكل أهل بلدٍ رؤيتهم .
وقال الإمام " الطحاوي " في ( مُشكل الآثار ) بعد أن أورد الحديث : (( ففي هذا الحديث عن ابن عباس أنه لم يكتف برؤية أهل بلدٍ غير بلده الذي كان به ، وإخباره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرهم بذلك )) .
وقال " ابن عبد البر " في ( التمهيد ) ( 14 /356 ) : (( أختلف العلماء في الحكم إذا رأى الهلال أهل بلد دون غيره من البلدان ، فروى عن ابن عباسٍ ، وعكرمة ، والقاسم بن محمد ، وسالم بن عبد الله بن عمر ، أنهم قالوا : لكل أهل بلدٍ رؤيتهم ، وبه قال إسحاق بن راهويه ، وحُجة من قال هذا القول ما حدثناهُ ... ( وذكر حديث كريب ) ، ثم قال : وفيه قول آخر روى عن :" الليث بن سعد ، والشافعي ، وأحمد بن حنبل " ، قالوا : إذا ثبت عند الناس ان أهل بلدٍ رأوه فعليهم قضاء ما أفطروا ، وهو قول مالك فيما روى لابن القاسم ، وقد روى عن مالك ، وهو مذهب المدنيين من أصحابه أن الرؤية لا تلزم غير البلد التي حصلت فيه إلا أن يحمل الإمام على ذلك ، وأما مع اختلاف الكلمة فلا إلا في البلد بعينه ، قال أبو عمر ( يعني : ابن عبد البر ) : إلى القول الأول أذهب لأن فيه أثرا مرفوعاً ، وهو حديث حسن تلزم به الحجة ، وهو قول صاحب كبير لا مخالف له من الصحابة ، وقول طائفة من فقهاء التابعين ، ومع هذا فإن النظر يدل عليه عندي ، لأن الناس لا يُكلفون علم ما غاب عنهم في غير بلدهم ولو كُلفوا ذلك لضاق عليهم ... ، وقول ابن عباس عندي صحيح في هذا الباب ، والله الموفق للصواب )) . أ هـ
وقد سُئل العلامة ابن عثيمين - رحمه الله – هل يلزم المسلمين جميعاً في كل الدول الصيام برؤيه واحدة ؟
فأجاب : (( أن المسألة أختلف فيها أهل العلم إلى ثلاثة أقوال ( الفريق الأول والثاني ) دليلهم مشترك، وهو قول الله تعالى : { فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } [ البقرة 185 ] ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم : (( إذا رأيتموه فصوموا )) ، فذهب الفريق الأول أن الخطاب عام لجميع المسلمين ، وذهب الفريق الثاني أنه اذا اُختلفت المطالع فلكل مكان رؤيته، وذلك لمن كان في مكان لا يوافق مكان الرائي في مقطع الهلال لم يكن رآه حقيقةً ولا حكماً ، وقالوا : التوقيت الشهري كالتوقيت اليومي، فكما أن البلاد تختلف في الإمساك والإفطار اليومي، فكذلك يجب أن تختلف في الإمساك والإفطار الشهري ، ومن المعلوم أن الاختلاف اليومي له أثره بإتفاق المسلمين .
قال الشيخ : هذا القول كما ترى له قوته بمقتضى اللفظ ، والنظر الصحيح ، والقياس الصحيح أيضاً قياس التوقيت الشهري على التوقيت اليومي .ثم ذكر الرأي الثالث وهو أن لولي الأمر إن رأى وجوب الصوم صام الناس )) . [انظر الشرح الممتع [ 3 /13 وما بعدها ط دار العقيدة ].
وهذا ما ذهب إليه الشيخ الألباني - عليه الرحمة – مع أنه رجح القول الأول الذي يقول أن الخطاب عام لجميع المسلمين ، إلا أنه يرى أن يعمل المسلمون الآن بالرأي الثاني ، وهو : أن لكل بلدٍ رؤيته منعاً لوقوع الخلاف والفرقة ، حتى يأذن الله باتفاق كلمة المسلمين على إمام واحد ))[ انظر تمام المنة للألباني : 398 ].
وهو قرار اللجنة الدائمة بالمملكة ، وهيئة كبار العلماء رقم (10 /135 شاملة )
قالوا : (( قد مضى على ظهور هذا الدين أربعة عشر قرنا، لا نعلم منها فترة جرى فيها توحيد الأمة الإسلامية على رؤية واحدة؛ فإن أعضاء مجلس هيئة كبار العلماء يرون بقاء الأمر على ما كان عليه، وعدم إثارة هذا الموضوع، وأن يكون لكل دولة إسلامية حق اختيار ما تراه بواسطة علمائها من الرأيين المشار إليهما في المسألة، إذ لكل منهما أدلته ومستنداته ) أهـ .
فضلاً عن أن هذا ما فهمه علماء السنة من رواة الحديث :
فقد بوب الإمام مسلم لحديث كريب ( باب بيان أن لكل بلدٍ رؤيتهم ) .
فأجاب : (( أن المسألة أختلف فيها أهل العلم إلى ثلاثة أقوال ( الفريق الأول والثاني ) دليلهم مشترك، وهو قول الله تعالى : { فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } [ البقرة 185 ] ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم : (( إذا رأيتموه فصوموا )) ، فذهب الفريق الأول أن الخطاب عام لجميع المسلمين ، وذهب الفريق الثاني أنه اذا اُختلفت المطالع فلكل مكان رؤيته، وذلك لمن كان في مكان لا يوافق مكان الرائي في مقطع الهلال لم يكن رآه حقيقةً ولا حكماً ، وقالوا : التوقيت الشهري كالتوقيت اليومي، فكما أن البلاد تختلف في الإمساك والإفطار اليومي، فكذلك يجب أن تختلف في الإمساك والإفطار الشهري ، ومن المعلوم أن الاختلاف اليومي له أثره بإتفاق المسلمين .
قال الشيخ : هذا القول كما ترى له قوته بمقتضى اللفظ ، والنظر الصحيح ، والقياس الصحيح أيضاً قياس التوقيت الشهري على التوقيت اليومي .ثم ذكر الرأي الثالث وهو أن لولي الأمر إن رأى وجوب الصوم صام الناس )) . [انظر الشرح الممتع [ 3 /13 وما بعدها ط دار العقيدة ].
وهذا ما ذهب إليه الشيخ الألباني - عليه الرحمة – مع أنه رجح القول الأول الذي يقول أن الخطاب عام لجميع المسلمين ، إلا أنه يرى أن يعمل المسلمون الآن بالرأي الثاني ، وهو : أن لكل بلدٍ رؤيته منعاً لوقوع الخلاف والفرقة ، حتى يأذن الله باتفاق كلمة المسلمين على إمام واحد ))[ انظر تمام المنة للألباني : 398 ].
وهو قرار اللجنة الدائمة بالمملكة ، وهيئة كبار العلماء رقم (10 /135 شاملة )
قالوا : (( قد مضى على ظهور هذا الدين أربعة عشر قرنا، لا نعلم منها فترة جرى فيها توحيد الأمة الإسلامية على رؤية واحدة؛ فإن أعضاء مجلس هيئة كبار العلماء يرون بقاء الأمر على ما كان عليه، وعدم إثارة هذا الموضوع، وأن يكون لكل دولة إسلامية حق اختيار ما تراه بواسطة علمائها من الرأيين المشار إليهما في المسألة، إذ لكل منهما أدلته ومستنداته ) أهـ .
فضلاً عن أن هذا ما فهمه علماء السنة من رواة الحديث :
فقد بوب الإمام مسلم لحديث كريب ( باب بيان أن لكل بلدٍ رؤيتهم ) .
وبوب الإمام الترمذي لنفس الحديث ( باب ما جاء أن لكل أهل بلد رؤيتهم ) .
و بوب الإمام ابن خزيمة ( باب الدليل على أن الواجب على أهل بلدةٍ لرؤيتهم لا رؤية غيرهم ) .
وقد حكى ابن المنذر هذا القول عن عبد القاسم بن محمد ، وسالم بن عبد الله بن عمر ، كذلك عكرمة مولى ابن عباس وجماعة .
قلت : حتى أن المسألة يبدوا أنها لم يكن فيها خلاف قديماً، فإن الإمام الترمذي قال : (( والعمل على هذا الحديث عند أهل العلم ، ولم يحكي غيره )) ، وحكى ابن عبد البر الإجماع عليه في ( الاستذكار ) ! . ثم ياتي بعد ذلك من يهمش و يرد كلام حبر الأمة ، وتُرجمان القرآن " ابن عباس " ـ رضى الله عنهما ـ بدعوى أنه اجتهاد منه !، وأن اجتهاده غير مُلزم ، ويرد كذلك ما ذهب إليه السلف كـ "عكرمة ، والقاسم بن محمد ، ..".
ثم يُنصب من شئت من الفقهاء ويدعي أن فتواهم مُلزمة مع أن آرائهم مجردة من الدليل ، وهي لا تتعدى الشُبه ، كما قال " أبو الحسن المباركفوري " في ( مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح ) ( 6 /428 ) قال : (( وعندي كلام الشوكاني مبني علي التحامل يرده ظاهر سياق الحديث )). أهـ
وأعظم حججهم أنهم قالوا : لو سلمنا باختلاف المطالع ، لقلنا أنه سيكون هناك لأهل الإسلام عيدان ( فطر وأضحى ) ، مع أن من تأمل فقط حديث ابن عباس رضى الله عنهما يعلم أن أهل المدينة كانوا على خلافٍ في الصيام مع أهل الشام ، وهذا يتضمن بديهياً أنهم سيختلفون أيضاً في يوم عيد الفطر ، ومع ذلك أصر ابن عباس ـ رضى الله عنهما ـ على رأيه موضحاً أن هذا ما أمر به الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ .
ويتبقى على من يُعاند في هذه المسألة ، ويدعى أن قول ابن عباس غير مُلزم ، أن يوضح لنا ما حكم من صام مع غير أهل بلده بيوم فيكون بذلك صام يوم الشك في بلده ؟
وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن صيام يوم الشك !
وأيضاً ما حُكم صلاة العيد لمن أفطر مع غير أهل بلده ؟
ومعلوم أن صلاة العيد فرض لا تؤخر عن وقتها ، وهذا اليوم يكون المتمم لرمضان في بلده !
و أيضا ما حكم من أخرج زكاة الفطر بعد أن صلى أهل البلد الأخرى العيد ؟
والنبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن من أخرجها بعد الصلاة فهي صدقة وليست بزكاة !
إلى غير ذلك من الإشكاليات .
وأما من خالف اجتهاده هذا، فليصم في السر ويفطر في السر، ولا يفتن الناس، ويتذكر قول السلف (( إن ما تكرهون في الجماعة ، خير مما تحبون في الفرقة )) .
نسأل الله عز وجل أن يفهمنا حقيقة الدين ، وأن يرنا الحق حقاً ويرزقنا إتباعه ، ويرنا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه
وصلى الله على محمد على وآله وصحبه وسلم .
وكتب
أبو صهيب وليد بن سعد
القاهرة 22 / 7 / 2011
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق